نصوص أدبية

دموع الحر / المصطفى عبدالدائم

تجمدت أمكنة في الرأس وتدحرجت بضع قطرات باردة جاوزت عنقي واندست تحت القميص مداعبة شعيرات الصدر .

خارج الغرفة المسقوفة بالقصدير كانت الحرارة لا تطاق ، قصدت المرحاض حافي القدمين ،قفزت مذعورا كأني أمشي على الجمر . أخفت حليمة ابتسامة قلما رسمتها على شفتيها وقالت ناهرة:

انت نجيت طلع نعايلك يحرق الما هو بوك  

عدت إلى ركن الغرفة زاحفا ، جلست قرب النافدة الصغيرة النابتة أسفل الجدار طلبا لنسمة عليلة . رفعت ستارا صغيرا أحمر اللون ، وكأن الصحراء كانت خلف الجدار تنتظر إشارتي لتنفخ في وجهي عاصفتها الرملية الخانقة .

ضاعت معالم الغرفة وسبحت وسط سحابة اختلفت ألوانها بين صفرة وحمرة تخطف الأبصار. مددت يدا مرتعشة تائهة تحاول بعد فوات الأوان أن تغلق النافدة.

كإسفنجة مبللة امتصت كل الأتربة التقطتني ، أخذتني إلى تلك الخيمة النائمة فوق رماح الوجع ، طلبت مني أن أتطهر بعرق السنين من هدا الزمن الموبوء ...

سألني سعيد كيف أضعت لساني ؟ أجبته يوم خيروني وأنا بعد صبيا بين حبة تمر وجمرة ..واخترت الجمرة فلحست لساني . جوابي لم يعجبه كثيرا واستغرب كيف لم أختر حبة التمر. تعجبت من سؤاله وقلت له فقط داك ما عن لي لحظتها .

ذابت قطع الثلج ، انتفخ الكيس البلاستيكي ، فيه أحدثت ثقبا ورفعته فوق مستوى الرأس وتركت الماء البارد يندلق فوقه . ابتليت باقي أوصالي ببرودة منعشة . رفعت رأسي تهاوت بضع قطرات علقت بشعري ، اندست بسرعة بين القميص وجلدي ، ثم هبت ريح امتصت كل شيء ، ولم تترك خلفها غير سوى جسد يكتوي باللهيب ، ويتفصد عرقا.

عبدالله ينظر إلي بعينيه الواسعتين الشغوفتين ، فوق هدا الصفيح الساخن يحبو الآن ، وغدا يلهو ويلعب تماما كباقي ألأطفال الدين قدر لهم أن يولدوا هنا .

حليمة التي عجنتها سنوات الحرب لا تعرف الشكوى ولا التدمر ، على شفتيها تقمع شبح ابتسامة ربما أجلتها ليوم موعود .

الشاي هو السلاح الفتاك بالعطش ، تجلس حليمة أمام مائدة الشاي .. الكؤوس ترسم نصف دائرة ، تضع على الجمر براد الشاي وتوزع علينا نظراتها المشجعة ن وكأنها تقول لنا :

لا بأس تحملوا قليلا .

مرت دقائق معدودات ونحن في حضرة صمت لذيذ ننطقه إشارات وابتسامات وحركات تزيح عن الجبين عرقا دافئا .. ثم فجأة كأنه حلم سمعت نقرا على القصدير.. نعم كان نقرا حادا على القصدير ولم أكن متوهما .. يا رحمة الله هو الغيث قلت بفرح طفولي قبل أن توقفني حليمة بصوتها الرزين:

لا ليس غيثا هي فقط دموع الحر.. دموع الحر .. دموع الحر

                        

بومرداس 15 يوليوز 2012

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2199 الاثنين 6/ 08 / 2012)

في نصوص اليوم