نصوص أدبية

هولير وظلُّـها البعيد / عبد الستار نورعلي

 

 

شـُمَّ ريحَ الهواءِ وعبقَ الترابِ

وجسدَ الماء,

ودخانَ الديار,

حين تمتطي صهوةَ الرغباتِ أن تلتقي بها ..!

وارتقبْ خفقة اليقظةِ في أزقتها الطينِ والسعير,

وتناوبْ مع البرقِ وجهها,

فالمسافاتُ بينكَ وبين عينيها قمرٌ واحدٌ من سماءِ كاوا ضلَّ دربَـهُ,*

عندما حاولَ الهبوطَ على قمةِ القلعةِ

ليلةَ اسودّتِ الأرضُ بمَنْ عليها, وما في باطن الجذور من روحها,

فاستشاطت الأشجارُ

وضجّتِ الأنهارُ

والسنابكُ تشابكتْ فوق جبينها .

 

الخيولُ الغوازي تمرق من جيب صلاح الدين,

مُـهرُه ليس من سـنا الأرض,

ولا من شرارة فأس الحدادِ ساعةَ اعتلى الجبلَ مشعلاً نارهُ في الحصنِ

مقتفياً أثر ميديا وأخوةِ البرقِ من بقايا رستمي زال*

 

العشبُ في الوديان تتمايلُ لاهثة خلفَ سباق العاصفةِ

وأنتَ تجيلُ طرفكَ في الحنايا

علَّ النبضاتِ تلقي رحالها وسط الصوتِ

اللغةُ رحلة الموداتِ يومَ التقى الجمعُ فوق بساطِ الطيوفِ والأحلامِ,

يرتوي من حكايةِ ابن الأرض ِ والجبالِ التي تسابقُ موجةَ البحر كي تصلَ اليك,

وأنتَ هناك على الخارطةِ الأخرى,

أنتَ يا منْ تسكنُ أزقة القهر في معابدِ المدنِ الملح,

تنتظرُ اللقاءَ,

فتـُسدُ الأبوابُ, وتنتصبُ الأسوارُ العازلةُ

لكنَّـك تمرقُ من خلل الثقوبِ في الفضاءِ

وتلقي زرابيك هناكَ,

تنتعلُ العيونَ والأناملَ,

كي ترضى عنك المواعيدُ, والسجلاتُ, وحرسُ الحدودِ

 

أيتها الأرضُ البكرُ,

أيتها اللغةُ الأمُ,

هل في جملةِ الفعل والفاعل والمفعول به والحركاتِ جوابٌ شافٍ

عن سؤال ظلَّ يراوده ؟

هل من مكانٍ للولدِ الشاطرِ الوفي المجاهدِ الصامدِ المتعبِ من كثرةِ التسفيرِ والتهجيرِ والمهاجرِ والمغاربِ والمشارقِ أن يلقي جسدهُ على سريره ليرتاحَ رأسُه من صرير القضبان وأقفالِ السجانِ ؟

منذ أزلٍ وأنتِ تديرين ظهرَ القوافي وأساريرَ الكلام,

الأغاني مترعاتٌ بالدخانِ واللهيبِ,

والجديلةُ تتأرجحُ ......

بين لحنِ الترابِ وموسيقى الظلِّ

وصوتِ نسرين شيرواني وشمال صائب, وصداح الرزازي وشجن مرزية*

 

هذه الكأسُ المليئة بالعتابِ والكلامِ المؤرِّقِ

تدورُ علينا خمرة ً من رائحة الخبزِ على ضفة الزابِ,

وسفح جبل سفينَ, وخمرة شقلاوةَ, ومخيمات المهجرين والمرحلين,*

وبقايا أنفال تلك الأيام التي ملأت جوفنا قيحاً وسماءنا دخاناً أبيضَ مثل الطحينِ,

لكنه لم يكنُ مثلَ طحين قلبه؟

 

السماءُ ملبدة بأوراق ربيع هوليرَ,

فلماذا تنثرين على رأس الولدِ الشاطر ورقَ الخريفِ ونثارَ ثلجِ الشتاء ..؟

 

الأشجارُ تتراقصُ عند ضفةِ النهر في روحهِ,

وتقتاتُ بذرةَ العشقِ من بحيرةِ العطر في دمهِ ممزوجةً بشظايا الجراح .

القمحُ الذهبي في الحقولِ حصادُ الموجة التي اضطربت في فؤاده,

والتقت شاطئ اليدين,

القدمان خيلٌ في سباق الالتقاء على سنابلها

 

ليس وجهك فضاءاً من أسارير الشمس,

ايها الملقي برأسك في حضنها دون رأسهِ !

ليس وجهه من بقايا المغول وهم يدكون حاضرةَ العرسِ في هوليرَ,

أو من سرايا الجحوشِ,

وجهه من الموجةِ التي شربتْ جذرها,

واستقرتْ على جبل  الجودي في أحضانِ السليمانية وكلار وحلبجةَ وقلعة دزه .

الكهفُ يقرأ تخطيطاتِ أطفاله فوق جدرانهِ تأريخاً من خيال العيون والأصابع والقلبِ

والشبابِ الغضِّ في المقابرِ الجماعيةِ ...

 

أيتها البلادُ التي أرّخَتْ للمسيرةِ منذُ أيامِ زينفونَ وسهامِ الصخر والقلاع,*

موجةُ المسراتِ  تغلقُ النافذةَ

في وجهِ  بيته عندما يطلُ على الصالةِ

كي يشاركَ في رقصةِ النهارِ وحصادِ القمحِ والنُضارِ والعسل المصفّى ...

الكتبُ المشبعة بكلام الروايات تروي أنه منكِ واليكِ

فلماذا ليسَ منك, وليس اليكِ إلا في المحطاتِ الفضائيةِ وعلى أثيرِ الكلام,

وفوق موائد البحثِ عن الصوتِ وورقٍ يملأه بالمديح ..؟

 

هوليرُ,

على دربكِ مرّتِ العواصفُ

واجتاحتِ البيوتَ والأشجارَ,

واقتلعتِ الزرعَ والضرعَ, وخلقَ الله على الأرضِ,

ومرّتِ الأعاصيرُ على بيته لتحرقَ الوجهَ والابنَ والبنتَ وروحَ الله في الأرض !

هكذا مواعيدُ الزمانِ والمكانِ والأرض التي عمَّها الخَلقُ بالحريق .....

وأنتِ ابنةُ الموعودِ في الكونِ والرياح والحلمِ واللهيب

تمرين برأسه صورةً ينتظرها

أن تؤطرَ بيتهُ بالزهورِ من حدائق جنةِ الأرض

يركض في ظلّها دون أن يتعبَ

من المسافةِ بينَ عينيهِ والأفق ......

 

هذه الخيولُ المطهمةُ بالعشقِ

لجامها وجهُ هوليرَ والحباري,

وحماماتُ السلام حين تحطُ فوق هديلها لتلقي علينا غصنَ زيتون السفينة

بعد طوفانِ أهلها بين سيفِ الخليفةِ

ودخانِ الكيمياء ...

 

فهل تلتقي اللغةُ الأمُ باللغةِ الأم

كي يستقر الكلام ..؟

 

 

عبد الستار نورعلي

 الأحد 25 حزيران 2006 

 

 

* هولير: هي الاسم الكردي لمدينة أربيل عاصمة كردستان العراق.

 * كاوا: هو كاوا الحداد الثائر الكردي في الروايات التاريخية والشعبية الاسطورية. هو الذي قاد الجموع في ثورة على الملك الجائر (الضحاك) وفي الكردية (ازدهاك) أو (زهاق). وكان قصره فوق جبل وقد أشعلوا النيران فيه ايذاناً بيوم جديد. ولذا سمي ذاك اليوم بـ ( عيد نوروز) ونوروز بالكردية معناها (اليوم الجديد) ويقع في الحادي والعشرين من آذار, وهو العيد الوطني للكرد في كل مكان من الأرض, تقاد فيه النيران على قمم الجبال في أنحاء كوردستان.

* رستمي زال: هو أحد الأبطال الأسطوريين في الحكايات الكردية, ذو قوة خارقة.

* نسرين شيرواني وصائب شمال وناصر الرزازي ومرزية فريقي: مغنون ومغنيات كرد.

* جبل سفين: يقع في محافظة أربيل في العراق, وهو يحتضن على سفحه مدينة شقلاوة الشهيرة بخمرتها, والأشهر بالسياحة.

* زينفون:( 430-354)  ق.م. قائد ومؤرخ اغريقي شارك مع عشرة آلاف مقاتل مرتزق يوناني الى جانب الملك الفارسي الاخميني كورش في حملته ضد أخيه الملك أردشير وبعد مقتل كورش عاد المقاتلون الأغريق بقيادة زينفون الى بلادهم عبر أرض الكرد التي أشار اليها باسم (بلاد الكاردوخي) وعبر مضيق مدينة زاخو حيث تصدى له المقاتلون الكرد بعنفوان وبأس شديدين. أصدر كتاباً ذكر فيه رحلته. وقد وصف زينفون الكردوخيين بانهم قوم محاربون اشداء يعيشون في الجبال و لايطيعون الملك ولهم خبرات جيدة باستعمال القوس و المقلاع, و عندما كانوا يسيطرون على موضع ما يدحرجون الصخور على اعدائهم, و كانوا ينشدون عند الهجمات الاغاني الحربية السريعة.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة, ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2205   الجمعة  17/ 08 / 2012)

في نصوص اليوم