نصوص أدبية

بابا حمورابي / زيد الحمداني

بالتاكيد لم يكن ذلك الاختلاج مصحوبا بتدفقات مائعة, الا انه شكل الخارطة النفسية لما تلاه من سنوات عمري وصولا الى زمن كتابة هذه السطور. فصرت بذلك مثالا ملموسا لمقولة حفظناها منذ عهود الصبا: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر. حيث ان تجاربي الحسية في الصغر نقشت مشاعري المنوطة ببنات حواء في الكبر. ولربما لا سبيل لمحو النقش المذكور حتى يسترد صاحب الأمانة أمانته.

من أوائل تلك التجارب, ان لم تكن اولها على الاطلاق, هي تجربتي مع من لا تسعفني ذاكرتي المكتظة بالاشخاص الذين مروا في حياتي على استحضار اسمها الان. الا اني احسبه يرتع  في حظيرة الاسماء التالية: منى او نهى او مها اوووو.... بصراحة, لا استطيع الجزم باسم معين. الا ان الالف, مقصورة كانت ام ممدودة, هي ما يميزذلك الاسم دون ادنى شك.

 تجلس الانسة الف -وهو اسمها المختصر في مخيلتي- امامي تماما على احد المقاعد الخشبية التي كنا نسميها رحلات. ومفردها رحلة, بفتح الراء لا كسرها. اعتدت وانا قابع في رحلتي على التجوال في مناطق مكشوفة من تضاريسها الطفولية كلما سنحت لي فرصة الانصراف الذهني عن الدرس. فبياض قدمها المشوب بلون زهري مدهش كان ينافس بياض الصندل الذي ترتديه, وسلاسة الانحناء من الكعب الى باطن القدم تنبأ عن نعومة مفرطة وليونة مبهرة كانت تجبرني -دون ان اعرف دوافعي في حينها- على تأملها مليا,  فكنت بذلك من كبار المعجبين باطراف الآنسة الف, هذا ان لم اكن المعجب الوحيد, لان تلك السن الفتية - يومها لم اتجاوز العاشرة من عمري- لم تكن تسمح للسواد الاعظم من اقراني باستنكاه افاق الرغبة الجسدية اللامتناهية. او بعبارة اشد صدقا, لم تكن تسمح بالوقوع في مخالب مرض جميل لايهلك من يصيبه حتى وان ازدادت حالة المصاب سوء.

في احد الايام, و بينما انا سادر في لعبتي وماخوذ بتاملاتي ومنقطع عن سماع الاصوات من حولي, وكاني ارتاد روضة من رياض الفردوس لا يطأها سوانا -انا وملاكي الشاخص امامي-, التفتت الي الانسة الف التفاتة خاطفة اخرجتني فيها من جنتي المتخيلة.

ابصرت علامات غضب واستياء على وجهها المحمر وعينيها المتسعتين. "اضنها لمحتني وانا متلبس بالتلصص. يبدو ان اللعبة انتهت." قلت في نفسي وكان قد انعقد  لساني حتى عن سـؤالها عن سبب تلك الالتفاتة وصرت اتخيل ما يمكن ان تحمله لي الدقائق القادمة من فضيحة مجلجلة امام جميع افراد شعبتي الدراسية, ولربما باقي الشعب, وقد يصل الأمر الى أهلي, وتلك لعمري القشة التي ستفقأ عيني الوقحتين!

لم تطل فترة انتظاري الحرج سوى ثوان معدودة, حيث دنت مني وصار فمها الصغير قاب قوسين او ادنى من صفحة خدي الايمن, شعرت حينها بحرارة انفاسها تلفح صفحة وجهي المحمر خجلا والمرتعش خوفا. لربما تكون الفتاة قد شغفتني حبا وتود تقبيلي على رؤوس الاشهاد؟! وقد تكون غاضبة مني وتود ان تقضم انفي الطويل انتقاما من نظراتي الآثمة؟!

الا انها لم تقبلني ولم تقضم ارنبة انفي,  بل همست في اذني قائلة:

"والله انقتلنا بكل هذه الدروس البيتية والامتحانات اليومية. الله يلعنك يا حمورابي"

"اوووووف.. حمدا لله لانها لم تفطن الى تطفلي البصري على اطرافها. اما حمورابي ذاك, فليذهب الى الجحيم." هكذا فكرت لحظتها.

الا اني وفي طريق عودتي الى البيت راودني فضول معرفة من يكون ذلك الرجل البغيض الذي ازعج الانسة الف. لعله مدير مدرستنا الجديد, او احد اقاربها الذين يعطيها دروسا بيتية, من يدري؟!

صادف وصولي الى البيت مع عودة اخي الكبير من مدرسته الثانوية. حيث كان ومازال يكبرني بست سنوات شمسية, ولربما بستين سنة ضوئية من الفطنة والحكمة والذكاء, لذا فلابد ان أجد عنده الجواب الشافي.

-"اخي, من هو حمورابي؟" سالته بجدية غير مصطنعة.

ابتسم ابتسامة فيها شيء من السخرية ثم قال لي:

-" اكو واحد بالدنيا مايعرف حمورابي؟! هذا ابو العراق كله"

-" ابونا كلنا؟ والله؟ زين ليش ما يجي يعيش ويانه بالبيت؟"

-" حبيبي زيودي, روح نام احسنلك."

عظمت حيرتي وتملكني شعور بالريبة من بابا حمورابي. هل هو ابي فعلا؟! وان كان كلام اخي صحيحا فلماذا يحاول ان يتستر على غيابه عن بيتنا؟! ام هو قريب حميم من اقارب الآنسة الف؟! ام ؟! ام ؟! أم؟! سؤالات كثيرة لا املك لها جوابا معقولا.

لكني بعد طول تأمل وعميق تفكير, استولت علي خاطرة غريبة تحولت بمرور الدقائق الى فكرة موثوقة وبعد اقل من ساعة باتت يقينا راسخا في ذهني. فحمورابي هو اب لي وللانسة الف ولكل الطلاب. اي ان لكل ولد صغير اب اسمه حمورابي. والانسة الف كانت تلعن اباها لانه تسبب في دخولها المدرسة. ركنت نفسي الى تلك الخاطرة واطمأن قلبي بها. فحمورابي لم يعد مجهولا البتة.

 

2

في تلك الايام كان يقيم في بيتنا و بصورة شبه دائمة ابن خال لي يدرس معي في نفس المدرسة الابتدائية وفي نفس مرحلتي الدراسية. جلسنا وبعد عودتنا من المدرسة في حديقة دارنا نتشمس وناكل البرتقال. كان الطقس خريفيا بامتياز. حوالي منتصف شهر اكتوبر. صادفت تلك الجلسة عودة ابي من فترة عمله الصباحية. مر بنا ونحن ناكل ونضحك بضجة مثيرة للانتباه. وقف عند عتبة باب المطبخ ثم سالنا:

-" بكره عندكم امتحان؟"

بصراحة لم أكن اعرف من يشي له باخبارنا المدرسية. نظرت اليه بتوجس وقلت له:

-" نعم بابا, بكره عندنا امتحان في مادة  التربية الزراعية."

-" حالكم لا يعكس من عنده امتحان يحتاج الى تحضير جدي. اسمعوا, والله ثم والله, بالليل وبعد ما ارجع من فترة عملي المسائية راح اعمل لكم اختبار عن جودة حفظكم للمادة واذا أخطأ واحد منكم ونسى حتى ولو حرف واحد فراح اعلم جسده بهذه العصا."

وأشار بيده الى عصا نحيفة وطويلة بعض الشئ كانت تستند على جذع نخلة بيتنا الفتية. من الواضح ان التعذيب يبدأ عندنا في مراحل عمرية مبكرة نوعما, حتى اذا صار الانسان شابا وأشتد عوده أصبح جسده قادرا على تحمل كيبلات -أسلاك معدنية غليظة- الكوادر العاملة في دوائر الامن ومراكز الشرطة!

خيم وجوم جلي على وجهي ووجه ابن خالي. كنت افكر في العقوبة المنتظرة واحاول ان اجد حلولا لأزمة توشك ان تقع بعد ساعات قلائل. فكرت بسرعة ثم قلت لابن خالي:

-" شوف عمر, احنه ممكن ندرس ونحفظ الدرس بس من سابع المستحيلات انوا ما نخطأ بحرف واحد. لذلك عندي فكرة راح تنقذنا من العقاب وتبعدنا عنه"

-" قصدك نطلع من بيتكم ونروح لبيت جدنا؟ بس منو يوصلنا الى هناك؟"

-" لا لا, راح نروح ابعد."

-" وين ابعد يعني؟"

-" راح نهرب!"

-" انت مجنون؟!"

-" اسمعني زين وماراح تخسر. هسه راح نترك البيت وناخذ ويانه قنينة مي -ماء بلهجة أهل بغداد- وكيس بيه برتقال ونطلع الى كورنيش الكاظمية -كنا يومها نسكن في منطقة  الهبنة التابعة لمدينة الكاظمية الى الشمال من بغداد- نبقى هناك يوم او يومين الى ان نشوف زورق ياخذنا الى مدينة الموصل وهناك نعيش ونشتغل ولما نكبر نرجع الى بيت اهلنا. بهالحالة راح نخلص من موضوع الدراسة والعذاب الي تسببه النا."

كنت متأثرا للغاية بمغامرات الفتى توم سوير والغاز المغامرين الخمسة واتحرق شوقا لعيش مغامرة واحدة من تلك المغامرات. كانت لدينا احلام لا تتقيد بالجغرافيا ولا ترتعد من مجهول قد تقود اليه. 

ظل عمر ينظر الي بدهشة وانا اشرح خطة الهروب. ثم استولت ملامح ذهول مطبق على تعابير وجهه الضارب الى السمرة, ولما اتممت كلامي مشى الى نهاية الحديقة واتكأ على شجيرة ليمون مثمرة. ظل يفكر بصمت لفترة وجيزة, ثم طفق يحرك راسه بطريقة توحي بالاذعان. لقد ادرك انه لابد مما ليس منه بد!

في الطريق الى الكورنيش كانت الشمس قد انزاحت عن كبد السماء وصار ضوئها خافتا مما اضفى على الجو برودة خفيفة. حين اجتزنا شارعين او ثلاثة توقف عمر فجأة ثم قال لي:

-" اسمع راح اكب قنينة المي بالشارع"

-" هذا عمل مخبول. لك هذا المي نحتاجه بسفرتنا ليش تكبه"

-" ابويه كلما يسافر بالسيارة امي تكب وراه مي, لانه رش المي وراء المسافر يخليه يروح ويرجع بالسلامة. اذا ماكبينا المي هسه احتمال نموت بالطريق!"

في الحقيقة اجتاحني خوف دفين من فكرة موتنا في الطريق التي وسوس لي بها ابن خالي, فوافقته على سكب الماء خلفنا ونحن نمشي. واصلنا المسير ونحن لانملك من الزاد الا كيسا مليئا بالبرتقال واحلاما مأمولة في النجاة من عصا ابي المؤلمة.

 

3

يومها كان دجلة شديد التدفق وضفافه مشبعة بالماء العذب واعماقه تعيش فيها انواع عديدة من الاسماك اللذيذة. جلسنا بالقرب من حافة النهر وفي مكان يتيح لنا رؤية فندق الكاظمية السياحي الذي التهمته نيران مجهولة المصدر في بداية التسعينات من القرن الماضي. كان الفندق البسيط ملاذا حقيقيا لكثير من الأزواج في ليلة دخلتهم المشتهاة. يا خسارة!

بدأنا نلتهم البرتقال ونرمي بالقشور وبقايا اللب غير الممضوغ جيدا داخل النهر. اقترب منا رجل عجوز كان يجلس على كتلة حجرية غامقة اللون ويصطاد بصنارة بدائية, وقال لنا بلهجة هادئة:

-" يا أولاد.. السمك ما ياكل برتقال"

قبلنا النصيحة وصرنا نرمي القشور في كيس البرتقال نفسه. بقينا ناكل حتى اتينا على الكمية كلها. وحين عطشنا ملئنا قنينتنا الفارغة من ماء النهر وشربنا حتى امتلأنا. الماء لم يكن معقما بالطبع. لكن المدهش حقا اننا لم نصب بعدها بوجع في المعدة او غثيان. يقول المعمرون في مدينتي: دجلة نهر حنون لا يـؤذي اهله!

حين دنى المساء اتنابتنا مشاعرغير مريحة وبدأنا نشتاق الى بيتنا الذي هربنا منه قبل ساعات, لذا قلت لابن خالي:

-" عمر.. احنه ماراح نروح للموصل ونرجع لما نكبر مثلما قلتلك بالبيت, الاحسن نبقى هنا الى نهاية الاسبوع  وبعدها نرجع. خطيه -كلمة تقال للتأسي- أهلنا يقلقون علينا" لم اجد اي معارضة من عمر الذي بدا متحرقا للعودة في اقرب وقت.

حين اقتربت الساعة من الثامنة مساء, حل الظلام تماما واصبحت الضفة موحشة ولم نعد نبصر احدا يجلس قريبا من الجرف. اما النهر الذي كان يتدفق بحنان قبل الغروب صار مثيرا للقلق في ليلة غاب عنها القمر. فجأة انتفض عمر من مكانه وصاح:

-" يا ويلي يا ويلي"

انتفضت معه لا شعوريا وركضنا بعيدا عن الضفة ثم قلت له:

-" شنو الي صارلك؟ ليش تصرخ مثل النسوان؟"

-" زيد شفت حية كبيرة تطلع من النهر وجايه علينا تاكلنا!"

-" حية! الحكلي -ساعدني- يابه" صرت اصرخ انا ايضا صراخا اشد من صراخ ابن خالي ناسيا بان الصراخ من عادة "النسوان" كما قلت له قبل بضع ثوان.

في طريق العودة صرنا نسمع اصوات انذارات تطلقها سماعات موضوعة فوق سقوف سيارات النجدة.

-" تتوقع اهلنا بلغوا الشرطة وصاروا يدورون علينا؟" سالني عمر بقلق.

-" والله يمكن." قلت له وانا افكر بعواقب فعلتنا هذه.

حين وصلنا الى احد الشوارع القريبة من بيتنا بدأنا نلحظ حركة غير اعتيادية. فكانت جموع من الناس تموج موجا وتحادث بعضها البعض بسرعة ثم تمضي كل جماعة في اتجاه. العجيب ان قصة اختفائنا صار قضية جميع من في محلتنا بل وحتى المحلات المجاورة. كان الناس يومها في انسجام يحسدون عليه. وصاروا فعلا مثل جسد واحد اذا مرض فيه عضو مرضت لمرضه باقي الاعضاء.

المضحك المبكي ان نفس تلك المحلة الرؤوم  لفظتنا في ليلة حالكة بعد احتلال العراق في العام الفين وثلاثة وذلك حين بات العنف الطائفي يدب في جسدها مثل سرطان مخاتل ينمو ويكبر بصمت ثم في لحظة حاسمة يضرب جميع الاعضاء الحساسة في الجسم.

حين وصلنا الى الشارع الذي فيه بيتنا, صرنا نسمع زغاريد بعض النسوة, واتذكر منظر جارنا كريم الذي يكبرنا باعوام عديدة وهو جالس بقنوط على حافة الرصيف. الا انه حين لمحنا نخطو باستحياء داخل الشارع انتفض مثل عصفورعطشان بلله المطر ثم قال:

-" لك بابا وين كنتوا, والله قلوبنا نار عليكم؟"

لم اعرف ان لكريم قلب يمكن ان يقلق او يتأثر بالاحداث. فذلك الرجل الذي يسكن مع عائلته الكبيرة في بيت ملاصق لبيتنا عاش اهوالا في حرب الثمان سنوات بين العراق وايران. حيث يقال والعهدة على القائل وحده والذي هو كريم نفسه, انه في معركة المحمرة وهي من المعارك المعروفة في الحرب تم اسره من قبل قوات الحرس الثوري الايراني مع مجموعة من الجنود العراقيين.

لسوء الحظ لم يتم اخذ المجموعة الأسيرة الى معسكرات الاسر وذلك بسبب ضراوة المعركة, حيث قرر قائد الفوج الايراني اعدام جميع الأسرى في ساحة القتال. تم صف الجنود على تلة مرتفعة قليلا. كان كريم يقف في نهاية الصف من جهة الشمال, بينما بدأت عملية الاعدام بالرصاص من جهة اليمين, مما اتاح له حسبما حدثني عن تلك الحادثة ان يفكر بطريقة ما للهرب. ولأن هورمون الادرينالين هو الملاذ الأخير لاجسادنا في ساعة المحنة, فقد قرر ان يرمي بنفسه من فوق التلة الى سفحها ومن ثم يركض فارا باتجاه القطعات العراقية, لعله يتمكن من النجاة ان لم تصبه رصاصات القناصة الايرانيين. كان عليه ان يركض مسافة قدرها بحوالي الخمسة كيلومترات كي يصل الى المنطقة الآمنة نسبيا.

"ولأن لامي حضوة علية عند صاحب الأمر ومقدر الأقدار فقد نجحت في امتحان البقاء واستطعت اجتياز ارض كانت تسقط فيها القذائف بغزارة ويخترقها الرصاص من جميع الجهات." هذا بعض مما قاله لي وهو يودعني في الليلة التي تركت فيها العراق في اواخر شهر اغسطس من العام الفين وخمسة.

 

4

بعد عودتنا الى البيت من رحلتنا الغير مكتملة الى كورنيش الكاظمية, دخلت علينا امي في غرفة الضيوف التي كنا نجلس فيها وهي مغتاضة للغاية وتحمل في يدها قطعة خشبية مثلثة الشكل تستخدم في تعليق الملابس داخل خزانات الثياب, واحيانا لها استخدامات اخرى كما سيظهر لاحقا.

 -" ليش هربتوا يا اغبياء يا اولاد ال....." كانت تخاطبنا بصوت ينذر بعقوبة جسدية واقعة لا محالة.

-" والله يا امي كله بسبب بابا حمورابي, كل الاولاد يخافون منه لانه يضربهم بقوة اذا ماكملوا واجباتهم المدرسية"

-" ابن الزفرة -وهي كلمة مأخوذة من قاموس الشتائم التي اعتادت ان تخاطبني بها أمي الحبيبة في لحظات عصيبة كهذه التي احكي لكم عنها, واظنها والله أعلم مشتقة من الزفارة وهي الرائحة المنفرة للسمك والتي تلتصق بالايدي بعد الأكل- منو هذا بابا حمورابي؟"

شرحت لها نظريتي عن بابا حمورابي بالتفصيل الممل, علها تعفو عني, الا ان تلك النظرية لم تجدي نفعا البتة مع ام غاضبة غضبا حقيقيا, لذا تلقيت انا والمسكين ابن خالي بضع ضربات موجعة من علاقة الملابس الخشبية المشار اليها آنفا. وحينما جاءت خالتي وسمعت بالقصة انتابها غضب مماثل وقامت هي الأخرى بضربنا, ونفس الشئ فعلته زوجة خالي -ام عمر-. من الجدير بالذكر ان جميعهن -امي وخالتي وزوجة خالي- استخدمن علاقة الملابس الخشبية المشؤومة ذاتها. تورمت اطرافنا والعلاقة مازلت قابعة في خزانة ثياب الوالدة العزيزة لم يمسسها سوء! 

-" ليتنا لم نهرب واكتفينا بعقوبة ابي. فعصاه النحيفة اخف وطئة من ذلك المثلث الخشبي الصلد."

كان هذا لسان حالنا انا وابن خالي بعد ان توالت علينا العقوبات من اطراف لم تكن في حسباننا. الطريف في الأمر انه حين عاد ابي الى البيت وسمع بقصتنا اطل علينا اطلالة خاطفة حيث كنا نجلس واكتفى بابتسامة خفيفة ثم مضى ولم يقل كلمة واحدة. نمنا بعدها نوما غير هانئ وحلمت بأني اوقد نارا عظيمة في اخدود عميق والقي فيه كل علاقات الملابس الموجودة في هذا العالم!

الى هنا انتهت حكاية ذلك اليوم الغريب الذي صار من النوادر التي تقصها امي على اقاربها وصديقاتها كلما جلسن جلسة نسائية لشرب القهوة وتبادل اخبار الناس.

فقط نسيت ان ابرأ المسكين حمورابي من التهمة -هي تهمة بالمفهوم الذي يتبناه بعض الطلبة- الموجهة اليه. فقد عرفت وبمرور السنين الدراسية اللاحقة ان الطلاب في المدارس العراقية كان يشتمونه ظنا منهم بانه هو اول من اخترع المدارس ولولاه كان الاولاد بمنأى عن المذاكرة والامتحانات. في الحقيقة المدارس اخترعت قبل حمورابي بقرون عديدة, وذلك في حوالي منتصف الالف الثالث قبل الميلاد بواسطة اجدادنا السومريين وفي العصر المسمى بعصر أوروك والذي قامت فيه ممالك سومرية متحضرة كأور واريدو ولجاش. بينما حمواربي عاش في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد اي بعد ذلك العصر بالف عام تقريبا.

لذا فالرجل برئ من (تهمة) اختراع المدارس براءة أبي من ضربنا بالعصا يوم الفرار الى كورنيش الكاظمية. الا ان الاثنين -أبي وحمورابي- يشتركان في مسمى واحد رغم الهوة الزمنية السحيقة التي تفصل بينهما: آباء صالحون!

 

ابوظبي

23/08/2012

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2209   الجمعة  24/ 08 / 2012)

في نصوص اليوم