نصوص أدبية

الرحاب ماء العيون ونار القصور / حامد فاضل

                                  

(1)  ماء العيون

برسالة البَرِ، عاد الطير يحمل بشارة الأرضين إلى صاحب السفينة، حوَّم فوق بيت الحياة، ألقى بشارته، فركعت الكائنات الحية / سجدت / قنتت / لمشيئة الله .. فتحت الغبراء فماً أسطوريا لتبتلع اليّم، ضبت الزرقاء خيام السحاب الثقال، حَمَّلتها على أسْنِمَة الريح، ساقتها الريح إلى حيث أمر من كان عرشه على الماء، مدت الرواسي الصلعاء رقاباً طويلة، راحت أكفها تجس ظهور الوديان المبتلة، حيث ألقت الشمس فوطتها على جسد الأرض المستحمة بالطوفان .. ضاقت سبل الماء بالسفينة، لَمَتْ السفينة أذيال ثيابها البيض، ضَمَّتْ (سبكات) ريش أجنحتها الطوال، وقبل أن تطرف عين، تسلق مؤذن أعلى الصاري، أطل من ذرى هامته، أذن ثلاثاً ليسمعه من كان بمعية نبي السفينة: أيتها الحيوات، انفري فرادى وزرافات، اهبطي بسلام، وازرعي الحياة في رحم العالم السفلي .. هُرِعَتْ الكائنات الحية / الوحوش إلى الغابات / الزواحف نحو الجحور / الطيور إلى الوكنات / الأنعام إلى المراعي / الجن إلى الكهوف / الأنس إلى الأوطان / .. من سفينة النجاة، أو بيت الحياة، خرج البدوي الأول يبحث عن كل يابس أرض، انحسر الماء عنها، فبانت لعين الطير المعلق بين الغبراء والزرقاء .. المستكشف الأول الذي أبصر الجزر وهي تفلق البحار، تبرز كظهور حيتان عظيمة، لتستلقي تحت شمس أسفرت عن وجه مشرق بالحياة، وإذ التقطت عيناه منظر الجزيرة البتول وهي تخرج من غابة الماء متشحة بوشاح الفرات الشمالي، ساحبة أذيال ثوبها الجنوبي المطرز بالخضرة والزرقة والغبرة، من المحيط الهندي إلى البحر العربي، خافية في كمها الغربي أسرار البحر الأحمر، وفي كمها الشرقي مكنون بحر عمان، ولؤلؤ الخليج العربي .. آبَ إلى مطلقه حاملا ً البشارةً، قال: (إني وجدت أميرة الجزر الفارعة، وجدتها مستلقية على محفة الماء، مطروحة تحت قبة السماء، تستر مفاتنها بغلالة نهار دافئ) .. خلف الطير القواف شَدَّ العربي الأول رحاله إلى الجزيرة، تجلت له بقدها / الغريني / الخصب / الفارع / نهضت آخذة ً بزمام ناقته، قالت: (مرحباً بالفتى العربي الأسمر). قال: (مرحبا ً بأميرة الجزر وفاتنة البحار) .. أقترن بها فتشرفت بحمل اسمه، وعُرِفَتْ باسم جزيرة العرب / تمناها اليونانيون على كثرة جزرهم / راودها الرومانيون الشبقون بوطء أراضي الغير / عشقها العبرانيون الموغلون بدهاليز التأريخ / طمع فيها الساسانيون على وفرة خيراتهم / لكنها لم تنكشف إلا لعيون العرب الذين وسموها بسمرتهم، ووشموا ترابها بحوافر خيلهم، وخفوف إبلهم . حتى إذا تجلَّت للقرن الأول الميلادي، رُسِمت خارطتها بيراع السياسة، فعُرفِت / بالعربية السعيدة / العربية الحجرية / العربية الصحراوية / ووفقاً لتقسيم اللاتينيين، فان بادية السماوة، وسِمَتْ بوسم العربية الصحراوية، وخلعت عليها اليونانية خلعة (Arabla Eremos)  فاضطجعت على مطرح الرحاب، غرب الفرات، كاشفةً عن قدها الرملي الفارع لأنظار العربية السعيدة .. لا المؤرخون اليونانيون البارعون بإطلاق الأسماء، ولا الجغرافيون اللاتينيون الآخذين بأطراف عباءتها، حددوها تحديدا دقيقاً ــ قبل أن ترتدي معاطف أغلفة الكتب السميكة التي خاطها المؤرخون وهم يقصدون بها البادية الواسعة الفاصلة بين العراق والشام .. وهي السمراء الفارعة، المتزنرة بزنار الرحاب، تخطر في حكايات العرب وأشعارهم، تلم أذيال ثيابها الشرقية، تدسها في جراب الرمال، خشية أن تدوسها أقدام الفرات العاشق الراكض جنوباً، المتلهف لاحتضان دجلة .. تمشط شعرها الصحراوي بأمشاط الرياح الشمالية، تعطره برائحة البادية، تصبغه بحناء البَرٍ، تتركه يسرح فوق أكتاف رمال الآفاق الغربية، فيضفره ذوا السمرة العرب الأقحاح، ويعشقه / الأباطرة / القياصرة / الأكاسرة / تطوح جدائلها البدوية بأرجوحة الأوضاع السياسية فلا تلامس أكف / الرومانيين / اليونانيين / الساسانيين / أمكنة الأحاسيس من جسدها الصحراوي الفارع ما دامت في منأى من / الرومان / اليونان / الفرس / ولا تداهمها جيوشهم، ولا تطأ أرضها حوافر خيل غير العربية الأصيلة، فلا تضرب في باديتها غير قوافل البدو، تحل وترحل فوق أرض الرحاب بين / السماوة / الحيرة / بحر النجف / حيث البطاح الكلدية التي كانت تشغل مساحة واسعة من جنوب العراق .. وعلى ذمة بطليموس الذي عمدها باسم ( Amardocaea) فإنها تمتد حتى تتصل بخليج (مسينوس) خليج ميسان، الذي كان امتدادا ً للخليج العربي .. حواضرها / الحيرة / الكوفة / الأنبار / عانة / هيت / عين التمر .. أمواهها / ذي قار / السلمان / صفوان / السماوة / تفرش حضنها الرملي سكنا ً للقبائل العربية يوم كانت تتمرأى بمرايا الرحاب، وتخرج على قومها من محراب الصحراء بحلة من حلل الربيع / موشاة بالعشب والزهر / مضمخة بالندى / مترعة بالماء / حبلى بالكمأ / شجراء / درارة / بالخير / الخصب / النماء / قبل أن تخددها مخالب الزمن، و تبلى ثيابها، فتعاقر / الجدب / الجفاف / القحط / .. ولو بُعثَ المقدسي ورآها لأنكرها وهو الذي وصفها / بأجمل / أرق / أعذب / وصف في كتابه أحسن التقاويم في معرفة الأقاليم: (وهي التي تظل في الحالين المصدر القديم لتجديد القومية الصالحة، ومدها بموجات أصلح للحياة عروقا ً وتفكيرا ً من أولئك الذين سمن الخشب منهم، وهزل العصب) هكذا رآها علي الشرقي في تقديمه لكتاب البادية لعبد الجبار الراوي .. / الحداؤون / القوافون / المهتدون بالنجم / الآثاريون / الباحثون / المنقبون / المسترشدون بالخرائط / المسلحون / بالرفوش / المساحي / الأزاميل / الكاشفون أغلفة القرون عن رقم الطين / الممزقون ثياب الدهور عن أجساد الكهنة / الخالعون بالفرش الدقيقة أقنعة السنين عن وجوه الآلهة / القارؤن نصوص الأولين / المترجمون كتب الصلصال / الشارحون / المفسرون / الحكاؤون / قالوا: إن أسماء / الأراضي / الأماكن / المواقع / المدن / الأصقاع / مقرونة باسم الإله الذي كان له سكانها يعبدون . تَسّمتْ باسمه يوم كان عَلَماً، ثم صار لقباً به أهلها يعرفون . فآشور كان إلاهاً، ثم إسماً لقوم، ثم إسماً لمدينة، توَّجها الآشوريون عاصمة لإمبراطوريتهم ، وقالوا: وجدنا بنص قديم أن آشور تعني البادية، وسكانها البدو (آشور ريم) لأنهم يسكنون الخيام . يدقون أوتادها في أراضي الرحاب إلى غرب نهر الفرات حيث تمتد بادية السماوة شاسعة تحت شمس الجنوب . وأيدهم أحمد سوسة في تأريخ حضارة وادي الرافدين .. حكماء بابل الذين ينطقون بالحكمة وهم صامتون، كهانها المثقلون بآهات العالم السفلي، المرتقون معارج الزقورات حاملين النذور إلى العالم العلوي، ملوكها أنصاف ألآله المخلدون بالمسلات، أمراؤها ظل الملوك، قادتها موقدوا نيران المعارك، جنودها حطب الحروب، مغامروها أبطال الأساطير، مصارعوها مقاتلوا الملاعب المستديرة، سحرتها الوارثون لهاروت وماروت، تجارها راكبو متون الرياح شرقاً وغربا، نخاسوها المتاجرون ببني جلدتهم، أصحاب حاناتها المعتقون الخمور في الأقبية، جواريها الخبيرات بليالي المخادع، عبيدها المخصيون الموسومون الساعون كالنمل بين أيد أسيادهم، ندماءها المترعة كؤوسهم بالنبيذ المعتق، مهندسوها العبقريون المخططون، بناة أبراجها المولعون بالارتقاء، جغرافيوها عشاق الخرائط، منقبوها المدججون بالأزاميل .. نعتوا سكان بادية السماوة (بالماتو- أربي) لأنهم سكنوا الرحاب (أورب غرب الفرات) وأن الأمم التي أطلقت عليهم اسم العرب إنما تنطق الغين المعجمة عيناً مهملة . وعلى ذلك يتفق / البابليون / الآشوريون / الساسانيون / الآراميون / وإذ رأى كهنتهم الشمس تنهض من أفقها مبكرة شرق بادية السماوة، لتلقي غلالة ضوء ودفء على الرحاب المضطجعة في خيمة الله المنصوبة بين الأفق، والأفق، على فراش من الرمل المطرز بالعشب والأزاهير، فارعة تنوش ذراعاها تخوم الشام. أطلقوا على شرقها الذي كان مطمح الفرس (بيت عرباية) لتميزه بأرض العرب . فتلقفه المؤرخون اليونانيون المتلهفون إلى المعرفة، ليقرنوه بمصطلح (shraka) شرقو، الذي يعني سكان الصحراء أو أبناء الصحراء. وهي تصحيف – كما يرى معظم الباحثين – لشرقيين أي أبناء الشرق، فعندهم أن (Bene Kadem أو Qadmoni) العبرانيتين هما ترجمتان لكلمة شرقيين (Sarakenoi) ذاتها. وكان العرب يعرفون ذلك في القرون الخالية، فالمسعودي يرى أن الروم يسمون العرب (ساراقينوس) ولأن الخيمة (Skene) هي بيت البدوي، فقد سمت الكتب اليونانية القديمة أعراب السماوة (Skenitae) أي سكان الخيام، الذين أستحضرهم من بطون البادية ومضان التأريخ، أراهم يحلون في مخيلتي في ليل شتوي صاقع، يدخلون صحرائي، ينيخون جمالهم بين كثبان الكتب المكومة في غرفتي ـــ أأدعوهم إلى ما تبقى في (قوري) الشاي؟ الذي ينوس وينفث البخار من منخره، يلهث كقاطرة قديمة على سكة المدفأة .. الليل لملم ما تناثر من دقائقه وغادرني، ولما أنتهي مما لدي من المصادر، والفجر ينفذ نحو مكتبتي من الباب الموارب، وأنا وقد أجهزت على آخر ما لديَ من السجائر، أعيد وربما للمرة الألف القراءة في نصوص الأولين حيث الحكايات تنمو مثل عشب في ربيع البادية .. قدام عيني مصدر يحكي، فيسحرني بما يحكي، فأعتلي صهوة المخيال، تجمح بي، ثم تنقاد لي، وتمضي تخب، فأسمع وقع حوافرها على مكتبي، فهذي هي الشام للروم تابعة، يتناهى لأذني من بين تلك السطور التي تستهل بأن (الخديموس) كان واحداً من رؤساء القبائل العربية المتحكمين في أعالي بادية السماوة، يقول (سترابون) عنه انه من حلفاء الروم، ثم انفض عنهم عابراً ارض العراق اثر اهانة لحقته من حلفائه، فاجتاز غضباناً لنهر في العراق، قال الرواة الواثقون هو الفرات، وكان ذلك قبل ميلاد المسيح بست وأربعين سنة، ليلتجأ إلى (البارثيين)، وجعله (سترابون) ملكاً على قبيلة دعاها باس Rhambael)) وقيل بأنه اسم محرَّف عن تسمية عربية تعني الرحاب، ويقال أن هذه القبيلة كانت من القبائل العربية التي زحفت إلى إطراف بادية الشام واستوطنت .. ورَحْبَتْ في الكتابات الصفوية أسم لموضع يعني الرحبة، وهناك في نص قديم (لحنن بن هعتق) رجل ذُكر أنه (بن ـ أل ـ رحبت) أي مِنْ الرحبة، لان (بن) تعني (مِنْ) كما يقول المختصون بالكتابات القديمة، وبادية السماوة الكائنة غرب الفرات، تتكون في العرف البدوي من خمسة أقسام هي 1- الوديان 2- الحماد 3- الحجرة 4- الدبدبة 5- الرحاب .. والرحاب هي أرض عيون الماء، ومنبت قصور الأمراء ، سيف الصحراء الممشوق من قراب الفرات، قبضته أم قصر، ضبته آلبو كمال، ينوش بنصله قيعان (التنـَّــفْ) َيتنكبه شرق الأردن، يطعن درقة حدود السعودية، وينفذ إلى (الركعي) نقطة التقاء العراق بنجد، ويطوحه الشرقً حتى الكويت خاتمة خط العيون الذي يُسْتَهَلُ بآلبو كمال متاخما ً للبصرة التي يفصلها عن البادية، كما يفصل / الرمادي / كربلاء / النجف / الديوانية / السماوة / الناصرية / بمسافات تتراوح بين (10 ــ 20) كيلومتراً .. وأرض الرحاب هي مهبط الشمس، حين تحلق كل صباح، تجس بكف من النور سطوح القصور، تلقي بأجنحتها على الشرفات، تغسل وجهها بماء العيون، تحتضن / الرمل / العشب / الشجر/ النخيل / تدفئه بأنفاسها، تلحس بلسان الدفء ندى الليل من فوق جلد الخيام، تبث الحياة في البادية، فتحلق في جوها طيور البراري، وتدب على أرضها دواب الحماد، ساعية من النمل حتى الجمال . تشيد من أجلها بيوت العبادة، يحج إليها (القتبانيون) يكنونها (ذات رحبان) وترد في التوراة (آرام بيت رحوب) ولأنها الشمس الإله، تمنح اسم الرحاب إلى مدن مملكة سبأ ومعين .. والرحبة في بادية السماوة، في طفوف الفرات، مدينة قرب الكوفة على طريق النجف ــ الشبكة ، إليها تسير القوافل حذاء (الطار) على نهج من البسط الخضر، مزنرة بزنار المزارع، وهي في معجم الحموي، حذاء القادسية على مرحلة من الكوفة، يسار (الجل) لمن عزم الحج، فاعتلى الذلول وتوكل على الله . وقد خُرِّبتْ لكثرة طرق العرب لها، لأنها بضفة البر وليس بعدها عمارة، كما تهدمت رحبة مالك بن طوق، قبل أن يشيد أحد حكام حمص المدعو شيريكو بن أحمد بن شيركو سنة 1330ملادية رحبة أخرى في (جنبوب) البلدة القديمة على بعد فرسخ من الفرات لتكون محطة للقوافل بين العراق وسوريا وثغرا من ثغور المسلمين .

...................

الرواسي أثداء الماء، يتفجر من حجارتها، يخر سريعاً، يلمع في مرآة الشمس، يهبط كالأنصال، يشق جلود السفوح، يفتت الصخر، يذيب التراب، يلقم أفواه الوديان حلمات الحيوات. ينفذ من كل مسامات الأرضين السبع، وهو النازل بأمر رب السماوات السبع، يزين وجه الأرض بلون الغرين، يكشط السبخ عن جلدها، يترك عند أرومات الشجر هداياه ويمضي سريعاً، فلا سد يلوي ذراعيه، وليس أسرع منه إلا هو، إذا ما جرى حاملاً خرجه، مليئاً بما بث فيه الإله من الكائنات، يُقوم النخيل على جانبيه يُحيه، والريح تعزف، والسعف يرقص، وكل العطاشى من / الأنس / والطير / والوحش / تفرح حين تراه، فقد جاء يحمل رسائله من بريد الشمال إلى آخر برديةٍ في الجنوب، ولكنه كان في ركضه يدوس على كل من في الطريق، ويقتلع كل ضعيف الجذور / فائضاً / طافحاً / يُترع البر، يُغرق كل ما فوقه من الكائنات، فتطفو على سطحه الجثث النافقة، فلا عاصم منه إذا ما غضب، ولا واهب مثله إذا ما وهب .. تناخى الذين بنوا حضاراتهم بين رمل، وماء، رصوا الصفوف، أهالوا الطمى فوق أجرافه، ليوقفوا زحفه نحو أوطانهم، فضم إليه أذرعه، ليصبح نهراً عظيماً، ثم أطلقها نحو متاريسهم، وراح يقضمها ليفتح دربه نحو أسوارهم، لاحساً بألسنة الموج ما أهالوه فوق الضفاف .. فأوجس خيفة منه الذين ظنوا أن حصونهم مانعة الماء عنهم، فجاءوا بكُهانهم يسوقون أجمل ما بأوطانهم من عذارى نذوراً، وحين رأوه هالهم منظر الماء المزبد في النهر قدامهم، والموج يلمع في الشمس مثل السيوف، فأحسوا على خوفهم طمعاً، القوا النذور بين يديه، وأسموه نهر الفرات .. فهّدأ من روعهم، ومدّ إليهم يد السلم إذ جنحوا له، وراح يسحب أطراف ثوبه تاركاً لهم اللقى عند الشواطئ .. مرت قرون وانقضت، أمم توسدت التراب، جاءت قرون بعدها، خُلِقَتْ لها أمم ومن نفس التراب، والنهر ينأى كل عام، ويخلف الأرض اليباب، تتسيد الصحراء فيها، تنشر ثوبها الرملي عاماً بعد عام، تتناسل السبع الشداد، ويغاث فيها البدو آناً، وآناً يعصرون، ونعت ربابة شاعر بدوي ما حل بالصحراء من قحط يشيب له الوليد / لا عشب / لا ماء زلال / لا صيد / لا أثر لطير أو غزال / لا يفقع الكمأ الرمال / .. جفت ذروع الأمهات من النياق، والموت جاء يدق أبواب الخيام، فنوى الجميع على الرحيل بحثاً عن / الفيضات / والخبرات / والحسيان / والجلبان / والماء القراح / .. تقوضت تلك النجوع العامرات، فضبت الأمم الخيام، وحمّلتها فوق أسنمة الجمال، ومضت تسير قوافلاً، تتسقط الأخبار في الصحراء من رمل، لرمل، فلم تجد غير السراب، وكاد يقتلها الظمأ، فتوجهت غبشاً على نهج قديم، لتحل في أرض يقال لها الرحاب، ما بين بادية السماوة والفرات، سقط العطاشى كلهم فوق الرمال، والشمس غرة ذلك الصبح المضيء تراهم، رفعوا إليها أكفهم وتضرعوا: (يا ذات رحبان الكريمة، مدي إلى من يعبدون ضياءك، يدك الرحيمة)  .. ثم راحوا في صلاة وابتهال، دمعت لمرأى بؤسهم عين السماء، رب السماء الباسط اليد للعباد، ألقى سكينته عليهم، شدّ من عضد الرجال الباقرون حجارة الصحراء .. ومثلما إنبجست عيون الماء تحت عصاة موسى، إنبجست عيون الماء تحت عصيهم، وكل من فلقت عصاه حجارة عن عين ماء، عرفت باسمه، فغرب الزبير انبثقت (البرجسية) عَينٌ أفاقت لترفع عنها غطاء الرمال، وفاضت بماء قراح، يغري العطاشى من الكائنات، فتضرب أطنابها في الجوار، وعلى الطريق تجلس (جوبيدة) مابين الناصرية والبصرة تنادي القوافل: هلمّوا إليّ، تعالوا فلا أكلفنكم غير 20كم من الانعطاف عن (الرافعية)، ومن لم يرد فليواصل مسيره حيث (الجليبية) والماء فيها عميق غزير ولكنه مالح، فلا ماء كالذي تدر به أثداء حسيانيّ العذبات .. لنفترض أن قافلة من البدو في القيظ، تضرب ذات نهار يسيح من الصهد، وأفعى الظهيرة تتلمظ، تنفخ النار، تشوي الرمال، والسراب يضحك ملء شدقيه قدامها . وهي ماضية إلى حيث تلك المياه غير العميقة في (ضفيرة نثيل) فلا تقصدن القوافل عيون ماء (الرميلة) إلا اضطراراً، كونه مالح لا تنوش حبال الدلاء قيعانه، ولكنها ترتضي (جليب سعدون) الكائن جنوب غرب (تل اللحم) لغزارة مائه وعذوبته .. سيترك ذلك العازب البدوي إبله لترعى على هداها، أنى تسير شمال شرقي (بصية) تأكل عشب البراري، حتى إذا قطعت 110كم وهدها عطش بضعة أيام، تدافعت نحو مياه (جابدة) الغزيرة، ولكنها سرعان ما تنفر منها لملوحتها، وبسبب مثل هذي الملوحة لم ترد الإبل ماء (الهبارية) بعد ابتعادها عن (بصية) 30كم، وقد فاتها أن ترد عيون ماء (شكرة) العذب حين كانت على بعد 50 كم، أو مياه (خرايج الحيصامة) بعد 75كم ربما بسبب عمق سطحها البالغ 18 باعاً، كما أنها لم ترد ماء (حسيان لكيط) على بعد 100كم، فعمق 35كم يعيق الوصول إليها، فلم يبق للعازب البدوي إلا خيار المسير إلى (الرافعية) على بعد 170 كم شرقي (بصية) حيث تطفأ الإبل نار أكبادها في مياه حسيانها الغزيرة العذبة .. ما الذي تنتظره عيون ( صليبية الفوار) المالحة في مكمنها 30كم غرب (تل اللحم) غير بدوي آثر سهولة الاستسقاء على عذوبة الماء، فحسيانها الأربعين على عمق مترين أو ثلاثة، وكذا حال أختها الصغرى (صليبية الحمير) ذات الحسيان العشرين التي آثرت السكنى على الطريق العام بين، بصية، والناصرية، وتفخر عيون (دافنه) التي اختارت شرق بصية وطناً بحسيانها الغزيرة التي لا تنضب، وتغض (عين سعود) الطرف أمام الرعيان خجلاً من ملوحة حسيانها، بينما تخرج عليهم عين (عسيله) متباهية بماء حسيانها العذب، الذي لا يضاهيه في عذوبته إلا ماء (حسيان الكصير) .. أوروك غرة تأريخ سومر، حيث / ولد / ترعرع / عاش / مات / قاتل وحش غابة الأرز .. كلكامش الذي تدفق من صلب كبير كهنة (كولاب) إلى رحم (ننسون)، لينزلق من بين فخذي البقرة الوحشية على مهد رمل أوروك، فتلقمه حلمات أثداء أمواهها، ليشرب من ماء تلك العيون، التي انبثقت حين نزوله إلى العالم السفلي من بين فخذي أمه الآلهة، عيون كثيرة سهلة الاستسقاء، لكنها لا تتصف بعذوبة نصوص اللملحمة .. عين (حمود) هي ملك (حمود السويط) شيخ الضفير، صيرتها جغرافية البادية بمثابة نقطة دلالة لبقية العيون التي تبعد 30كم عن أطلال قصر (الكصير) و100كم عن وادي بصية، عين جارية لا تنتظر من يأتيها، بل تخرج هي إلى استقباله، فتفيض لتسقي الأرض المزروعة من حولها، وكذلك تفعل عين (مانع) التي تبعد عنها 3كم، وعين (فرحان) التي تقع إلى غربها بمسافة 10كم، وعين (دغيم) التي تقع إلى شمالها بمسافة 20كم، وعين (صبر) إلى الشمال الغربي منها بمسافة 40كم، وعيون (الهيصم) العديدة التي تبعد عنها بمسافة 70كم، وعين (خويسة) إلى انتبذت لها مكاناً غرب عين (حمود) بمسافة 85كم وعين (الدهينة) التي أضافت خمس كيلومترات أخرى، لتوغل في الغرب 90كم .. وقد انتبذت عين (صيد) أو عين (العساف) وهم أرومة من أهالي السماوة مكانا غربياَ عن عين (حمود) بمسافة 40 كم .. لنتخيل قافلة الرحالة البرتغالي بيدرو تيكسيرا، وهي قافلة كبيرة تظم أكثر من ألف وخمسمائة جمل، وخمسة وتسعين حمار، وستين من الرجال المسلحين الأشداء، وقد حطت الرحال في عين صيد بعد سبعة أيام من انطلاقها من البصرة في الثامن من أيلول سنة ألف وستمائة وأربعة للميلاد سالكة الطريق الصحراوي لتمر بالسماوة في طريقها الى النجف. لقد أطلق ذلك الرحالة على عين صيد اسم عين السيد* ويقال أن معاوية بن أبي سفيان كان قد اقتطع هذه العين للإمام الحسن بن علي .. وتقاسمت عيون (الأشعلي)عذوبة الماء وملوحته بعدما انبجست في وادي الأشعلي شمال غرب بصية بمسافة 100كم، وكذلك فعلت عيون (الثويرية) الكامنة جنوب السماوة بمسافة 25كم، وعين (العمودة) التي تبعد مسافة 27كم جنوب السماوة، ثم عين (عميد) التي تبعد بمسافة 26 ــ 30 كم، وعين (سعده) التي تقع إلى الجنوب الغربي من مدينة السماوة بمقدار 23كم، وعين (أبو الجيج) إلى الجنوب الغربي من بحيرة ساوة بمقدار 5 كم بالإضافة إلى عيون الرحاب قبالة مدينة الشنافية مثل عين (المالح)، وعين (جياد)، وعين (الهنيدي)، وعين (العوير) .. وقد حدد (ماسنيون)  عيون الطف ما بين النجف و (القطقطانة)، وهي ساحل البطيحة في معجم ما استعجم للبكري، وقد خلعت عليها المرويات الشفاهية ثياب القداسة، وتلفعت بأردية النصوص التاريخية، فهذا نصر بن مزاحم يروي لنا نقلاً عن أبي سعد التيمي : أن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حين مَرّ بالكوفة وهو في طريقه إلى الشام عطش أصحابه فأتى على صخرة ضرس من الأرض كأنها ربضة عنز فأمر باقتلاعها فتفجر منها الماء .. كم هي / جميلة / مدهشة / رائعة / مبدعة / خلاقة / صحراء الروح المسفوحة تحت سماء المخيال، فيها، ولها، أنأى بالروح، أخلصها من أسوار المدن الحاجبة للآفاق، يقظاً، أترقب كالصقر الحر ، حين تجيء طيور الكتابة، تنقر نافذتي، أفرد جناحي، أحلق خلف أسرابها، عالياً .. عالياً في سماء الرحاب، أطاردها، حتى إذا كلت الأجنحة ، تساقطن كالغيث على مكتبي، فأصطاد منهن أدق العبارات لأسفحها في مرايا الرحاب .. أرى بظهر الكوفة عند أطراف صحراء السماوة عين ماء في منطقة يقال لها (صوأر)، أرى أبا الفرزدق الشاعر، وسحيم بن أثيل ــ رجل من بني رياح ـــ وأسمعهما يتواعدان على عقر مائتين من الإبل، إذا وردت الماء، فلما وردت، أخذا يكسعان عراقيبها بالسيوف، وأرى الناس إذ يهرعون، الممتطين حميرهم، والراكبين على البغال، الكل يطمح أن ينال، من لحم تلك الإبل قبل الآخرين، ثم أرى الإمام علي عليه السلام يسرع راكباً على بغلة رسول الله لينهاهم عن نيل لحومها لأنها أهلت لغير الله .. ولعين (القطارة) التي تبعد عن الشبكة ستة كيلومترات ، قدسية خاصة، وهي حوض بين الصخور، يتفجر منه ماء لا ينضب، ولا يعرف مصدره، فيه شفاء للناس، وقضاء لحوائجهم، تقع على هضبة على شكل مربع فقد ضلعا من أضلاعه الأربعة .. لنعيد صياغة حكاية هذه العين التي ذكرها الشيخ محمد محمدي الاشتهاري في كتابه مصائب آل محمد، ووثقها الباحث محمد عبد الغني إدريس السعيدي في كتابه (ناحية الشبكة بين الماضي والحاضر) .. أحملني يا فرس المخيال الرهوان، خذني إلى زمان الحكاية، فلعلي أبصر هالة نور حفيد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، القاصد أرض (الطف) بقافلة الإيمان، أراه ينزل قدام بيت شعر لرجل نصراني، تخرج لاستقباله امرأة من (شك) البيت، يبهرها نور الرجل الفائض من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وشماله، فتحس كأن الشمس نزلت لتحط على رمل الرحبة قدام البيت، وكأن الصحراء بمن فيها تغرق في سيل من النور، يأتيها صوت الرجل يسأل عن رب البيت، تتلعثم وهي البدوية الفصيحة اللسان، ففي الصوت نبرة لم تكن ألفتها بصوت الرجال، أُلْفَةٌ دخلت قلبها لتسربلها زخة من خشوع، كأن نواقيس كل الكنائس تقرع ، كأنما قد رأت كل رهبان أديرة أرض الرحاب يحجون نحو خيمتها، وكأن المسيح تراه ثانية يصلب قدامها .. تطرق، ورائحة طيب الرجل تملأ صدرها سلاماً وأمناً، فلما اطمأنت وعادت إلى طبيعتها امرأة بدوية تقرأ الضيف، رفعت رأسها وهي مأخوذة بنصاعة وجه سائلها، لتجيبه على استحياء: (هو ابني، وقد ذهب ليستسقي لنا). فيجيب ذي الوجه النوراني: (يا أم وهب، قولي لابنك حين يعود، عليك بتصديق الرؤيا) .. صعقت المرأة ! مَنْ هذا الرجل المعمم بالشمس؟ وأنى له بمعرفة اسم ولدها؟ وحين غادرها انتزع سيفه الذي كان يتكئ عليه من الأرض، فانبجست من تحت ضبته عين لتغمر ما حولها بماء قراح .. حين تلفعت البادية بغلالة الغروب، آبَ وهب إلى أهله حاملاً قرب الماء على جانبي فرسه، فأحس أن المكان الذي قد أتاه عِشاءً، هو غير المكان الذي غادره في الصباح، إنه يسمع صوتاً كصوت المسيح، ويبصر ماء ينبع قدام خيمته، يسيل فيغمر ما حولها بالمياه ليغري القمر الذي رآه يسبح في عين ماء لم تك من قبل موجودة في الجوار، لم تطل دهشة الرجل البدوي، تبددت مثل غيمة صيف حين التقى أمه، فأطرق بعد سماع حكايتها، وراح يفكر في ما جرى، وما قد رآه وما قد يراه .. ثم خاطب أمه قال: (إني رأيت المسيح عيسى بن مريم) سألني: (أتعرفني يا وهب؟) فأجبته: (أنت سيدي عيسى المسيح) فسألني: (أتعرف مَنْ هؤلاء الذين معي؟) فأجبته: (بعدم معرفتي بهم). فقال: (هذا محمد رسول الله، وهذا الإمام علي بن أبي طالب، وهذا الإمام الحسين بن علي) ثم نظر إلي كأنه يروزني، وقال: (اعلم يا وهب أنك من أنصار الحسين في معركة الطف، وأن اسمك مكتوب في هذه الصحيفة مع بقية أنصاره الذين يستشهدون معه، وقد رأيت أسمي مكتوباً في الصحيفة يا أمي) .. في الصباح قوض وهب بيته، وشد رحاله والتحق بالإمام الحسين فاستشهد معه في واقعة الطف يوم العاشر من محرم الحرام سنة 64 هجرية، وهو صاحب الارجوزة المذكورة في المجالس الحسينية:

إن تنكروني فأنا ابن الكلبــي    سوف تروني وترون ضربـي

وحملتي وصولتي في الحرب   أدرك ثأري بعـــد ثأر صـحبي

وأدفــع الكرب بيـــوم الكرب   ليس جهادي في الوغى باللعب

لقد كان طف النجف إحدى مرايا عيون الرحاب (كالقطقطانة) و (الرهمية) وعين (الجمل) وعيون (خندق سابور)، فعن (الرهمية) يخبرنا الحموي: أنها ضيعة قرب الكوفة، وهي عين ماء بعد الخفية لمن قصد الشام من الكوفة، وتطالعنا (الرهمية) في مرآة الشاعر الذي ارتجل أول قصيدة في الحياة وهو ينزل من رحم أمه في رحاب بادية السماوة، يقول المتنبي:

فيالك ليلاً على أعكــــش     أحم البلاد خفي الصوى

وردنا الرهمية في جوزة     وباقية أكثر مما مضى

أما (الرحبة) كما ذكرها يحيى عباس في الينابيع المائية بين كبيسة والسماوة، فهي عين ماء إنبجست بحذاء القادسية على مرحلة من الكوفة إلى يسار طريق الحج، ويقول الرواة الثقاة: أن عين (الجمل) القريبة من عين (القطقطانة) اكتسبت اسمها عند وفاة جمل فيها، وقال آخرون: أن الذي استخرج العين رجل يقال له جمل، فسميت باسمه، مثلما سميت عين (سلمى) على أسم صاحبتها وهي امرأة نجفية تدعى سلمى ولها يقول الشيخ قاسم محي الدين:

إذا لاحت لعيني عين سلمى     أنخت مقبلاً شكراً ركابي

وكذلك يفعل النجفيون بعين (شيا) التي تبعد 14كم عن النجف إذ يطلقون عليها عين (شايع) نسبة إلى رجل نجفي أمتلك العين يقال له شايع .. وفي منطقة بحر النجف عيون تعود لأسر نجفية معروفة ففي منطقة مظلوم عين الحاج عبد المحسن شلاش، وعين (الشكيك) تعود لأسرة السادة آل سلمان، وعين تعود إلى مجيد حسان، وعين عطية أبو كلل في منطقة (الحياضية) وعين الحاج عليوي الشكري والى شمال عين (حديد) تقع عين (ناجي شنون) وهناك خمس عيون ماء عذب حلو حول قصر (الرهبان) وعين أخرى إلى الغرب منه، وعين من فوقه بالإضافة إلى عين (الهجانات) وعين (القوادس) أما (أم الآبار) كما يطلق عليها النجفيون، فهي عين (النبعية) التي تقع خلف سور النجف من الجهة الغربية، وأن عيون / الرحبة / الرهمية / الحياضية / العزية / أم ذراوي / ما تزال تشكل قرى وسط بحر النجف، وهي تبتعد عنه باتجاه البادية .. ثم تأتي عيون منطقة كربلاء و (شتاثة) عين التمر وعيون ماء (الرحالية) التي تزيد على العشر، مضافاً إليها عيون منطقة (هيت) و (كبيسة) وهذي العيون وغيرها متقاربة على حافة البادية، فوق خط الرحاب المسمى بخط العيون، موازية لنهر الفرات، يتفجر الماء، ينبع منها، يغسل وجه الحجارة، يلحس الرمل، يجري على سطحها، يمد اللسان بكل الشقوق، يوقظ غافيات الجذور، يحل بأرحام ما حملته الرياح من الحَبْ، فتهتز أرض الرحاب، تربو، وتنبت من كل زوج بهيج، ففي البادية حيث تكون المياه تكون الحياة، ولا يشعرن بها إلا الذي قُدَ مِنْ رملها، فطابت بها الكائنات وغنت ــ هذي الرحاب بلاد العيون ـــ فَمَنْ كان أول صادح بالنداء؟ ومَنْ كان أول ناقل للخبر؟ ومَنْ كان أول سامع للبشارة قبل أن يشيع الخبر؟ يطير كسرب القطاً، حاملاً رسائل الماء من بريد الرحاب، إلى كل أرض تشقق وجهها بنصال الظمأ .. وتلقف الخبر الرواة، نقلته ألسنة القوافل، من الفلاة إلى الفلاة، وهوى اليمام ليبتني أعشاشه في ما تفتق من كوى بين الصخور، وتدافعت من كل أفق كائنات الرمل تهرع نحو وديان الرحاب، بالطير يمتلئ الفضاء، والأرض يفرشها النبات، والماء يجري في الأخاديد التي كانت كآثار الجروح فيمحها، كي تسترد نضارة الوجه الرحاب، وتدب أنواع السحالي على الرمال، وتحط أنواع الطيور على الشجر، وفي الفضاء غلالة زرقاء صافية، مسدولة، لتغطي كتف الأفق أنى ناشه حد البصر، الصقر حلق عالياً عيناه تبحث عن حبارى، والنسر حط على الصخور متربصاً (بالخِشْفِ) كي يصطاده، وبنات آوى الكامنات لأرانب البر التي تجري وتقفز كي تطول لها الحياة، تتلمظ الأفعى التي انسابت لتبحث عن صغار الطير في الأعشاش، لكن يربوع تعيس الحظ مرَّ أمامها، فصار وليمة، لكنها لما تعد للجحر حتى شالها باز وطار بها ليطعمها إلى أفراخه، الآكل المأكول، والمأكول آكل، هي تلك طبيعة الصحراء مذ خلقت وتأثثت بالكائنات .. وعلى الربابة قرب كانون الدلال، في بيت شعر، فوق ايزار جنوبي أو على الرمل الذي سفحته كف الريح من تحت السماء، صدحت بأشعار القصيد حناجر الشعراء: تلك الرحاب، صارت بلاداً للعيون، فمضيفها يمتد من رمل الزبير إلى السماوة حيث يرتاح الفرات .. ما أن تنهى إلى قوافل البدو الخبر، حتى أتت تسعى ومن كل الجهات، الحاملين خيامهم فوق الجمال، الراكبين على الذلول، السائرين على الرمال، وقوافل الأعراب جاءت بعدهم، المعتلين أصايل الخيل العراب، القادمين من العشائر في السماوة للمراعي في الرحاب، الحاملين متاعهم فوق المطايا، السائقين / الماعز /الأغنام / يسعون تتبعهم على الأثر الكلاب، للعشب للماء القراح، تترى القوافل في البطاح، من ساريات في الليالي، أو ضاربات في النهار، لا ينزل البدوي أرضاً لم تكن جادت بماء، أنى يكون الماء تٌنصب خيمة، حتى المراعي لا تجود بعشبها، إن لم تخضب أرضها السحب الثقال .. الله يعلم وحده من كان أول من أتى أرض الرحاب، وهو الذي يدري بأول حاد عيس خلفه سارت على ترنيمة الصوت الجمال، حتى إذا ما شارفت أرض الرحاب، لاحت لعين دليلها تلك العيون الفائضات على الرمال، الشمس تسبح في مرايا مائها، والأرض تخطر في ثياب سندس خضر .. فترجل العراف من فوق الذلول، وراح يشم رائحة الفرات من الرمال، نادى ليسمع صوته باقي الرجال: بشراكم حطوا الرحال، فهذه بلد العيون .

 

(2)  نار القصور

بأغلفةٍ كلحف الشتاء، أدثر ما دونّ في القراطيس عن بلاد القصور، وأرفع تلك القراطيس كي تنام في أعالي الرفوف، فقصور الرحاب، لا تصفها القراطيس، مثلما تصفها الرياح التي تعول بين أطلالها، وحكايات تلك القصور، لا تجيد القراطيس عنها الحكي .. أأبدأ من نقرة السلمان (سرة البادية) حيث قصر السموأل ؟ فالحكاية تستدعي حكاءها، وحكاءها قال لي العارفون تجده هناك بأرض القصور، أشد الرحال، ابحث عن وجهه في مرايا الرمال، وقالوا: هناك .. بعيداً هناك إذا ما أناخت الشمس ناقتها، واستراحت وراء التلال، سينهض من أفق ذاك المساء، وريث حكايا الرحاب، يجيء على فرس بلقاء كالفجر، تخطر فوق سجادة الرمل، يحمل وقع حوافرها نسيم الشمال، فتسمعه كائنات البراري، تكاد كوفيته أن تطير من على رأسه، ويمنعها أن تطير ثقل العقال، يحلق من فوقه قمر بين ثلة من نجوم السماء، كقائد سرب طيور تهاجر في الليل نحو أوطانها، يُسْفَحُ النور قدامه، وتُطوى له الأرض طياً، فيأتي إلى حيث تسبح في العيون النجوم، وتبرق في الليل كالشهب نار القصور، ليفرش للسامرين عباءته تحت جنح النسيم ، ويحكي لهم عن بلاد من الرمل، والنار، والماء، كالسيف تشطر أرض السواد، فتقسمها بين أهل المدر، وأهل الحضر، بلاد تسمى بلاد العيون، ونار القصور .. عندما يعتلي قمر السامرين عارجاً في سماء تتزاحم فيها النجوم، أسال نفسي: لماذا النجوم التي في سماء الصحارى أكثر من نجوم سماء المدن؟ هاتف قال لي: إذا كنت في البادية، ورأيت السماء في الليل فوقك مفروشة بالنجوم، والأرض تحتك مسفوحة كالمرايا، فصدق بأنك قد نزلت الرحاب، فعرّج على خيمة ذلك الرحبي المهدد بالانقراض، ذلك البدوي المسن الذي فضض الزمان جدائله، واستباح مثلث لحيته، وداهمه بسيل الحوادث حتى تغضن منه الجبين .. فرحت أبحث عن خيمة نُصبت في خيال الرواة، كلما آنست مروية، هوت مخيلتي إليها، لعليّ أحصل على قبس من حكاية .. أنقص منها، أو أزيد عليها، ما بين فنجان قهوة ٍ، ولفافة تبغ ٍ، وقصيدة شعر، وشدو ربابة .. أدخل في طقوس مرايا الرحاب، أوهيء غزلي، أعد سداة الحكاية، أمد جسور المودة بين مخيلتي، ومخيلة البادية، فتكشف لي بالبصيرة مكنون أسرارها، فأدلي بدلوي في بئرها، وحين تلوح على البعد نار، تقود الرمال إليها خطاي، أعلل نفسي: قد تكون واحدة من رسائل تلك القصور التي ما تزال تغمس أقدامها في رمال الرحاب، من قبل أن يولد خاتم الأنبياء، أو يُكلف بحمل رسالة الله للناس في البادية، أحث الخطى نحو نار القصور، التي آنَسَتْ (أبن بطوطة) في ليلة من ليالي القرن الثامن الهجري، أسير كأني أطير إليها لألحق قافلة زوارها الأولين .. القصور توائم، كل قصر يشبه أخيه / في تهرؤ جلد أسواره / في انحناء ظهور أقواسه / في بياض لحى الزوايا المكتظة بالعناكب / في شعر العاقول الناشب جذوره في صدره وعلى أطرافه / في لثام الغبار المُلَثِم لشبابيكه وأبوابه / في تداول الأيام المفرحات المبكيات الناكئات لجراحه / في أكف الزمان العاصرات المضيقات الخانقات لصوته / في أظفار السنين المخدشات الجارحات الممزقات لثيابه / في نوائب الدهر المغضنات لجبينه / في تدلي الخفافيش من بقايا السقوف / في حفنات القش التي نثرتها الرياح في رحبته / في غضون الحيطان/ في شروخ مرايا الزمان / في سجاجيد ذروق اليمام / في حفر اليرابيع / في شقوق السحالي / في جحور الأفاعي / في ثقوب العقارب / في صخب الصمت المتلفع عباءة الدهر / في وصف ما يعجز الوصف عن وصفه / أتساءل: إذا ما تسنى للواصفين الدخول إلى بقايا القصور، وجس جذور الدهور، أيحتار واحدهم مثل ما أنا فيه الآن من حيرة ؟ كيف يأتي اليَّ التردد ؟ من أين يأتي؟ وأنا عاشق بادية السماوة حتى آخر ذرة رمل ؟ أأدخل ؟ فأبوابها مفتوحة لمن هم على شاكلتي من الزائرين .. أتمهل كي لا تفاجئني كائنات صحرائيَّ؟ وهي التي تسكن فيَّ، وتستوطن مخياليَّ، وتركن صناديق أحداثها في خيمة الذاكرة .. ها هي القصور تنضو غلالة تأريخها، تكشف لي عن مفاتنها، فيصعد الدم نحو قمة رأسي، أخلع ثوب التردد، ألقي بنفسي نحو أحضانها، أدس اليراع في بؤرة تأريخها، أدفن رأسي في صدرها، وأشهق فأزرع بذرة مرآيّ في رحمها: أظن أني الوحيد الذي على سرير المرائي ضاجَعَتْ مخيلتي قصور الرحاب .. تُسْقِطُ الحجرات سراويل أقفال أبوابها، وتُنضو النوافذ ما خلع الدهر من غلالاته فوق ضلفاتها .. تُنار مشاعل الزيت، أدخل حجرات الملوك، أرى ظلالهم في العروش التي ما تزال أخشابها ولائم للأرضَة، أولج رأسي في المخادع، أجس تراب السُرِر، تداهم مخيلتي / دنان الخمر / فاكهة الأجساد / شقائق الشفاه / شمام النهود / تفاح الخدود / بطيخ الأرداف / قيمر الأعناق / نعومة الأجياد / موز الرجال / أشم/ رائحة الزعفران / البخور / الحرمل / الصندل / أستاف عطور النساء / عَرَقَ الأفخاذ / نثيث الآباط / نزيز الخصور / إنثيال الشعور / بلل الغلالات / الثياب / الشراشف / وأرى انبعاج السُرْات / تلاحم الأجساد / انطباق الصدور / انهصار الخصور / الأكف المخضبة بالحناء وهي تجوس خلال ديار النساء / أتخيل الوالجين غابات الزعفران / الحارثين حقول المحضيات أسفل السُرَرْ / الهاصرين الأجساد بقوة العناق / ثم أرى ارتجاف الخزامات / أرجحة القلادات / أسمع أجراس الأقراط / رنين الخلاخل / احتكاك البطون / الهمس / الضحك / الحفيف / الصرير / التأوه / التنهد / الارتخاء / ثم الشخير / .. أتجول في الأروقة، أتلصص من كل باب موارب، ربما تحاك مؤامرة لاغتيال أحد الأمراء، ربما خلف ذلك الباب يكمن عاشق في انتظار واحدة من جواري القصور .. أتلبث وقدامي الحجرات، هذه حجرة الحرس الملكي، ليس فيها سوى كوتين عاريتين، واحدة باتجاه الشمال، والتي تناظرها باتجاه الجنوب، تجاورها حجرة مخزن الأسلحة، مشاجب السيوف / العربية / الهندية /الفارسية / حافظات الرماح الطوال، صناديق الخناجر اليمانية، جعب السهام، مسامير تعليق الأقواس، دكات الدروع والأغمدة / الجلدية /العاجية / المطعمة بالذهب / الفضة / الأحجار الكريمة / حجرة لخزن المؤن، والتي تلاصقها لخزن الخمور، وتلك البعيدة قرب مربط الخيل ربما للخدم، والتي تحتها طامورة السجن، أما البعيدة من غرف القصر فدار الضيوف .. على وجل أواصل عَدّ الحجر، أدخلها أفتشها واحدة واحدة، والكوى تراقبني كالعيون .. أتخيل أنيًّ أتسلق أسوار قصر صاعداً إلى حيث توقد النار على سطحه، سأبوح بسر صغير، فأسرار صحرائي لا يمكن البوح فيها، كلما كنت سارياً على رملها بليل أنا والقمر، كلما كنت ضاربا بين يدي شمسها بالنهار، أوسائل نفسي: تُرى على أيما أثر قد محته الرياح أدوس؟ .. ربما ذات ليل طويل أرق صاحب القصر، فصعد إلى سطح قصره ليقف حيث أقف تحت عيون السماء ــ ضَجِراً ــ عجباً أيضجر من يملك قصراً كهذا ــ عاشقاً ــ ربما قد رأت عينه غزالة تمرح في البادية ففكر أن يضمها إلى قطيع غزلانه الفاتنات، أم تراه يفكر في غزوة عقد العزم أن يقوم بها في الصباح: ليس من حقي أن أتدخل فيما يفكر فيه الأمير .. سأمضي إلى موقد النار فليس عصياً عليّ إيجادها، وما أن تمد ألسنتها لتلحس ما ألقمها من حطب حتى أراه هناك في ركنه يجلس منتظراً مَقْدَمَ من جاء عابراً كل تلك القرون، سيقول: سحرته حكايا الرحاب، فجاء بعين مخياله يبحث في أرضها عن جواب .. يرقص وجهه قدام عينيّ في مرايا اللهب، وعمامة شهباء في انعكاس اللظى حطت على رأسه وارتخت، خداه يأتزران لحيته الكثيفة، وعباءة بدوية نزلت على كتفيه، بحزامه يتشبث الخنجر المعقوف، والسيف يلتحف الغمد، متوسداً فخذيه يغفو آمناً في حجره، وأنا على وجل أدنو، وهو يروزني، عيناه في عينيّ، عينا صقر في عينيّ حبارى، وانزاح عن فمه لثام شواربه: أجئت تسأل عن أول قافلة نزلت بغرب الفرات؟ أتبحث عن نفيلة (1) أول شيخ ثبت فوق أرض الرحاب أوتاد بيت شَعْرٍ مسوبع (2) ؟ فتنافس / المكرون (3) /المثولث / المروبع / المخومس / المسودس / للقرب من سكناه، ولأن الإقامة في موضع تكون انتسابا ً إليه، فلا غَضّ طرفا ً إذا قيل من آل رحبة، وموطنه ذات رحبان، كشأن بادية السماوة في التسميات، فأرض الغدير يقال لها ذات غدران، وأرض الظهرة (4) ذات ظهران .. أضرم النار آمرا ًعبده بنحر الشياه، ثم دس الدلال بجمر الغضا، فعطر بالهيل جنح النسيم، وجاءت إليه جموع الرجال، تقهوت، وُطُسَ السبيل:

ودار عليها كيس (التتن)

فصار الفريج أساس الوطن  

وصار الرجال أصل القبيلة

ومن القبيلة جاء الشعب

ومن الشعب جاء الأمير

ونما الأمير فصار الملك

وللملك عرش

وللعرش قصر

وللقصر سارية من لهب

توقد حين تُداهَمُ أسواره بالخيول

وحين تبصر راية النار باقي القصور

يشعل كل قصر على سطحه ناره

من رسائل النار

يعرف أهل تلك القصور

إن ثمة خطر قادم

يخبر عنه بريد اللهب إ

فكانت قصور الرحاب التي توشم أرض الطفوف حصوناً تدافع عن خير أرض الرحاب، في زمن جاد بالزرع والضرع، حيث تمتد تلك القصور من بادية السماوة إلى بلاد الشام تجري من تحتها ومن بين يديها العيون الفوارة الفائضة بالماء القراح، المسورة بالحياض المكلسة، والسواقي المكسوة بالزفت والشعر كي لا يتسرب الماء منها، انه نظام ري البادية، ومهندسه هو أبن آدم الذي نزل تلك الأرضين في حوض الفرات، أو الطفوف، أو الرحاب، أو ما يجاور بحر النجف، واطئاً تلك الدروب بحوافر الخيل العراب، واشماً تلك الرمال بخفوف ابل وضحة فكأنها غرر النهار، متنقلاً بين العيون، مشيداً هذي القصور: أفأنت من أحفاده؟ ربما كان جدك أميراً، أو قائداً للجند، أو آمراً للحرس، ربماً خادماً أو سجيناً، أو راعي إبل، ربما كاتباً يدبج تلك الرقاع التي ما تزال مطمورة تحت هذي الرمال بِسِيَرِ الأولين وأشعارهم، أو هو الخازن الذي بيده مفاتيح خزائن صاحب القصر . ربما شاعراً يرتجز إذا ما التقت جموع الرجال في الحرب، فيزداد نزف الدماء، أو حكيماً يصمت السيف إذا ما نطق . أو طبيباً يحجم للرجال ويجس النساء، ربما / كاهناً / عرافاً / نديماً / نخاساً / ربما كان مثلي حارس نار القصور .. أتدري بأنك ترتقي الآن تل القصير، وانك تنزل في قلعته، هلّم معي يا أبن هذا الزمان كي ترى صرح أبن ذاك الزمان، سار قداميّ، لم يكن سائراً، كان ما بين أقدامه والرمال فراغ كبير، خلته قد تعلق من قبة البادية، مدّ أسبابه وتدلى كشعاع الصباح حين يفلق أفق الغبش، كم رأت عَيْنايّ في الصحراء / قوافين / عرافين / أدلاء / قادوا خطاي في سِفْرِ المرائي، غير أن الذي يمسك زمام مخيالي الآن ليس له من شبيه .. أسير، أوسع خطوي، أركض خلفه كأني أطير، صار لي مثله جناحان فلم تعد قدماي تحطان فوق الرمال، فأدركت أنني أحلق فوق قصر القصير، ومن شاهق أرى القلعة التي مَرّ بها الرحالة البرتغالي (بيدرو تيكسيرا)  قلعة مربعة الشكل من الطين والطابوق مبنية، تجثم فوق هضبة تطل على وادي القصير العميق، الذي كان في سنين خلت واحداً من أعظم مجاري الأنهار في العصر(البرمي) قبل أن يقوض بحر تثس(Tethys (خيمته، يتلفع عباءته، يرفع ذراعيه، ويغادر مودعا تلك الأرضين الممتدة جنوب غرب وادي الرافدين ليتركها مستباحة لغزو الرمال، وأبصر ثمانية أبراج كبيرة فارعة، تشرع هاماتها إلى أكثر من ثمانية أمتار نحو سماء الرحاب، تحيط بالقلعة من آفاقها الأربعة، كل برجين من أفق / شمالاً / جنوباً / شرقاً /غرباً / حيث تنتصب بوابتين.. أخمن أن التي إلى جهة الشرق من كبرها وسعة فسحتها هي بوابة قصر القصير الرئيسة، إليها تجيء القوافل ومنها يدخل البدو والأعراب وكل من له حاجة والعابرين السبيل، وخمنت أن تلك التي تطل على الغرب من صغرها وضيق فسحتها إنما خصصت لذوي الشأن والأقربين، ترتدي القلعة اليوم ثياب التراب التي خاطها الدهر من قماش العواصف، وطرزها الغيث بالعشب، وتشقق الزنار الذي حاكه أسلاف أرض الرحاب من الطين والطابوق المربع وبطول 32سم للطابوقة وسمك 7سم، وجعلوا عرضه 5 ,3 متراً ليسورها فتزداد بهذا الزنار / بهاءً / قوة / منعة / لقد ردَّ عنها سورها أيام مجد الرحاب خيل أعدائها، ولكنه اليوم يعجز عن صد زحف جيوش الرمال، فلم يعد للمياه وجود بوادي القصير، فالقصر ينأى بمسافة 30كم إلى الجنوب الغربي من عين حمود .. يا حفظة كتاب الصحراء، أيها الحكاؤون الرحبيون، يا حادون قوافل الحكايات في ليالي القر والحر، أيكم أفضل في قص أثر القصير، الذي خلدته بادية السماوة في أكثر من موقع، فمصادر التاريخ تطلق اسم القصير على مستوطنة في أعالي بادية السماوة شرق دمشق، أنأخذ بقول المقريزي وهو يصف لنا رحلة السلطان طوران شاه التي بدأها في نهاية عام 1249م في صحراء السماوة منطلقاً من عانه ليصل إلى مستوطنة القصير شرق دمشق، أم إن مستوطنة القصير هي هذه التي تحكون عنها في الرحاب، تصفونها كقلادة تزين جيد صحراء السماوة، وقلعتها الأثرية أو قصرها بوادي القصير قبالة صحراء الخضر، وغير بعيدة عن تل اللحم الواقع إلى جنوب شرقي أور الذي هو من مخلفات مدينة (كيسيكا) السومرية، والى الجنوب الغربي بمسافة 70كم من بصية، وهي التي كانت سكناً لمستوطنين في العصر الحجري .. أم أنه الإله (القصير) الذي تعبد له أقوام بادية السماوة، فكُتب التراث / كتاج العروس / الأصنام / الأغاني / اللسان / البلدان / تؤكد أن القيصر كان صنماً لقبائل / قضاعة / جذام / عاملة / غطفان / وقد ذكر اسمه في شعر زهير بن أبي سلمى والربيع بن ضبع والفزاري والشنفرى حيث كانوا يحجون إليه، يحلقون رؤوسهم عنده ويلقون مع الشعر قرة من دقيق، فالهوازنيون ــ على ذمة أبن الكلبي ــ إذا أدركوا موسم حج (الأقيصر) قالوا لمن يُلقي قرته: أعطنا فانا من هوازن، فان فاتهم موسم الحج، أخذوا ذلك الشعر بما فيه من القمل والدقيق ليخبزوه ويأكلوه، وقد عُيرَتْ هوازن في ذلك .. ولما كانت قلعة القصير أو قصرها ــ على رأي علي الحميدي باحث بادية السماوة ــ قريبة من مركز الحضارة السومرية فمن المرجح أن مستوطني وادي القصير منذ العصور الغابرة عبدوا لهذا الإله القيصر ولعل أصل اسم القيصر انتقل من رحاب صحراء السماوة إلى مناطق أخرى أسوة بانتقال عبادة هذا الإله الذي سمي بالقيصر، أو القصير، أو الكصير كما يسميه واصفوا قصور الرحاب .. ولأن سعدون باشا ابن منصور باشا أمير المنتفك أدمن الترحال بسبب عدائه المزمن للأتراك، فقد كان ذئب البادية الذي يقطعها من الطول إلى الطول، في رحلة الشتاء والصيف، متنقلاً بين حصنين، هما مؤلا / خيله /إبله /رجاله / الأول قصر الشقراء الذي بناه عمه ناصر الأشقر ، حيث اتخذه مقراً شتوياً يخطط فيه لحروبه التي كان يشنها في الصحراء، وينطلق منه لغزواته، والثاني مقيضه الواسع وسكن زوجاته الذي يؤب إليه في الصيف، وهو قصر كبير مبني من (اللبن) ما تزال إطلاله تتشح بوشاح شمس صحراء السماوة حين تطل بغرتها كل صباح على الضفة اليمنى لسيل وادي أبي غار .. على كل متكئ في بقايا دار الضيافة في قصر الشقراء، أتخيل سعدون باشا محاطاً بثلة من رجاله الخُلْصْ يخطط لثورته على العثمانيين، أو يعد العدة لملاقاة مبارك الصباح في معركة (الطوال) الشهيرة في الصحراء .. وعلى كل متكئ في دار ضيافة قصر أبي غار أتخيل (جيرالد أفلين لجمن) جالسا على البسط الجنوبية ينعم بضيافة العربي سعدون باشا وأمامه صواني (المُفَطَحْ) والرز العنبر، أو أراه يحتسي فنجان قهوة سعدون باشا الذي وصفه في مذكراته: (الشيخ اللطيف و الإنسان المجامل والمحارب العظيم والعدو الشديد للأتراك الذي هزمهم في عدة مناسبات) .. لنحث الخطى نحو (دكة الهيس) فهي ــ كما يقول البدوي ــ على مرمى عصا من فرات (الرماحية) المندرس .. قلعة مشهورة في أعالي السماوة، تجثم كالظهرة على أرض (دياحيم) لتطل على جزيرة (أم العكف) المحشورة بين نهر العطشان ونهر (أبو كفوف) .. ما بين نون نهاية القرن السادس عشر، وباء بداية القرن السابع عشر، أقترن أسم القلعة باسم مهنا بن علي الهيس أمير قبيلة الخزاعل، وهو أول أمير من أمراء الخزاعل دش أسمه مدونة التأريخ،  والهيس اسم قديم، قدم الذاكرة الشعبية، فهو في مخيلة الحكائين / لقباً للأمير / اسما لقصره / سكناً لعياله / رمزاً لقبيلته / مكاناً لقلعته / مقراً لحكمه / عنواناً لسطوته / مركزاً لنفوذه / طولاً لذراعه / الممتد من هيت حتى (العرجة) على مشارف الناصرية، وما الحكايات الشعبية التي تحيكها أنوال مخيلات المعمرين على غرار قصص الإخباريين العرب عن الحصون والقلاع والقصور القديمة، وذلك الغموض الذي غالبا ما يلقي ببردته على أكتاف تلك الحكايات، ويكسوها بثياب المخيال المتشابكة في ألوان الأحداث والأماكن والأزمنة، إلا لتزين قلعة الهيس وقصرها وأميرها لتخرج على السامرين من محراب الرحاب وهي ترفل/ بالتشويق/ المبالغة / الإثارة / الإبهار / ..  أتودون سماع حكاية من حكايات قصر الهيس التي يفاخر بها المسنون؟ إن ذلك يتطلب المكوث في ديار قبيلة (آل زياد) والنزول بضيافة شيخ المسنين، وأكبر المعمرين، من فرقة (آل أديم) خازن أساطير الأولين، سليل رواة الرحاب الذي تتناسل في ذاكرته ألف حكاية وحكاية .. عندما يعتلي قمر الصحراء صهوة الليل، وكأي أمير يسير بها خبباً بين حشد النجوم المزينات لقبة السماء المحنية فوق بيوت الشعر المضاءة بالفوانيس، نسمع نحن قراء كتاب الصحراء، عشاق حكايات الصحراء، صوت حوافر فرس القمر، كحيلة الليل وهي تطرق أبواب الحكائين الصحراويين، يترجل القمر، يفرش بردته على الرمل قبالتنا، عندها يفتح ذلك الحكاء الزيادي المعمر خزائن ذاكرته، ينثر بضاعة القرون في نصاعة القمر، فينهض (الكهوجي) يدس (النجر) في دفء حضن الكانون، يزنره بالدلال، فتفوح رائحة القهوة، ويدور كيس التبغ بين الجالسين على الغلايج، والمتكئين إلى الوسائد .. وبعد فنجان، وفنجان، وفنجان، يسعل رجل الأساطير معلناً بداية الحكاية، فتصمت كائنات الليل كافة / لا كلام / لا رغاء / لا ثغاء / لا نباح / لا عواء / لا صفير / لا فحيح / حتى لسان النار يخبو أمام بريق ما سيقصه شيخ الرواة، الكل يصغي لصوت يبقر الأزمان، يُنطق آثار ما تبقى من عاديات مبان شيدها الجن بأمر الملك سليمان، تستهل الحكاية بِسِرِ (الهيس)، ذلك الحبل السري الذي يربط سرة القلعة برحم الفرات، أمير القصر وحده يعلم سِرِ القناة، لأن من حفرها مات مجهولاً، أو ربما قام الأمير بقتله ــ كما فعل المنذر بسنمار ـــ وحكاء ليل الرحاب يجهل أسم مهندس تلك القناة، كما يجهل أسم الأمير الذي قد يكون سامياً أو سومرياً أو أميراً مجهولاً ولد من رحم مخيلة البادية، فتبنته ذاكرة الرواة، وخلعت عليه الصحراء ثياب أساطيرها .. جاء بقافلة القرون الغابرات، وحل في أرض الرحاب فشيد قصراً وأسس ملكاً وصار أميراً لهذي الديار، وأراد لتلك القناة التي تربط قصره بماء الفرات أن تظل مخفية عن عيون الرعية، يُعتمد عليها عند الحصار في حالة حرب، ولكن قافلة الغيب تَحْدوا بأقدارها على نهجها، لا على نهج ما يريد الأمير .. تتملكني رغبة لمعرفة ما يخبؤه الغيب لذاك الأمير، تداهمني مداهمة (الردم) لوديان بادية السماوة، أرى رغبتي في عيون الذين يجلسون معي في خيمة ذلك الحكواتي الكبير الذي لم يكن يهمه غير إتقان صنع لفافته، بكل هدوء أستل ورقة من دفتر (اللف) وتناول قليلاً من (التتن) ليفرشه في حضن الورقة الرقيقة ثم قرض حافتها بلثته، وبعد أن بللها بلسانه ووضع طرفها المدبب في فمه، أخرج (الزناد) النفطي وأشعل طرفها المكتنز، وراح يمتصها بشغف، فتنهدنا حين قال ذات فجر غبش راعى قطيع الأمير ــ هو الآخر يجهل الراوي اسمه أو لمن ينتسب ــ كعادته يقود شياه سيد القصر إلى خارج القلعة ليتركها تسرح فوق تلك السجاجيد الخضر التي تفرشها على أرض تلك الجزيرة الغافية في حضن الفراتين أيدي الربيع، يقطع الوقت بالعزف على (المطبك) حتى إذا جف بلعومه من النفخ قام ليبلله من أقرب جرف إليه، فجأة يسقط (المطبك) من يده وتغيبه مياه نهر الفرات بطرفة عين .. حين تنزل الشمس من قبة الصحراء على مهل نحو أفق الغروب، ويعود الراعي إلى قلعة سيده، تبصر الشمس وهي ترتدي ثوب نومها دهشتة، جحوظ عينيه، وتراه يقاوم احتباس صوته كأنما التف عربيد حول رقبته، تتثاءب والراعي أسفل مطرحها فاغرا فاه غير مصدق ما تراه عيناه طافياً في مياه بركة القصر، بعينين نصف مغمضتين تراقبه الشمس وهو يستعيد هدوءه بعد أن تأكد مما رأى .. وقبل أن تداهمها طيور الوسن، رأته يترجل عن دابته، ينحني على مياه بركة القصر، يلتقط شيئاً، أجبرت نفسها لتتأكد من أنه (المطبك) الذي ابتلعه النهر حين كانت هي في غرة النهار تبصر ما تحتها بكل وضوح: صار من الممكن الآن أن تتوقعوا نهاية الحكاية .. لاحظ خشيتنا من أن يتورط بصنع لفافة ثانية، فاستمر بسرد حكايته، حين غزا القوم غاز، تحصنوا كعادتهم خلف أسوار قلعتهم، غافلين عما يخبؤه الراعي الذي أفشى سر قناة الأمير لأعدائه، فتفاجأ أهل القصر إذ انقطع الماء عن بركة قصرهم وكادوا يموتون عطشا، ولحبهم لأميرهم وحرصهم على حياته تلفعت ثلة منهم عباءة الليل وقامت باقتحام خيام العدو وتلهيته، فتسنى للأمير التسربل بسواد الليل والخروج من القصر هو وحاشيته .

................

 

الصحراء كتاب لا يقرأه مَنْ يجهل لغة الصحراء، لا يدريه مَنْ لا يدري كيف تُقلّب أصابع الريح أوراق الرمل، لا يبصره مَنْ لا يبصر ما خط يَراعُ الله على جبين الصحراء، لا يعرفه مَنْ لا يعرف كنه ما سفحت دواة الدهر من كلمات على قرطاس الصحراء، إن للصحراء أطراساً من / الرمل / المطر / السيل / العشب /الكمأ / الحصى / الحجارة / وكتاب الصحراء يكتظ باللامرئي من الكائنات، لا يراها مَنْ لا يرى ببصيرته جمال الصحراء، لا يشعر بها مَنْ لا يشعر ما بداخله من صحراء، لا يسمعها من لا يسمع همس الصحراء، لا يجسها من لا يجس أخاديد الزمن على رمل الصحراء، لا يضم كتاب الصحراء إلى صدره مَنْ لا يعرف دفء الصحراء، لا يكسب ود الصحراء إلا عشاق الصحراء، لا يتغنى بالصحراء مَنْ لا تُرْجِعُ ذاكرته صدى حداء الصحراء، لا يتذوق موسيقى الصحراء من لا تهزه أوتار ربابة الصحراء، لا تسحر قافية الصحراء مَنْ لا يعرف قصيد الصحراء، لا يظمأ في الصحراء من يشرب من بئر الصحراء،لا يهتدي بنجم الصحراء إلا الساري في ليل الصحراء، لا ينعم برفقة قمر الصحراء من لا يسهر ليل لصحراء، لا يتبين خيطا الصحراء لمن لا يغبش في الصحراء، لا يعرف خوف الصحراء من لا يلقى ذئب الصحراء، لا يُحَدِثُ جن الصحراء من لا يمسه جن الصحراء، لا يصف حسيان الصحراء مَنْ لم يحسو ماء الصحراء، لا يستظل بظل الصحراء من لا يحرقه صهد الصحراء، لا يتبرد بفيضة الصحراء من لا تصليه شواظ الصحراء، لا يخبر شمس الصحراء مَنْ لا يضرب في قيظ الصحراء، لا يتذوق قهوة الصحراء مَنْ لم يرتشف فنجان الصحراء، لا تؤنس نار الصحراء من لا يسمر في الصحراء، لا تٌسْمِعٌ الصحراء من لا يعرف مفردات الصحراء، ولا تستمع الصحراء إلا لِمَنْ ينطق بلسان الصحراء، لا يروي حكايات الصحراء إلا وارث حكايات الصحراء .. أعود إذن إلى حكاء الرحاب ليحدثني عن قصور الرحاب . أسلمه زمام ناقة المخيال، فيسرح بها نحو منطقة الحيرة قرب النجف، أرى في نصاعة مخياله موكباً بابلياً يشق الطريق بين صفين من الناس / شيوخ / شباب / نساء / أطفال / لكي يروا الموكب يدسون رؤوسا صغيرة في كل متسع بين جمهرة الواقفين .. تتقدم ثلة من الجند على خيل لها لون غرة الشمس في ضحى البادية . بها يستهل موكب الملك البابلي (بختنصر) تعقبهم أرهاط من المحاربين المشاة الأشداء المدججين بالأسلحة، المتسربلين بالدروع، المعتمرين بالخوذ، يسيرون على وقع حوافر خيل بلون الحليب تمشي الهوينا، وقد مشط السائسون شعر أعرافها فبدا على أعناقها كوشاح فجر ندي، ترفع أرجلها برشاقة لا تليق إلا بخيل الملوك، تجر عربة الملك الموشاة بالذهب الذي يبهر أبصار الناس المتدافعين لرؤية العربة التي يلهث خلفها العبيد .. الملك البابلي ينتصب شامخاً بحلية بابلية، وعلى رأسه تاج بابل الذهبي المرصع بالجواهر، يلوح لأبناء شعبه الهاتفين باسمه، المتدافعين لرؤية موكبه، وهو في طريقه إلى حصن الحيرة، وقصرها الذي اختار لبنائه أمهر المهندسين، وأحذق البنائين، ليكون شاهدا من شواهد عصره، والذي ظل محتفظاً بشباب بنائه إلى عصر معد بن عدنان، حيث حُصِن ووكل به حراساً شداداً غلاظاً، ويذكر أبن الجوزي أن مجموعة من العرب سجنت في سجن يقع على مقربة من النجف يسمى سجن الحيرة .. ومن حصن الحيرة ينتقل حكاء الرحاب إلى حصن كائن بجوار كربلاء على الضفة اليمنى لوادي (الأبيض) يقال له قصر الأخيضر .. من مسافات بعيدة يبدو لعيون عرب البادية طالعا كثنايا الرحاب بجوار هور (أبو دبس)، وما يزال يرفع جبهته نحو شمس نهار الرحاب كلما نهضت في الصباح من مخدع الشرق، وقمر ليلها إذا ما سرى بين حشد النجوم فارشاً ضوءه فوق رمل الرحاب .. تخيلت نفسي قصدت الأخيضر كما كان يأتي إلى بابه القاصدون، وأذكر منهم الرحالة الايطالي (ديللا فاليه) الذي زار القصر وهو في طريقه الى كربلاء أيام كانت تحت حكم (القزلباشية) حيث وصفه بالبناء الآجري القديم، العظيم، المربع، ذي الأبراج المدورة، والفناءات الفسيحة، والقاعات الكبيرة، والغرف المتعددة، والنوافذ الكثيرة .. رآني حراس أسواره، فرأيت الرؤوس تطل من أبراجه، ثم رأيت باب الأخيضر يفتح لي، كأنما كان أهل القصر يدرون بأني سألجأ ذات مرأى إليهم لأنهل منهم، ثم أملء زوادتي فما زال درب المرائي طويل، وما زلت أطوي الرمال، كلما آنَسْتُ ناراَ هوى فؤادي نحوها، يحل ويرحل في بلاد القصور، دخلت فقام حراس بوابة القصر من مهاجعهم، وجاء إليَّ خدم القصر يُهرعون من بنايتين صغيرتين تحيطان بوابة القصر عن الشمال وعن اليمن، قادني كبير الحرس في ممر كدهليز طويل على جانبيه غرف رُكِنَتْ بعضها فوق بعض طبقات، استهلت بغرفة كبيرة على يمين الدهليز، قال عنها كبير الحرس إنها اتخذت مسجدا بعد مجيء الإسلام، لاحظت أن غرف القصر تشابه بعضها كالتوائم، تحيط بداخل القصر، وتطل من أركانه الثلاثة على الفناء الواسع الذي توسط القصر، مشيت بين عدة آبار كانت تزود الساكنين بالماء في حالات الحصار، ومن باب في الفناء دخلت إلى بناية أخرى، فعرفت أن القصر مكون من قسمين، الأول هو دار الإمارة والحكم والسلطان، والثاني هو قسم السكنى والحريم، والقصر مؤلف من طبقتين في بعض منشآته، وثلاث طبقات في البعض الآخر عدا الشرفات، أما الجدران المحيطة به فقد بنيت بشكل مزدوج لكي يتخللها الهواء فيساعد على حفظ الحرارة، وقبل أن أخرج من الباب الخلفية الكائنة في الجهة الثانية، انتبهت إلى اختفاء كبير الحرس، ناديت عليه فأعادت الجدران صوتي، قلت لعله نزل في واحد من السراديب، وخشيت أن أتبعه، فخرجت على عجل، لأجدني ما أزال في حضرة شيخ رواة حكايا قصور الرحاب، أفكر في ما قاله عبد الجبار الراوي في كتاب البادية: (إن من يدقق في طراز بناء قصر الأخيضر، ويقارنه بطراز الأبنية الفارسية كإيوان كسرى والزندان الكائن قرب شهربان وغيرهما، فانه يعتقد انه بناء فارسي، وان كان البعض يذهب إلى انه من منشآت الآراميين) .. ولكن شيخ رواة حكايا قصور الرحاب يدفن في الرمل عقب لفافته التاسعة، أو ربما العاشرة، يحدق فيَّ بعينين صارمتين كعينيَ عقاب، يبصر على ضوء فانوسه لهفة الاستماع إلى ما رواه أسلافه من عرب البادية . يمشط بأنامله لحية كعرف فرس بلقاء، وبصمت يظل يتأملني، وأنا أتقلى كحبيبات القهوة في المحماس، كلما زدت من لهفتي، ظل يعتلي صهوة صمته، قلت لأتركه على سجيته، عندما طال صمتي، ترجل عن صمته، قال: قبل أن يرسل الرب المعبود رسالته إلى أهل هذي الديار، كانت خفاجة تجوب بأرض الطفوف، مسيطرة على تلك المناطق ولها (السراية) فيها، والأخيضر قصر بناه ابنها عامر الخفاجي، أمير جميل فارس شاعر أحب فتاة هلالية: أجَرّبْتَ الحُبَ يا ولدي ؟ أتعرف كيف ترفرف الروح كفرخ القطا عندما تلتقي بالحبيب، أو كيف ينفطر القلب عند الفراق؟ إذا كنت جربت ذلك ستعرف كيف كان حال عامر حين هاجر بنو هلال، تاركين الشمس وراء ظهورهم، ماضين غرباً هرباً من الجدب الذي حل بديارهم . ستقول لو كنت أنا عامر للحقت بهم، فماذا يتبقى للبئر أن نضب الماء، وأقول وهذا ما فعله ذلك الأمير تاركاً قصره أثراً بعد عين، ليلحق أهل حبيبته، ويحكي الرواة الثقاة من بدونا إن العشائر التي ترأسها السنوسي في طرابلس الغرب هم من نسل بني هلال . وخير دليل على نسبة قصر الأخيضر إلى عامر الخفاجي أشعار أمه التي يرددها البدو والتي عبرت بها عن فجيعتها ولوعتها على ولدها الأمير الذي ترك ملكه ونزح من الأخيضر مهاجراً من أجل حبيبته .. حيث تقول:

أوليدي ما لي من الولد غيرو

أمك عجوز وأبوك شايب هتيع

أوليدي حاكم  ثمانين  جرية

وثمانين سوق، يشتري ويبيع

ووليدى غدا ً بهو  الراشديات

بنات  مزين  واصلهم  رفيع

الناس  يرعون الربيع  بمالهم

وكلبي وعيني   مالهم   ربيع

 والقصور التي تستهل بقصر الأخيضر .. منطقة بالقرب من (أبي صخير)، التي سميت بهذا الاسم نسبة إلى الصخور التي سدت نهر الصافي بأمر من السيد محمد زوين و تعتبر محاولته هذه هي المحاولة الأسبق من محاولة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني الذي كانت بداية تجفيف بحر النجف قد بدأت على يده عام 1305هـ / 1887م والذي أمر وكيل السنية في مدينة الحيرة بسد منافذ بحر النجف فأحكم الوكيل سد (المدلق والمدلك) معلناً البدء بتجفيف بحر النجف، ليمهد طريق السيارات من النجف إلى الرحبة عبر المناطق التي تم تجفيفها، وكلما انهارت السدود تغمر المياه بساتين منطقة البحر وتعرقل طريق القوافل .. ومنطقة القصور المطلة على بحر النجف، قرى عامرة، كما النخل تنبت فيها القصور، تختال من بينها ثلاث قرى بثلاثة قصور تبعد عن بعضها مسافة (20 ــ 30 كم)، وتبدو القصور لعيني الرائي وكأنها قلاع أعدت ليسكنها أهل تلك القرى، وبها يحتمون إذا حاصرتها الخيول .. تمتد تلك القصور والقرى التي تحيط بها تسورها بالنخيل من مهجع الشمس غرباً إلى غرة الفجر شرقاً، كقصور / الحياضية / الرهمية /الرحبة / العزية / الكائنة قبالة النجف حين كان الربيع يخلع عطاياه على برها، فتخرج بحلة من الشقائق والأقحوان، حيث كانت قصور ملوك المناذرة تشمخ بين زرقة ماء البحر وخضرة عشب الصحراء، تعلق ظلالها على مشاجب بحر الحيرة، وتتمرأى شرفاتها في مرآة الرمل المفروشة بسجاجيد العشب المعروفة (بخد العذراء) سحرت ياقوت الحموي فأعد لها متكأ في معجمه، وأثارت قريحة إسحاق الموصلي فأنشدها

يا راكب العيس لا تعجل بنا وقف   نـحي دارا لســـعدى ثم ننصرف

حفت بـبر وبــحر من جوانبـــها   فالبر من طرف والبحر من طرف

 تستهل تلك القصور، بقصر الخورنق الذي كان وكراً لنسر يطل من شاهق على حضن منخفض واسع مترع بالمياه، ترقص أمواجه على إيقاع الرياح الجنوبية الشرقية، شمال غرب (أبو صخير) بمسافة 12كم .. أستعين بالطبري لتستضيف مخيلتي ملك الحيرة (النعمان السائح) ، أراه يشرف على النجف من مجلسه في الخورنق، تسرح عيناه من جهة مغرب الشمس في امتداد البساتين قدامه حيث تنبثق نافورات سعف النخيل المشرئبة نحو السماء، وتتشابك أذرع الشجر في عناق الجنان .. أو يتطلع جهة المشرق حيث تلمع أمواج البحر لمعان أنصال السيوف .. وكان الخورنق أثيرا لدى ملك الحيرة، فهو مكان استجمام الملك وراحته واستمتاعه، إذا تأمل ترك عنان بصره ليسرح فوق زرقة البحر السائر أمامه، حيث تسبح الحيتان، أو عزم التفت ليتفاءل بخضرة البر المعشب خلفه، حيث ترتع الغزلان .. وبعد الخورنق يأتي السدير قصر عظيم من سلالة قصور ملوك لخم، يناظر من مكانه فوق بحر النجف قصر الخورنق الكائن على كتف البحر، وقصرا الخورنق والسدير توأما الشعر العربي ما ذكر أحدهما إلا وذكر الأخر .. لأترك الكلام عن حضورهما في الشعر العربي إلى الشاعر المنخل اليشكري الذي يقول:

ولقد شربت من المدامة بالصغير وبالكبير

فإذا انتشيت فإنني رب الخورنق والســدير

وإذا صحوت فإنني راعي الشويهة والبعير

ومن قصور كتف بحر النجف التي ألهمت الشعراء فأفسحوا لها مكاناً في دواوينهم، قصر سنداد الذي منح اسمه الى النهر الصغير الذي يجري قدامه، فعرف بنهر سندان، وكانت منازل آل محرق تقع عليه، كما أقامت قبيلة أياد بالقرب منه .. وقد أثار هذا القصر وما يحيط به من قصور ومنازل قريحة الشاعر الأسود بن يعفر، فَقَرنَهُ بالخورنق والسدير وزين به بعضاً من قصائده حيث يقول:

ماذا اؤمل بعــــــد آل محرق    تركـــوا منازلــهم وبـــعد أيــــاد

أهل الخورنق والسدير وبارق   والقصر ذي الشرفات من سنداد

يوم غضب الملك النعمان بن المنذر من الشاعر عدي بن زيد. اختار أن يسجنه في قصر الصنين على بعد عشر كيلومترات جنوب غرب قصر الخورنق. ولقد ألقت الحقب رحلها في هذا القصر، فحلت به، ورحلت عنه، منذ العصر الراشدي وحتى العصر العباسي حيث ملأت صفحات تأريخه بوشوم الأحداث التي استهلها الخليفة عثمان بن عفان بشراء قصر الصنين من طلحة بن عبيد الله، وقد توالى الصحابة السكنى فيه، برغم أن المصادر لم تشر الى الكيفية التي أحتل فيها هذا القصر من قبل بعض الصحابه، ولكنا نجد في تأريخ الطبري وصفاً لإغارة العرب المسلمين على جيش الفرس المعسكر قرب قصر الصنين عام 14 هـ حيث غنموا الكثير من الغنائم، كما أسروا العديد من النساء والرجال .. في الأحلام يقول الشيخ علي الشرقي: كان العراقيون الأولون يقيمون أمام بعض المعابد بناية يسمونها (جفرتا) وتعني الملوية . وقصر الصنين هو بقايا دير اندرس وبقيت بنايته فسموها القائم، وهو اليوم يقع جنوب مدينة النجف قريب منه الموضع المعروف بالقائم .. ولقد جاء ذكر قصر الصنين في الشعر العباسي على لسان أحد الشعراء بقوله:   

ليت شعري متى تخب بي   الناقة نحو العذيب بالصنين

محقبا ركـــوة وخبز رقاق    وجبينا وقطــعة مــن نــون

والعذيب هو الآخر قصر نزل فيه سعد بن أبي وقاص عام 14هـ لوقوعه على بعد ستة أميال من القادسية . ويذكر السيد فيصل غازي الميالي في كتابه شذرات وسوانح: ان المسعودي خلط بين بُعْدِ قصر العذيب، وقصر خفان الذي يقع الى الجنوب الشرقي من القادسية على الطريق المؤدي الى البصرة، ذاكراً عن أبن الأثير قوله: إن بني خفاجة قاموا في عام 1026م بالإغارة على الجامعين والمنطقة المجاورة لها . فلاحقهم واليها أبن مزيد حتى حصن خفان حيث قام بهدمه بعد الاستيلاء عليه، كما أراد هدم البرج القائم الذي كان مناراَ للسفن عندما كان البحر يصل الى النجف . ولكن الهدايا التي قدمها إليه صاحب البرج ربيعة أبن مطاوع أجبرته على تغير رأيه .. وقد أُطْلِقَ أسم (أبو الخصيب) على قصر قديم قدم  قصر الخورنق الذي يحده من الشمال، وقصر السدير الذي يحده من الجنوب، أعيد ترميمه في زمن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، وأشرف عليه أبو الخصيب بن ورقاء فعرف باسمه، ويذكر سليل الرواة ووارث حكايتهم: أن مارت مريم أسم كان يطلق على ديرين متقابلين يقعان بين هذه القصور الثلاثة مستشهداً بقول الشاعر:

بمــــارت مريــــم الكبــــرى   وظــــل فنائهــــــا فقـــــف

فقصـر أبي الخصـيب المشـرف   الوفـــي علـى النجـــف

فأكتـــــاف الخــورنق والســدير   ملاعـــــــــــب الســلف

إلـــــــى النخــــــــــل المكمــــم   والحمــائم فوقـه الهتــف

وبين هذين الديرين المشرفين على النجف ينطرح طريقا القاصدين الحج، والماضين إلى القادسية، ويستقبل قصر الخورنق من حاد عن جادتهما اليسرى، ويذكر الدكتور حسن الحكيم في كتابه (بحر النجف، دراسة في الجغرافية التأريخية) أن هذين الديرين تحولا إلى مجالس أنس وطرب في زمن الخلافة العباسية، والمستهام إذا ما زار أرضهما، تذكر قول الشاعر الثرواني:

دع الأيام تفعل ما أرادت    إذا جاءت بندمان وكأس

وظبي من لواحظ مقلتيه    نعاس من فتور لا نعاس

ومحتضن لطنبور فصيح   يغنينا بشعر أبـي نؤاس

وما اللذات إلا أن تراني   صريعاً بين باطية وكاس

فكانت قلوب الظرفاء من الفتيان تهفو إلى هذا الدير حيث يقضون فيه وطراً من الأنس وكان يسكن فيه رجل يقال له يوشع وفيه يقول بكر بن خارجة:

سقياً لمارت مريم    ولقسنا يحيى المهيلم    

وليوشـع والخمـرة   الحمـراء مثل العندم                    

ولا تعد الخيول التي داهمت أسوار القصر الأبيض عبر قوافل السنين، ولا الأرجل التي وطأت أرضه، ولا النسابة الذي زرعوا شجرة انتسابه وتركوا قطوفها دانية لمختلف المالكين كاختلاف ألوان ثياب النوائب التي خلعتها أحداث الأيام على هذا القصر، أولئك النسابة المشهود لهم / بالرجاحة / النزاهة / الحياد / نسبوا القصر الأبيض إلى عصر المناذرة ، وقالوا: ما عُرف بأبيض النعمان إلا لانتسابه إلى الملك النعمان بن المنذر، بينما ينسب الدكتور جواد علي تسميته بالأبيض إلى جدرانه البيض التي جصصت فأشرقت بيضاً للناظرين، ويبدو أن حاتم الطائي كان من المدمنين على زيارة القصر الأبيض، فقد أشار ياقوت الحموي في مادة (لحيان) إلى أن القصر الذي كان الطائي يتردد عليه هو أبيض النعمان مستشهدا بقوله:

وما زلت أسعى بين خص وداره  ولحيان حتى خفت أن أتنصرا

المؤرخون الباقرون بطون الحُقَبِ، السارون في ليالي الأحداث، الضاربون في نهاراتها، القاصون آثار الأولين، تركوا لنا في قراطيسهم عدة أنساب لهذا القصر الذي كُتِبَ له أن يكون سكنى / للتاج / الصليب / الصولجان / وموطنا لمختلف الأديان، فالهمذاني ينسب القصر إلى عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة الغساني، والأصفهاني ينسبه إلى جابر بن شمعون أسقف الحيرة، ويحكي لنا حكاية الملك النعمان عندما استدعاه كسرى إلى قصره في المدائن حيث قصد أسقف الحيرة طالباً منه الاستعانة على أمره مع كسرى، وكان معه عدي بن زيد فرحب بهما أسقف الحيرة واستضافهما، وأعطاهما ثمانين ألف درهم، وقد أقاما في القصر الأبيض لمدة ثلاثة أيام قبل ذهاب النعمان في رحلة اللا عودة .. عُرِفَ القصر فيما بعد بأبيض النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وتعاقب ملوك المناذرة السكنى في القصر الأبيض لقربه من قصر الخورنق وبقية قصور الحيرة  .. كنت مبهوراً بما يحكيه حكاء الرحاب، كان في ما بيننا للحكايات انتساب، فكلانا من رواة البادية، وكلانا تسكن الصحراء في داخله، نعشق الأرض الفسيحة حيث / لا أسوار / لا أسلاك / لا كتل من الاسمنت / لا جدران / لا مجاري للمياه الآسنة / لا أنوف مصانع تزفر الدخان / فهنا الصحراء حيث الرمل / مسفوحاً أمام الناظرين / أو متطايراً في الريح / أو متكوماً ليشكل الكثبان / حيث الشمس في عز النهار كوفية بيضاء تخفق في السماء، والعشب بأمشاط النسيم يسرح شعره الأخضر، والآبار فائضة لتغري الظامئين، فيستقوا الماء القراح، والضوامر يأتين من كل فج، والهوادج المضمخة بالمسك والزعفران، تحمل بين النجوع دفء العذارى وأحلامهن .. النار في الكانون، والقهوة في الدلات، والدفء في بيت الشَعَرْ، وأنا على فرس الحكاية أردف خَلْفِيَّ الحكاء ، أهمز المخيال نحو قصور لخم في الرحاب، فتخبُ قدامِيَّ صهوات الحكايا .. تلك في الأفق البعيد غبرة تعلو، وما من غبرة تعلو وفي ذاك الزمان إلا تنجلي شيئاً .. فشيئاً عن خيول لغزاة .. أسمع الآن في الأطراس وقع حوافر خيل، وأرى بين السطور قيس بن سلمة مبتهجاً بانتصاره على المنذر أبن ماء السماء، ثم أرى ملك الحيرة مهزوماً ومكتئباً يلوذ بقصر الخورنق على كتف بحر النجف .. وما هي إلا سنة تمر أمامي كطرفة عين، حتى أرى خيل أبن ماء السماء تغير على قوم قيس فيثأر لهزيمته ويأسر منهم بذات الشقوق اثني عشر رجلاً من بني حجر بن عمرو، وأبصر بأمرؤ القيس وهو الفارس والشاعر يفر من آسريه، فيفلت من الموت، حيث أمر المنذر بقتل أسراه كافة بعد شهرين من سجنهم في زنازين قصره الأبيض .. وإذا ما مضيت لأطرق بوابة عهد الخلافة الراشدة، وتفتح لي، فاني أرى خالد بن الوليد في عام 12هـ، ثم أرى جيش الفتوحات الإسلامية، وهو يحاصر قصر بقيلة، والعدسيين، والأبيض .. وأسمع الطبري يحدثني قائلاً: أن خالدا عسكر بين الغريين والقصر الأبيض الذي كلف ضرار بن الأزور باحتلاله، وانتزاعه من إياس بن قبيصة الطائي، كما كلف ضرار بن الخطاب باحتلال قصر العدسيين .. ثم أسمع خالداً فاتح القصر الأبيض، يدعو الحيرين إلى الإسلام، أو دفع الجزية، أو المنابذة، فيختار الحيريون الصلح على ثمانين ألف درهم فضة .. ولكن الطبري يهمس لي: أن الحيرين استعادوا القصر الأبيض بعد رحيل خالد بن الوليد من العراق ، لكنهم سرعان ما فقدوه عند حلول عام 14 هـ ، وتخلوا عنه لقائد مسلم آخر هو سعد بن أبي وقاص، الذي دخله وصلى فيه قبيل موقعة القادسية، وقد قاوم أهل القصر الأبيض ــ كما يخبرني الطبري ــ جيش سعد على استحياء رغم أنهم رموا المسلمين بالخرازيق من أعالي القصر .. أقلب صفحات من تأريخ العصر الأموي فيشمخ قدامي القصر الأبيض طيلة سنوات ذلك العصر، ويظل منتصباً شامخاً لسنوات أخرى من عمر العصر العباسي، محافظاً على نصاعة سيرته، محتفظا بوقار شيخوخته بعد أن تداعت قصور الرحاب، وتقوض أقرانه من القصور الذين شاركوه التمتع بالنظر من عيون النوافذ إلى السفن المتلفعات عباءات المساءات، المرتديات غلالات الصباحات الناشرات الأشرعة كشعور الحسان، السابحات في زرقة مياه بحر النجف، المطلات على خضرة بَرِ الرحاب .. أتساءل وأنا على أعتاب عام 66 هـ: مَنْ ذلك الرجل الذي داهم القصر الأبيض بخيله، وراح يعبث في خزائن جدرانه .. فيجيبني شيخ كبير، أثوابه بيض كانفلاق الفجر في أفق الرحاب؟ هذا هو المختار بن أبي عبيد الثقفي يا ولدي .. أحدق في وجه الشيخ الذي كان وما يزال مناخة لإبل الأيام المحملة بالأحداث، أنظر إلى لحيته المعشوشبة مثل فيضة في الربيع، أتمعن في آثار المسرات والأحزان المغضنات لجبينه، فأدرك أنه من ثلة شيوخ التأريخ، قلت: وما تلك التي بيد الثقفي؟ قال: صحائف أشعار وجدها الثقفي مدفونة في القصر .. إذا ما قرأتها يا ولدي ستعرف أنها تعود إلى عهد النعمان بن المنذر ــ وكأن الشيخ يقرأ ما يدور في ذهني ــ فقال: لعلك ستسألني عن ذلك الرسول الذي قطع الصحراء على ذلوله عام 71هـ حاملاً رسالة من عبد الملك بن مروان إلى مصعب بن الزبير يدعوه فيها إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق. فاعلم أنه إبراهيم بن مالك الأشتر. وقد حمله مصعب رسالة جوابية إلى عبد الملك تضمنت إشارة إلى القصر الأبيض، يطلب فيها حبس العشائر التي راسلته في ذلك القصر .. ولأني لا أجيد سرد الأحداث كما يجيدها شيخ التأريخ، تركت له زمام ناقة الحكاية ليقودها في سرد أحداث قصور الرحاب وهو القواف المقتدر .. أسمعه يتحدث عن نزول والي العراق الحارث بن عباس في القصر الأبيض بعد عزل والي الكوفة يوسف بن عمر عام 132هـ .. ثم ينتقل إلى بداية نشوء الدولة العباسية عام 132هـ، فيقول دخل سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب مع أهل بيته القصر الأبيض بعد مقتل ولده على يد الجيش العباسي، ويختم حديثه عن علاقة القصر الأبيض بالعهد العباسي بدخول الخليفة هارون الرشيد إلى القصر وتفقده، ومشاهدته للكتابات التي تركها الأسلاف على جدرانه .. يصمت الشيخ، تهيم عيناه في آماد الرمل المسفوحة، وعصاه التي أحتطبها من سدر الصحراء تطعن صدر الأرض، تنبت كساق ثالثة، تدعم ساقي الشيخ اللذين أتعبهما المسير في دروب الرحاب، تعاونهما على حمل ما تبقى من الجسد الضامر، الذي اختبأ لسانه في تجويف فمه المختبئ بين غابتي شاربه ولحيته .. الوقت يركض مثل ذئب جائع ليفترس النهار، وأنا وشيخ صامت وبقايا قصر دثرتها يد الرمال: أم العريف ذاك أسم القصر ــ أنهى الشيخ صوم الصمت عاد إلى الكلام ــ أنظر إلى أطلال قصر ما تزال عروقه تمتد في الأرض امتداد تأريخ الرحاب، أم العريف ليس كقصر أبن مازن الذي مزقته مخالب الزمن منذ أمر خالد بن الوليد ضرار بن مقرن بمحاصرته، فضاع ولم يعد له من وجود. فقصر أم عريف يأنف أن ينحني للعواصف، أو يرتدي حلة من غبار، ينحني بعضه فوق بعضه، يحفظ في صدره مكنون أسراره، يمسك بما تبقى له من أرومته، يحاذر أن يغير ألوان أثوابه، يلم ما تناثر من كسر / الفخار / الآجر / الجص / الزجاج / وهو القصر المربع الشكل الذي طول ضلعه (61 م) ومعاطف جدرانه السميكة خيطت من / الآجر/ الجص / الحجارة / وخصور أقطارها ثلاثة أمتار، مغلفة بنوع من الآجر الذي انقرضت سلالته، والذي تلفع ببردة دهان أزرق غامق قياسه (18 × 18 × 3 سم) يتناغم لونه ولون زنار اللِبِنْ الذي عرضه (3, 3 م) الذي يُزَنِرُ القصر ويتصل بعضه ببعض بأبراج نصف دائرية مما يشير إلى طراز البناء الأموي بحسب ترجيح الدكتور كاظم الجنابي في تخطيط مدينة الكوفة ، وكما تدل زينة الزخارف الأموية المحلاة بنقوش نباتية والتي خلعتها على القصر أيدي النقاشين والصناع المهرة، وقد عثر في القصر على قطعة نقدية ضربت في الكوفة عام 128 هـ عهد يزيد بن عمر بن هبيرة، .. ويسهب الشيخ في عرض أنساب القصور وأصحابها، ويستعرض أوصافها، وما فعلته يد الأيام بتلك القصور لتصبح أثراً بعد عين .. فهذا قصر بني بقيلة أو قصر عبد المسيح، اختار أن يشمخ قريباً من دير ابن مزعوق بين الغريين والحيرة، يقول الشابشتي: إن دير فاثيون يقع أسفل النجف .. وينسب قصر بقيلة إلى عبد المسيح بن بقيلة الغساني، الذي خرج يوماً على قومه في حلتين خضراوين، وقد اتزر بإحداهما واشتمل بالأخرى، فقال قومه : ما هو إلا بقيلة .. ويقول الشريف المرتضى: أن عبد المسيح عاش بالحيرة في قصره المعروف بقصر بقيلة وهو الذي قال:

لقد بنيت للــحدثان حصــــناً   لو أن المرء تنفعه الحصون

طويل الرأس أقعس مشمخراً   لأنواع الريـاح بــه حنيـــن

 ويبدو أن القصور كانت هي الهم الأول لخالد بن الوليد حين جاء العراق فاتحاً فكان يهاجمها واحداً تلو الآخر، فقصر بقيلة هو أحد القصور التي احتلها المثنى بن حارثة الشيباني بأمر من خالد بن الوليد قبيل دخوله الحيرة .. ويقول الجاحظ: إن خالداً قال لأهل الحيرة أخرجوا اليَّ رجلاً من عقلائكم أسأله عن بعض الأمور فأخرجوا إليه عبد المسيح بن بقيلة الغساني، فدار بينهما كلام كثير، خالد يسأل وعبد المسيح يجيب، وحين سأله خالد: فما أدركت؟ أجاب عبد المسيح: أدركت سفن البحر ترفأ في النجف بمتاع الهند والصين، وأمواج البحر تضرب تحت قدميك .. ثم صالح عبد المسيح خالد بن الوليد على مدينة الحيرة التي بني على أرضها قصر بقيلة .. أستمع إلى الشيخ وهو يروي لي حكاية ذلك الرجل الحيري مع عبد المسيح بن بقيلة نقلاً عن الشريف المرتضى، يقول الشيخ: أعلم يا مَنْ تبحث في أطلال الرحاب عن حكايات قصور الرحاب، أن بعض مشايخ الحيرة خرج إلى ظهرها يختط ديراً، فلما احتفر موضع الأسس، وأمعن في الاحتفار، أصاب كهيئة البيت فدخله، فإذا برجل على سرير من رخام وعند رأسه كتابة: أنا عبد المسيح بن بقيلة، وهذه الأبيات من الشعر كما وردت في أمالي الشريف المرتضى:

حليت الدهر اشطره حياتــي    ونلت من المنى بلغ المزيـد

وكافــحت الأموروكافحتنــي    فلم أحفل بمعضــــلة كئــود

وكدت أنال في الشرف الثريا    ولكن لا سبيل الى الخلــود

ولقصر بني بقيلة حصة في لزوميات أبو العلاء المعري حيث يقول:

إذا ما شــئت موعــظة فعرج     بيثرب ســائلاً عن آل قيـلة

وقف بالحيرة البيضاء وأنظر     منــــازل منذر وبني بقيلة

أما قصر العباديين فقد سميَّ بهذا الاسم لانتسابه الى النصارى الذين يأتون من شتى القبائل ليسكنوا في قصور شيدوها في ظاهر الحيرة معتزلين الناس ومنقطعين عن الدنيا، وهم العباد الذين ذكرهم في الأغاني أبو الفرج الأصفهاني . ويقع هذا القصر بين دير هند والكوفة، وقد أشار الشاعر أمرؤ القيس الى حادثة قتل رهط من بني آكل المرار الكندي في قصر العباديين عندما أغاروا على الحيرة بقوله:

ملوكاً من بني حجر بن عمرو   يساقون العشية يقتلونا

كما أورد الطبري ذكر هذا القصر على لسان فارس من فرسان سعد بن أبي وقاص عند مجيئه الى العراق عام 14هـ وقيادته لجيش العرب المسلمين في معركة القادسية .. بعد أن قتل ذلك الفارس أحد رجال كسرى المتحصنين في قصر بني مقاتل أنشد يقول

لقدغادر الاقوام ليلة ادلـــجوا    بقصرالعبادي ذا الفعال مجدلا

دلفت له تحت العجاج بطـعنة    فاصبح منها في النجيع مرملا

اقول له والرمح في نغض كتفه    ابا عامرعنك اليمين تحــللا

سقيت بها النعمان كاسا رويـة    وعاطيته بالرمح سما مثمـــلا

تركت سباع الجو يعرفن حولـه   وقد كان منها لابن حية معزلا

كفيت قريشا إذ تغيب جمعـــــها    وهدمـت للنعمان عزا مؤثلا

وينتسب قصر العدسيين الى عدسة بنت مالك بن عوف الكلبي، التي ينتسب اليها بنو عمار بن عبد المسيح بن قيس بن حرملة، يقول البلاذري: إن قصر العدسيين يقع في طرف الحيرة، وكان فيه عدي بن عدي المقتول، حين جاء ضرار بن الخطاب لمحاصرة هذا القصر بأمر من خالد بن الوليد .. وقصر العدسيين هو أول قصر من القصور الواقعة عل كتف بحر النجف حرره المسلمون عند دخولهم العراق .. كما حاصر ضرار بن الخطاب قصر الفِرْسْ الواقع بين النجف والحيرة، والمنسوب الى نبات الفِرْسْ الذي كان يحيط بهذا القصر الذي يعد واحداً من قصور الحيرة المشهورة في عصر ما قبل الإسلام .. ولم تحدد المصادر موقع قصر الأبلق أو معقل الأبلق الذي بناه أحد أكاسرة الفرس، فقد ظل موقعه مجهولاً، برغم أنه يرد ضمن قصور الحيرة .... وما تبقى من قصر الاثل الواقع قرب قصر الرهبان، غير بقايا تحولت الى أسنمة من تراب على ظهر الأرض التي كانت يوماً غابة من الاثل، تحتضن أشجارها ذلك القصر الذي عمدته بماء البحر، وخلعت عليه اسمها الجميل قبل أن يحكم الجفاف عليها بالموت، وتنطفئ نار القصر، لتطغي شهرة قصر الرهبان على شهرته، رغم إن القصرين ينتميان الى مملكة الحيرة .. ينسب ياقوت الحموي قصر بني مقاتل الى مقاتل بن حسان بن أوس، وهناك من يحتمل أن هذا القصر يعود الى عهد المناذرة أيام انتشار الديانة النصرانية، ينقل إلينا الطبري هذه الإشارة على لسان أبن طمخاء الأسدي الذي يقول:

كأن لم يكن بالقصر، قصر مقاتل    وزورة طــل ناعم وصـديق

وأني وان كانوا نصارى أحبهم      ويشتاق قلبي نحوهم ويتوق  

 

ويعتبر هذا القصر الواقع على حافة البادية بالقرب من القطقطانه وسارم والقريات دار استراحة على طريق الحج المؤدي الى الديار المقدسة .. وقد اكتسب قدسيته من نزول الامام الحسين عليه السلام فيه .. وهناك من يذهب الى القول انه يقع بين عين التمر والشام .. لكن الدكتور حسن الحكيم يميل الى الرأي الأول بدلالة أن الامام الحسين عليه السلام وهو في اثناء مسيره الى الكوفة نزل قصر بني مقاتل، لنستمع الى عمرو بن قيس المشرقي وهو يحكي لنا حكاية لقائه بالإمام الحسين عليه السلام يقول: دخلت أنا وابن عم لي قصر بني مقاتل، وسلمت على الحسين بن علي عليهما السلام، وقد قال لنا الحسين: أجئتما لنصرتي؟ .. وينقل البلاذري عن أبي مخنف، رواية عن عبد الله بن الحر الجعفي، يقول أبو مخنف: ان عبد الله بن الحر الجعفي، نزل قصر بني مقاتل على اثر استشهاد مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وكان متحرجا من أن يتلطخ بشيء من أمر الحسين عليه السلام، أو يشترك في دمه، وقد التقى عبد الله بالإمام الحسين عليه السلام في فسطاط عند قصر بني مقاتل وفيه يقول:

وبالقصر ما جربتموني فلم أخم      ولم اك وقــافـا ولا طـائشا فشــل

وبارزت أقـــواماً بقصـرمقاتل     وضاربت أبطالاً ونازلت من نزل

فلا بصــرة أمي ولا كوفة أبـي     ولا أنا يثنيني عن الرحلـة الكسـل

وقد بقي قصر بني مقاتل متماسكاً في بنائه، يشد بعضه بعضاً، فلم يشكو منه أُسٌ أو يتصدع له جدار، حتى إذا أدرك العصر العباسي مَرَّ به شبيب الخارجي في العام 76هـ ، ونزل به خالد بن عبد الله القسري، بعد أن أطلق سراحه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في عام 126هـ أيام ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي على العراق، كما أقام فيه هارون الرشيد أربعين يوما في عام 170هـ بعد أن خلعه أخوه موسى الهادي .. هنالك قرب الرهمية ربوة بمحيط يناهز المائتي متر، تشرئب بثلاثة أمتار عن ما حولها من الأرض .. هذه الربوة تدعى قصر الدكاكين لوجود مصاطب متوالية تتفرع الى دهاليز تقع بين تلين، كل تل يرتفع نحو عشرة أمتار، وتنبسط المصطبة الواحدة من متر الى متر ونصف عرضاً،وما بين أربعة الى عشرة أمتار طولاً، وقد وشم أحد أركانها بكتابة حميرية باللون الأسود .. قبيل موقعة القادسية الشهيرة التي حدثت في عام 14هـ، وحين أقبل رستم على رأس الجيش الفارسي المكون من ستين ألف مقاتل ــ بحسب إحصاء الطبري ــ نزل سعد بن أبي وقاص قصر العذيب .. ويشرف هذا القصر على القدس المكان الذي حصلت على أرضه موقعة القادسية، يذكر الطبري: إن سعدا كان في قصر العذيب ينظر الى المعركة ومعه زوجته سلمى بنت حفصة وكان أبو محجن الثقفي في القصر نفسه ولما مالت الخيل في الميدان انشد أبو محجن قائلا:

كفى حزنا أن تردع الخيل بالقنا    واترك مشـــدودا علــيَّ وثاقــيا

إذا قمت عناني الحديد وأغـلقت   مصاريع دوني لا تجيب المناديا

وذكر محمد بن حبيب ــ في كتاب المنحق في اخبار قريش ــ ان سنمار باني قصر الخورنق هو الذي بنى قصر العذيب .. وقد نسب قصر الصنبر مع قصر العذيب في بنائهما الى سنمار، لكن الدكتور مصطفى جواد يقول في كتابه النجف والحيرة: ان الصنبر من قصور الحيرة التي بناها امرؤ القيس بن النعمان .. أنضيف الى قصر الرهبان اسماً آخرا فنسميه قصر العيون، لأن المصادر تشير الى أن هذا القصر محاط بخمسة عيون تطفح بالماء القراح .. وقصر الرهبان كما وصفه الطبري: تل يبلغ ارتفاعه خمسة أمتار، وطول كل جانب من جوانبه المبنية باللبن ثلاثون مترا، وهناك في الجنوب الشرقي من قصر الرهبان تل آخر أكبر منه مرتين، كما تقع الى جنوبه مجموعة من التلال التي تدعى (الكزازة) نسبة الى شظايا الزجاج المتناثرة فيها .. حين انتهيت من كتابة مرأى القصور النابتات كالفقع في أرض الرحاب، الليل فاض كأنه نهر يسيل على الرمال، على سطحه تطفو النجوم ويسبح القمر الذي لا تستطيع العين أن ترى مثله إلا إذا ما أبْصَرَتْ قمراً بليل في الرحاب، وكنت أنظر في انفتاح الأفق حولي، فأرى السماء كبيت شَعْرٍ لا انتهاء له، وعلى مرايا الرمل أبصر قدرة الرب الذي خلق الرحاب، وهناك في بيت شعر الرب أغفو حين يلمسني النسيم، فهاجس قد قال لي أن سوف يأتي بائع الأحلام في هذا المساء، قلت انتظره فسوف ينثر خرجه، ويروح يحكي حلمه، عن طائر مهما رأيت من الطيور فلن أراه، إلا إذا أسلمت جفنيَّ للنعاس، فقد أراه يحط على صخرة لا مثيل لها في الصخور ، أسعى اليها فينفر الطير الغريب، ومعي عصاي فان جلدت بها الحجارة انفلقت وتفتت ولم يعد لها من وجود، عندها سأغرز كفي في المكان الذي غادرته، فينبجس الماء من تحت كفي معلناً عن ولادة عين ستحمل أسمي، وما دمت أملك حلماً فاني سأنشئ قصراً، وبما أن لي الآن عينا وقصراً بأرض الرحاب، فأني سأشعل ناراً على سطح قصري، وأغفو لأدعو بائع الحلم ثانية، لعلي أحضى بمن يكتب عنيَّ مرأى يخلد عيني وقصري .

 

هوامش

..........

1-   العازب: هو البدوي الذي يعزب عن أهله أي يبتعد من أجل الرعي .

2-   كولاب : هو القسم الذي تقع في المعابد في مدينة الوركاء .

3-   ننسون: أو الالهة ننسون أو البقرة الوحشية هي أم الملك كلكامش .

4-   الملحمة: ملحمة كلكامش.

5-   نفيلة : علامة أو نصب يتركها شيخ القبيلة للدلالة قبل الرحيل .

6-   المكرون: بيت الشعر الذي ينصب على عمودين .

7-   المثلث: بيت شعر بثلاث أعمدة وكذلك المربع والمخمس والمسودس والمسبع .

8-   الظهرة : تلة مرتفعة في الصحراء .

9-   الردم: السيل .

10- لمطبك: آلة موسيقية شعبية يعزف عليها الرعاة تعمل من قصبتين   يربطان مع بعضهما .

11-  المحماس: وعاء من المعدن تحمس حبات البن .

12-  هتيع: كبير في السن

13-  أُسْتِعِرَتْ أسماء عيون طف النجف من كتاب (ناحية الشبكة بين

        الماضي والحاضر) لمؤلفه محمد عبد الغني إدريس السعيدي

14-  اُسْتِعِرَتْ أسماء قصور الحيرة وأديرتها من كتاب بحر النجف لمؤلفه الدكتور حسن الحكيم

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2213   الثلاثاء  28/ 08 / 2012)

في نصوص اليوم