نصوص أدبية

زمن التسامح / مسلم السرداح

فهرب اكثر الشباب الشيوعيين والتقدميين، وهو منهم الى الكويت ومن هناك لاادري الى اين في بلاد الله الواسعة الكبيرة.

كنت وقتها لا ازال في الخدمة العسكرية وسبب ذلك اني انا ومجموعة من الاصدقاء والزملاء قد تاخرنا لمقرر واحد (كورس). أي كنت تاخرت عنه مدة ستة اشهر. فتخلصت انا من اعدام محقق بمجرد التوقيع على قرار (200) المذيل باسم رئيس الجمهورية احمد حسن البكر، وبدون أي تحقيق او اضطهاد بدني (لاني عسكري محمي !!!).

كان اسمه اسعد عزت. وكان اسعد قد تم تسريحه من الخدمة العسكرية بعد اكمال خدمة العلم انذاك قبل ان يقرر النظام البعثي ايقاف العمل بميثاق العمل الوطني الذي انبثقت منه الجبهة الوطنية. عند ذلك بدا النظام الدموي ملاحقة وتصفية كل من كان قد وضع عليه علامة الاستفهام من اطراف الجبهة الوطنية المكشوفين باسمائهم ووجوههم.

ولما كنت عسكريا وقتها وقد تفرق اصدقائي وتشتتوا بين عسكري هو الاخر او من ابناء المحافظات او هارب لاادري الى اين، فقد كان صعبا علي الاتصال بهم وبالتالي لم يتسن لي السؤال عن صديقي المذكور اعلاه او أي من اصدقائي الاخرين ولغاية اليوم. وانا في حنين كبير ورغبة في السماع عنهم او ملاقاتهم او الاتصال بهم، لانهم نبلاء والنبيل لاينتسى.

ولكن ومنذ فترة وبعد ان تعرفت على خدمة الفيس بوك رحت اتذكر اصدقائي الذين فارقتهم منذ نصف قرن او يزيد في خانة البحث فراح الفيس بوك الرائع يدون لي اسماء المشتركين لديه من هذه الاسماء فكنت اخاطب من تتشابه مواصفاته او عمره مع احد اصدقائي. حتى اني في يوم تعرفت في الفيس بوك ايضا على شخص كان زميلا لي في الاعدادية المركزية وكان قد نجح معي. وصار زميلا لي ايضا في الكلية نفسها والقسم نفسه ولكنه وبسبب انشغاله باشغال اخرى فقد رسب وتم ترقين قيده ابتداء من السنة الثانية. كان الزميل ذاك مسيحيا، واتذكر انه جاءنا يوما ببيضة ملونة بشكل مدهش ليقول لنا انها بيضة عيد الفصح. فعلمت يومها انه كان مسيحيا. كان اسمه حياديا (زهير علاء). ولولا بيضة عيد الفصح لما تبينت ذلك.

ويبدو انه قد نسيني بعد هذه الفترة الزمنية التي تجاوزت ثلث القرن. فطلب مني ان احاول استفزاز ذاكرته ببعض الاحداث المثيرة التي اشتركنا بها ذات يوم. ولكن دون جدوى. وكان الشاب الذي اصبح كهلا الان وقد تغيرت ملامحه كثيرا كان لايشرب الخمور رغم انه مسيحي الديانة. بل كان يجلس مع طلاب الكلية اثناء دخولهم الى المشرب ويكتفي بأكل المزّة. فاخبرته بالامر فقال لي :

- نعم أتذكر انني كنت آكل مزتكم هههههه.

ثم قال لي ما معناه انه بدات ملامحي ترتسم في ذاكرته لكنه لايزال لايتذكرني تماما، فنسيت الامر. ولكنه طلب مني عنوان شخص زميل كان طالبا معنا في الكلية ورقم تلفونه. وهو الان دكتوراه في الرياضيات او الفيزياء في امريكا كما اخبرني هو. فاخبرته انا من جهتي ان طلبه كان غريبا بعض الشيء فانّى لي وانا الذي اعيش في العراق ان اعرف عنوان او هاتف شخص هو الان في امريكا ؟ والعجيب انه يحفظ اسمه الثلاثي مع اسم عائلته مصحوبا بــ (ال ) العشائرية. ولايتذكرني انا !!!

وهنا تبتدا قصة هذه القصة :

كتبت في خانة البحث اسم (اسعد عزت) فراح الفيس بوك يعدد لي الاشخاص المسجلين فيه تحت هذا الاسم. فخاطبته فلم يجبني فقلت في نفسي لابحث اكثر عن مواصفات هذا الشخص فاكتشفت انه بنفس عمري ورحت ابحث اكثر لاكتشف انه خريج كليتي نفسها وفي نفس السنة المطلوبة. ولكي يزيد اطمئناني اكثر رحت اقلب صفحته وما مكتوب على حائطه فماذا وجدت ؟

وجدت انه يعيش في مصر الان. ولقد كانت المناسبة هي وفاة القس باباشنودة المرشد الروحي للكنيسة القبطية. فرايت ان الشخص الذي كنت ابحث عنه وقد راح يميل بكل ثقله الى جانب هذا الرجل ويعدد خصاله ويدعو المصريين للاقتداء به وراح يترحم على روح الفقيد بالثلاثي المقدس ما يثبت ان الرجل الذي هو اسعد عزت رجل من الطائفة المسيحية. وراح يزداد عجبي فهذا الرجل مسلم الديانة على حد اعتقادي. صحيح اننا كنا في تلك الفترة لانعبأ بالطائفية ولكن الرجل صديقي وانا لا اعرف سوى انه مسلم ولا ادري ان كان سنيا ام شيعيا ولكن تصرفاته الاخرى لاتدل على انه مسيحي او أي شيء اخر. فلقد كنا نعرف الصابئة والمسيحيين عن طريق تمييزهم من اعيادهم ومن اسمائهم وما ينفلت من السنتهم من كلام واشياء اخرى.

كان موت القس بابا شنودة قد تزامن مع اصابتي بالجلطة وكان الجميع قد اوصوني بالاسترخاء التام وعدم الانفعال او الاثارة وغض النظر عن كل ما يربك حالتي النفسية القلقة اصلا والتي ترى الحبّاية كبّاية على قول المثل الشعبي. فراح الامر يقلقني اكثر فاكثر وتمنيت ان اصرخ نتيجة ماظننته استغفالي او ربما اهمالي. فقررت الاتصال باصدقائي عن طريق الموبايل والذين كانوا معنا في نفس الكلية فراحت تتارجح اجاباتهم بين اللا والنعم وبين اللاادري على طريقة الاستبيانات التي يجريها طلاب الدراسات العليا فهدات نفسي قليلا اذ كيف نكون كلنا مغفلين او مهملين ؟ المسالة اذن كلها تعود الى ذلك التسامح الديني والطائفي الذي يسود مجتمعنا قبل تسلق الدكتاتورية وقبل الحملة الدينية التي افتعلها صدام حسين بعد خروجه من الكويت ليقنع المغفلين والسذج امه انما يسعى لله. و قبل ان تجتاح بلادنا العزيزة طوفانات الجراد الاسود التي حولته الى شذر مذر بحجة انهم اسلاميون ويريدون الحفاظ على الدين.

ولو سالني سائل فقال لي: كنتم شيوعيين لاتعباون بالدين فاجيبه: كنا متسامحين يا صديقي وكنا شعب واحد وكانت طبيعة الشعب هي التسامح والحب وكنا نحن المعبرين عن روح هذا الشعب بامتياز.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2214   الاربعاء  29/ 08 / 2012)

في نصوص اليوم