نصوص أدبية

للمقاربة وجوه عديدة / سنية عبد عون رشو

متجها صوب بغداد وهو يسير بسرعة مجنونة .... شباب يمقتون صفرة الذل ... يفيض عشقهم بحب الأرض وإنصاف الإنسانية.... يشقون ثوب الخنوع في محراب صلاة الفائزين بجنة الفردوس .... يحرسون اليمامات ذات الريش المعفر بطلع النخيل من غدر الغربان والصقور القادمة من خلف البحار ....

يحرسون القمر الغاضب خلف رابية .... قرأنا فيها شواهد قبور آخر الخلفاء الضعفاء ....

قال جدي متفاخرا: لا أشعر بالذنب الآن......انتابتني حينها روح الجماعة .... فما من سبب وجيه يعيب فعلتنا.... وهوس التحريض ينتقل بيننا كحمى معدية.... كان الناس يشيرون إلينا بأصابع الزهو والفخر .... كنا نملك أغصان سدرة سامقة توزعت  فروعها  بين بيوت قريتنا بلا ثمن أو منفعة مقابلة.....

آذان الفجر وصرخة القطار ....كانت ساعة الحسم ...كأن صرخته أيقظت المارد النائم داخل أرواحنا المستكينة .....عشرون شابا يتسلقون  بفترة زمنية واحدة وعجلات القطار تدور بلمح البصر.....

تستهوينا أحاديث جدي حين نتحلق حوله في ليل الشتاء القارص ...هناك  في وسط دائرتنا  مدفأة نفطية  ورائحة خبز التنور الطيني ما زالت تنتشر في أرجاء دارنا ذات الطراز  الشرقي والقبب المزخرفة نوافذها بخشب الصاج وقطع الزجاج الملون بعدة ألوان زاهية ..... كنا صبية ذكورا وإناثا .....كنا نجيد صنعة الإصغاء الحنون ....ترسبت حكاياته  في ثنايا ذاكرتنا ...

كان جدي أسمر الوجه قد لوحته شمس العراق ... فارع القامة ومزارع من الطراز الأول في جسده كدمات كثيرة يعزيها لكثرة تسلقه النخيل دون حاجته لوساطة الحبال التي تحيط جسد من يتهيب صعود عاليات النخل ....

يقول  (شاهرا سبابته) أمام أعيننا التي حملقت بوجهه مندهشة ....سأسرد لكم حكايتي وأجعلها كتابا مفتوحا أمامكم كي تحفظون هذا الكتاب في حقائب ذاكرتكم واقرأوه في قادم أيامكم .....أما جدتي فكانت تعطف على غضاضة عقولنا وصغر أعمارنا ....كنا نقرأ ذلك في عينيها قبل ان تبوح به ....

سأله أحد الصبية ....ولم تسرقون ذخيرة القطار...؟؟

قال: وقد تغيرت ملامح وجهه الى الجدية والحزن وكأنه يحمّل نفسه أثقال عبء الماضي بكل تفصيلاته فيتوارى بوجهه عنا  خجلا حين يطرق رأسه أرضا وهو يقول ...... كان الرجل منا ينوء بحمل مسؤوليته تجاه واقعه المضطرب وصعوبة حصوله على لقمة عيشه مع أفراد أسرته بينما كانت ثكنات الانكليز ومخازنهم مملوءة بالعتاد والذخيرة إضافة لذخيرة المواد الغذائية المتنوعة  بينما ينتظر الناس ان تجود السماء بقطرات المطر ..... يؤدون صلاة الاستسقاء في انتظار ان تخضرّ أمانيهم  وتتنفس  مزارعهم   ..... والفقر آفة تأكل أجساد الناس الفقراء  تباعا ......

وحين أصبحنا في قلب الذخيرة المتراكمة داخل العربات اشتعلت فينا عناصر إرادتنا الكامنة  لننتقم لكرامة  مجروحة منذ سنين .....أخذنا نرمي الأكياس على حافتي الطريق أكياس الرز /الحنطة / السكر /الشاي /الزيت / والتي كانت أسعارها في السوق آنذاك خارج فهمنا ومعرفتنا ....وما هي إلا لحظات قليلة  حتى تجمهر آلآف  الناس العارية أجسادهم  ....كانوا على يقين تام ان هذه الذخيرة  من أجلهم وهي حقهم المشروع ....فكانت عملية تنظيف تامة لجميع عربات القطار ....

لم نسرق أبناء جلدتنا ....!!

لم نخن عقيدتنا وديننا ...!!

لا يوجد بيننا من يجيد القراءة والكتابة إلا واحدا .....كنا نسميه  الأفندي وحين نجتمع في البساتين والمزارع يبادر الأفندي بإلقاء محاضرته قائلا: ان ما يملكه الانكليز هو جزء من ثروتنا الوطنية وحين يسرقون  حقنا عنوة علينا استرجاعه عنوة أيضا ....

مهمتنا خططنا لها مسبقا ....فقد توزعنا على طول الطريق المحاذي لسكة القطار عند أول دخوله محطة مدينتنا .....

لا أشعر بالذنب الآن .....قال جدي ثم رفع يده اليمنى وأشار لخنصره بكبرياء وتعال وهو يقول .....أنظروا فهو شاهدي فقد اقتلعته شفرة حادة في باب القاطرة حين تسلقت العربة خلال ثوان فقط . وكان حصادي عشر بنادق....

وحين انتهت مهمتنا ...وغادرت عربات القطار مدينتنا ....اقتربنا من الهلاك ونحن نلقي بأجسادنا صوب المزارع والحقول ....لكننا لم نجد ما نعود به من الغنائم لأهلنا .. سوى تلك البنادق اما  مواد التموين فقد تلقفتها أفواه الجياع...!!!!!       

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2216   الجمعة  31 / 08 / 2012)

في نصوص اليوم