تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

الإشارات / بشرى البستاني

تبصر على مرآة المياه وجهه الذي لم تره قط.

لم يكن يؤمن بالتواصل، وكانت تكفر بالانفصال.

كان مولعا بالغياب، بينما هي مفتونة بالحضور.

حينما احتدمت لحظات الصدام اختار البعد وركنت هي إلى الصمت.

 لم تحاول نسيانه، كانت في كل منولوج تحسم أمرها على المقاومة. ولماذا تنساه ما دام حضوره يشعل في روحها الأنهار والنيران والقصائد؛ فتحتدم الأسرار وتهدر الزوابع ويموج الطوفان.

هو مفتون بما لا يبوح وما لا تدري، وهي لا يعنيها أن تدري، كل ما يعنيها الإشارات، لم يستوقفها أحد من قبل. كانت تحاورهم، تقلّب الأمور معهم، تصنع قرارات عمل وتمضي. وهم يخشون التقرب أكثر، كان بعضهم يطلق الإشارة فيرى الطرق مقفلة ويصمتان.

هو في اللقاء الأول أعطاها هاتفه، في اللقاء الثاني راسلها، في اللقاء الثالث كتب لها.. أفتقدك. واشتعلت المواسم.

قال لها في اللحظات الأولى، مزاجي سيء، طباعي إشكالية، المعضلة فيَّ وليس في الآخرين، أنا لا أطاق...

لم تصدق، كان من خزائن التاريخ يُطلُّ عليها، ومن كنوز خيال مركب، خيال شرحه ريجاردز وقبله كوليردج لكنها لم تحاول ان تفهمه، فتنها كوليردج في الحديث عن متتناقضات فعل الخيال وكيف تصطرع لتتشكل متداخلة من جديد، لكنها لم تفهم غير محاولات المزج واقتحام الحدود نحو مجاهل غامضة، فجدل التضادات كان موطن اشتغالها. إنه السحر الذي فتنها بتداخل كل شئ بكل شئ، المهم أنها أدركت أن الخيال المركب يشكل صورا جمالية معقدة تصدر عن وعي معقد وتتسم بالغموض.

قالت له، لا أصدق أنك بهذه الغرابة. قال : سترين.

وجاء يوم، وعلى حين غرة، وجدت كل الأبواب مقفلة وبلا سبب، الهاتف صامت. والرسائل غائبة، والنت معطل.

والتاعت... ثم تذكرت.. أنا لا أُطاق. وصمتت.

قالت لها رفيقتها في المونولوج، أنت مخطئة، لقد اخترت بقعة من الصمغ فيها جاذبية غواية مقيتة، إن لم تتخلصي منها ابتلعتك الهاوية. لم تسمع.

قالت لها، هذه مشاعر ملتبسة. ضحكت في سرها.

في سرها تدرك أن الحياة التباس ديمومة مُرة، شديدة الغرابة، بالغة العقد، وبلا بؤر على الإطلاق..

في سرها مخلوقة صلبة مرهفة، قوية شفيفة، عنيدة مرنة، مخلوقة لا يعنيها أن يكون الأمر مشاعر ملتبسة أم حبا ملتبسا أم مشاكسة مركبة، أم اشتباك موت بحياة، لا يعنيها أنه صادق أم غير صادق، ليس مهماً أن يكون مولعا بالبحث والتجوال كما يقول المنولوج. ولمَ لا يبحث ؟ أليست هي مولعة بالبحث في مجال آخر، ليكن، ولتجرب أمرا كهذا مرة واحدة هي الجليلة الصامتة دوما والمنهمكة بتغريب الأشياء. إنها تعرف أن الحياة مشتبكة بالصدق والكذب، كم مرة سألها محترمون : كيف أنت..؟ فتجيب، بخير.. مع أنها في الدرك الأسفل من العذاب، ألم تقتنع أن اللغة مضللة وان الصمت صدوق، ألم تدرك من زمن بعيد أن المحض خرافة، قالت له ذلك  فوافقها مرددا : هو المد والجزر..

الحياة حقل مشتعل بالتجارب وهي لم تجرب إلا في المناطق المأمونة حيث الأبيض والأسود جليان، لكنها اليوم مفتونة بمزج الألوان، بلوحة الاشتباكات، بمشاهد الصدام لعل الجنين الجديد يصرخ محتجا، وفي احتجاجه تنبلج مرابع النعيم.

ما هو النعيم إلهي، ما سرّه، ما معناه، ما مدياته، كيف الإمساك بمكنوناته، منذ طفولتها المبكرة وهي تعدو وراء الدلالات، والدلالات خادعة، مخاتلة، تلبس لكل حال لبوسها.

يوجعها اليوم هدير الفتيان في الشوارع بحثا عن المعنى الذي حجبه ويحجبه خونة الإنسان وحاملو شارة السقوط عبر العصور، والمقاتل يصير ثائرا مناضلا مرة، وسفاحا مخربا هناك، والحقيقة تقاس بمكاييل وليس بمكيالين، فأين هو اللبس ؟ في العالم الكبير المعقد الملتبس أم في صدقها وفي الصفحة البيضاء التي ترنو لأنامل تُزيح وحشتها، ورفيقتها تقول بغضب ابحثي عن الحقيقة..

ابتسمت ثانية، فالبحث عن الحقيقة انشغال عنها ؛ البحث عن الحقيقة هروب منها ؛ لان الحقيقة في عرفها ما نشكله نحن عن جوهرها، وها هي الحقيقة تتشكل، تقابلها وجها لوجه، لا يعنيها ما قال وما سيقول، لا يعنيها عصيانه ولا الصحارى التي تفصله عنها ؛ فما تسميه الروح فردوساً تسميه الذريعة جحيما أو لبسا، وهي لا تعنيها المسميات، فالعلاقة اعتباطية بين ركني العلامة، وحرية الدالات تمنحها قوة على الإقدام، ومذ وجدت الحداثة وما بعدها صار اللبس سمة جمالية، فلتعش هذا الإحساس جماليا ما دام لبساً مبرءاً من الذرائع، إحساسا يتطلع لكاهن البروق أن يشعل في الظلمات قناديل الولع ليستيقظ جمر الأرض. وهي تدرك أن جمر الأرض عصي على الاشتعال عصيان زمنيته المضببة بمحنة وجودها، الشيء الوحيد الذي يعنيها أن الإشارات التي تصدر عنه تشعل البركان، وان البركان يتفجر عن غابات زيتون وشعر ورمان.

 تتوهج الأقلام وتندى الصحف ويموج في الأرض جنون من زبرجد ؛ وذلك وحده المُراد.

نعم.. هي الحقيقة، والحقيقة الملتبسة ألا قرار لغوايات دمه المشتعل بالنفور غير صميم روحها ؛ ولذلك لم تصغ للمونولوج لأنها وحدها من تدرك سر السؤال، وأنها لا تريد لهذا السؤال أن ينطفي.

أسكتت كل الأصوات وظلت كل صباح تفتح الهاتف حالما تستيقظ تبحث عن عبيره، لكنها لا تحزن إذ لم يكسر توقعها. في منتصف الليل تفتح بريدها وهي موقنة أنه غائب. وتواصل الحلم بعذوبة الغياب...

ظهر يوم ما، يوم شديد البرودة كانت خارجة من عملها رنَّ هاتفها برسالة، انزعجت. قالت : هو ذلك الطالب اللحوح، حذرته مرات من إرسال أسئلته في الهاتف لكنه لا يسمع.

فتحت الهاتف... وأغمضت.

عادت للرسالة ثانية، عباراته الموجزة، وأسطره المتباعدة. سألها سائقها : ماذا يريد الطالب؟

قالت له: قف. سأواصل للدار مشيا.

قال، كيف والبرد وهذه المزنة..والمسافة للدار ما تزال بعيدة.

فتحت الباب فاضطر للوقوف ونزلت.

هي في أقصى الشمال وهو في أقصى الصحارى، والخط الوحيد الواصل بينهما دجلة، ينساب كالزمن متعاليا على الموت. والماء مثل الزمن ينساب بخصب وفناء، ذلك هو الاشتباك الذي تعيشه دوما.. خصب وفناء.

برك الغيوم تتحول الى قناديل فضية ترسل نسائم دافئة، والشارع المزدحم صار حقلا يموج بسنابل قمح، والهاتف ساهم بكفها.

كانت تسير تحت المطر وعن يسارها النهر مجنونا بالزرد يشتعل السمك في أحشائه.

عن يسارها دجلة تشكل أمواجه أهلةً تتداخل بعناق ثم تتباعد وتتلاشى في اصطخاب المياه، لتتشكل مرة أخرى، لكن بماء جديد.

كانت الرسالة تخبرها انه أرسل لها طردا في البريد.

البريد بطيء وقد لا يجيء بالمُراد.

لا يهم، مادامت هديته ستزرع وردا في محطات عبورها، فلتتأخر ما شاءت، فقد علمها غيابه الصمت والصبر والتجلي، وحتى لو لم يصل البريد، ستظل تنتظر دون طمع بثواب تضحية ما، فهي لا تحب التضحية ولا منة الضحايا، لأنها مؤمنة بالعطاء، وهي مؤمنة بالإرادة تتحمل تبعاتها.

نعم ستنتظر، فأن ننتظر يعني أن نحيا.

كانت قبله صارمة، مؤمنة بالنتائج، ومعه صارت مؤمنة بالنوايا حتى لو كانت النتيجة استشهادا كالذي تعيشه.

حين وصلت الدار انهدت على السرير، منتشية ببللٍ كان يغمرها.

أغمضت،

وأفردت ساعديها كمن لا يريد أن يستيقظ.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2218   الاحد  2 / 09 / 2012) 

في نصوص اليوم