نصوص أدبية

دلو في بئر بصية / حامد فاضل

ليتخفى بستار الزهد الفطري، ويكمن لاقتناص لحظة المرأى التي ربما تكون قريبة من عين المخيال /  تتنفس في مسامة رمل / تسبت تحت حصاة /  تكمن في ندبة حجر /  تتلصص من شجيرة / تختلس من بقعة عشب / تلبد في كهف / تغور في بئر / تمكث في قلب كمأة /  لكنها لا تسفر لعينين أدمنتا الارتطام بالجدران، أو تبوح بأسرارها المكنونة في كتاب الصحراء الذي لا تنقاد صفحاته إلا لأصابع العاصفة .. هاأنذا أتهجد على مرآة الرمال المسفوحة في طريقي إلى مكمن الفطرة التي أودعها الخالق في سر المخلوق لعلي أنفذ من لحظة بوح العاشق والمعشوق في مرآة الصحراء التي لا تعكس مرأى البصر، ولكنها تزدحم برؤى البصيرة .. يا لصبر الصحراء العطشى، أي كبد أودعه الله في جوفها .؟ يا لحرقة ذلك العطش القدري الذي ورثته من العصر البرمي ( الزمن الأول ) أيام كان بحــــــــــر ( تثس Tethys ) العظيم يلقي بسطوته على معظم أقسام البحر الأبيض المتوسط، ضاما بردائه المائي أراضي / سوريا / لبنان / العراق / إيران / متطاولا لينوش بذراعه شمال الهند، غير مكترث للأراضي التركية الظاهرة فوق مستوى سطحه(1) المتلوي بتململ البحر الدائم من بقايا متاع القارة ( الاركية) . تلك الصخور النارية الكامنة تحت سطح العراق منذ أقدم الأزمنة والعصور الجيولوجية  .  والتي تطفو حرارتها على وجهه / فيرعد  / يزبد  / يتخبط / ضاربا الاتجاهات الأربعة بأذرع عشوائية، ويطفح صاعدا إلى قمة جبل ( كوندونالند) ليعب هواءً بارداً يطفئ سخونة أحشائه، غير منتبه إلى إغراق منطقة بصية المتشبثة بحافة ذلك الجبل .. حتى إذا ما ابترد، وهدأ، وزايله الغضب، انزلق عن ظهر الجبل ساحبا أطراف ردائه، معمماً رأس بصية بعمامة مطرزة ببقايا الترسبات، ظلت تجثم على رأسها كنسر خرافي حتى أواخر العصر الطباشيري (آخر عصور الزمن الثاني) .. حقب مرت .. وحقب، وعمامة بصية تتأرجح مابين جنون البحر، واتزانه . حتى ابتلعته أفواه سنوات عجاف من / الجدب / الجفاف / القحط / فانكشفت بصية حاسرة الرأس أمام عين السماء التي أبصرت أثقال بحر ( تثس) التي كان يلقيها عن كاهله، كلما صعد الجبل، ويفرغ جيوبه كلما نزل .. فأرسلت الشمس لتحرق بقايا الغدران والبرك، وتفتت بشواظها فلول الجنادل، وأمرت العواصف بنثر فتات الحجارة، والهواء بغربلة الرمال، والنسيم بخلع غلالة الطراوة على جلد الأرض .. فنمت الأعشاب بين أحجار/ الملح / الرمل / الطباشير / وامتلأت الأرض بالصلصال المنحدر من عصر الميوسين( عهد فارس الأعلى) .. فانبثقت عيون النمل مالئة الأرض بالثقوب..انسابت الزواحف على الرمال، واستقبلت الكهوف / الذئاب / الضباع / الثعالب / الدعالج،القطط الوحشية /  لتغير على الأرانب والغزلان التي ترتع في الوديان .. حطت / النسور / الصقور /الشواهين / على قمم ( القارات2 ) لتروع / الحبارى /القطا  /اليمام / وسكنت / الثعابين / اليرابيع / القوارض / الحشرات / بطن الأرض،  بعضها يأكل بعض .. ونمت شجيرات / السدر /الغضا /الرمث /النيتول / الرغل / الطرطيع / وجاء رمز الصحراء ليدشن الأرض البكر، ويطأها بخفوفه .. يختال طاويا الرمال رافعا رأسه فوق رقبة طويلة يشم رائحة المراعي العذراء المبثوثة على أجنحة نسيم البر، مسبلا ستارة أجفانه الطويلة، ناشرا شراع سنامه ليمخر عباب بحر الرمال، ويركز لواءه في بؤرة الريح، واشما آماد الصحراءً، ليكون ثاني أثنين، البدوي أول من نصب في الصحراء خيمة، والجمل أول من حمل البدوي، ليطوفا معا بين ( الدبدبة والحجارة )، وهما اللذان يجهلان طبوغرافية الأرض التي قسمت بصية إلى منطقتين، همــــــــــا الدبدبة في أقصى الجنوب الشرقي من الهضبة الصحراوية، وتلي وادي بصية مباشرة باتجاه جنوب شرق مركز الناحية. وهي اليوم منطقة منبسطة، فرشتها الرياح بالرمال، والسيول بالحصى المتفتت من أحجار الكوارتز، تظم في حناياها، ودياناً تتجه نحو الشمال الشرقي حيث تلوح لعين الرائي الحافات العالية لوادي ( لويحظ) كما تبدو الكثبان الرملية المتحركة بين شمالها الشرقي، وجنوبها الغربي، مثل أسنمة كبيرة .. والحجارة في جنوب الهضبة الصحراوية، إلى الغرب من مركز الناحية، وهي منطقة تكتظ بالصخور ذات الحافات الحادة التي وسمت اسم المنطقة التي يسميها البدو بالبادية الجنوبية. والتي تركت شمالها للوديان، ونما في شرقها خط ( القارات) ليصل إلى  ارتفـــــــاع300  متر، وهي مفتوحة على الحدود السعودية من جهتي الجنوب والغرب .. ولقد تحالفت الرياح والسيول على نقل المواد المتفتتة التي ينتجها مصنع المناخ الصحراوي حيث التفاوت الكبير في درجات الحرارة بين الليل والنهار، الذي ساعد على تكسر الصخور، وتفتتها، لتشرع حافاتها الحادة . فتبدو الأرض وكأنها مزرعة سكاكين، مما يتسبب في عرقلة سير القوافل

.......................

من المكتشف لبادية بصية .؟ أكان / فارساً / غازياً / صياداً /  تاجراً / مهرباً / صعلوكا ً / أم عابر سبيل، حملته دابته، أو قادته قدماه إلى تلك الأرضين الممتدة من خط ( نفود3 ) حافة الجزيرة العربية إلى حضن النهرين / ألقى عصاه  / خلع فروته / فتح زوادته / أراح جسده /  ليمتص نداوة ليل الصحراء على مطرح الرمل البارد . مبهورا بالأرض العذراء الضاجة بالحيوات . ليكون أول شعث البداوة .. القواف الذي بشر بها كبؤرة التقاء للقبائل العربية التي جابت تلك المناطق أو سكنت في وديانها من قبل عصر الرسالة الإسلامية يوم كان الرعي هو الحرفة الأكثر شيوعاً في ذلك الزمن .. فمن بني تميم في وادي شقرا، أو وادي الغضا حيث تتشابك أغصان شجيرات الغضا التي شهدت مرثية مالك بن الريب الذي وصفه صاحب الأغاني بالشاعر الفاتك اللص الذي تاب على يد والي خرسان في زمن معاوية، سعيد بن عثمان الذي اصطحبه، وأجرى له خمسمائة درهم في كل شهر، فانخرط في جيشه، وقاتل معه في بلاد فارس .. يشير أبو الفرج الأصفهاني إلى أن مالكا مرض وهو في طريق عودته بعد الانتصارات الباهرة التي حققها جيش الفتوحات الإسلامية .. فتخلف في وادي الغضا، هو ومرة الكاتب ورجل آخر من بني تميم . وهما اللذان يخاطبهما مالك بأبيات مرثيته الشهيرة.. أقسم أني حين نزلت لأول مرة بوادي الغضا أن مزنة من شعور غريب لا توجد إلا في ذلك الوادي، رشقتني على حين غرة، فنسيت نفسي، ونسيت صديقي البصوي . ووجدتني مشدود العينين إلى ضوء نار الغضا الذي احتطبناه .. كل غصن نلقيه، يمنح نفسه بسخاء لنار الموقد ليضوع شذاه، وينشر ضوءه ممزقا درقة الليل حولنا .. الليل الذي شهد احتضار الشاعر، وحفر أبيات مرثيته في جذوع النجوم، وعلى جبين القمر، ووجه الرمال، ونضح  (القليب4 ) ودفء الغضا .. الليل الذي ما يزال يُسْمِعُ من يريد أن يَسْمَعْ مرثية ذلك الفارس العربي .. ما عليه إلا أن يمتطي ناقة الرؤيا، ويتدفأ بالغضا، ويخلي زمام المخيلة .. ذلك تهجد صحراوي، لا يصله إلا القلة الخلص من عشاق الصحراء .. وقد فعلت . فهامت الروح مني، وفي ذروة التهجد، سمعت صوت ذلك البدوي مالك أبن الريب يتردد في داخلي :

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلــــــــــة        

                         بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه         

                         وليت الغضا ماشي الركاب ليا ليا

لقد كان في وادي الغضا لو دنى الغضا   

                         مزارا ولكن الغضا ليس دانيا

هي لحظة من نقاء، لحظة من حنين، لحظة من زمان سحيق . لا تمنح نفسها مرتين، اقتنصتها في ليلة من ليالي الغضا .. انه ذلك البدوي الذي ألف المبيت في العراء، ذلك البدوي الذي أدمن صيد وحوش الصحراء، ذلك الصنديد الذي لم تنل منه أهوال الحياة، أسمعه يرثي نفسه وهو على حافة هاوية الموت :

تذكرت مَنْ يبكي عليّ فلم أجــــــــد         

                         سوى السيف والرمح الرديني باكيا

وأشقر خنذيذٍ يجـــــــرُ عــــــــنانه         

                         الى الماء لم يترك له الدهر ساقيــــا

ولكن بأطراف الســـمينة نســـــوةٌ         

                         عزيزٌ عليـــهن العشــــية ما بيـــــــا

صريع على أيدي الرجـــــال بقفرة         

                         يسوون رحلي حيث حُمّ قضــائيـــــا

ولما تدانــــت عند مـــــروٍ منيتــي       

                         وخَلّ بها جسمي وحانـــت وفاتيـــــا

فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا        

                         برابية إني مقيـــــــم. . .   لياليـــــا

أصرخ الله .. الله، وأنا أسمع ذلك الفارس البدوي الذي وكنه في الذرى وهو يطلب من صاحبيه:

وقوما إذا ما استلّ روحي فيهيئا          

                         لي الســــدرَ والأكفانَ  ثم ابكيانـــــيا

وخطا بأطرافِ الأسنةِ مضـــجعي         

                         وردا على عينـــيّ فضـــل ردائـــــيا

ولا تٌحشداني بارك الله فيكما            

                         مِن الأرض ذات العرض أن توسعا ليـا

خذاني فجراني ببردي إليكما          

                         فقد كنـــــــت قبل اليوم صــعباً قياديــــا

 ففرشت لأحلامي بذلك الفارس البدوي مطرحا في العيون، وبت أصورها كيف أشاء .. لأصحو على فجر يوم بصوي جديد، تفرش الشمس غلالتها على رماله، وعلى الماء والعشب والإبل المستجمة في المراعي .. ترى هل تعي هذه الإبل أنها ربما تنتمي إلى السلالة العريقة لتلك الإبل التي كانت تجوب مضارب بني شيبان في منطقة أبي غار، يوم كانت بئر بصية مركزا لالتقاء قوافل / الشمال / الجنوب / الشرق / والغرب / .. يا رواة البادية، يا حفظة كتاب الصحراء، أيها الحكاؤون المالكون لخزائن أسرار /  الإبل / العشب / الماء /الرمل / من يدلني على ذلك النساب العليم الذي ورد ذكره في حكايات المضايف .. ذلك القواف الأسطوري الذي تتبع جذور تأثيث الصحراء بالكائن الحي، ليخبرني عن أصل هذه الناقة ( الوضحة5) التي تخطر أمامي بين شجيرات الرمث .. سأترك لمخيلتي من هذا الوقت إلى أن أجد ذلك النساب، رسم شجرة كل ناقة .. فربما كانت هذه ( الوضحة ) من سلالة ناقة الأعشى، أو النابغة الذبياني، أو الداهية أكثم بن صيفي، أو منصور بن عمرو، أو عمرو بن ثعلبة .. وربما كانت تلك الذلول ورقة من شجرة ذلول النعمان بن المنذر، أو الحارث بن عباد، أو قيس بن مسعود، أو هاني بن مسعود الشيباني ..أما هذه النوق الجميلة المغطاة ظهورها بالازر الجنوبية، فقد تكون من حفيدات نوق هند ابنة النعمان، أو صفية ابنة هانئ، أو الحجيجة ابنة ثعلبة .. في أية صفحة من كتاب الصحراء تشخص مضارب ربيعة، وبكر بن وائل، وبني شيبان .. يا لقوة وصبر أولئك الأعراب الذين نحتوا هذه الآبار في حجارة بصية وتركوها فاغرة لدلاء الزمن .

.......................

من يحضر روح البصوي الأول الذي احتضنت رئتاه أول نفس مفعم برائحة البئر لحظة هبوطه من رحم السماء إلى رحم الصحراء . صارخا معلنا عن تَسَلٌمِهِ السر الإلهي مبتدأ مسيرة الحياة بخطوة بكاء .. ليتخلى بعد حفنة سنين عن آخر نفس مثقل بالنقائض لحظة عروجه من رحم الصحراء إلى رحم السماء . صامتا معلنا عن تَسْليمه السر الإلهي، منهياَ مسيرة الحياة الدنيا، مبتدأ مسيرة الحياة العليا بسكرة موت .. ذلك القادم من رمال الصحراء، والذاهب إلى رمال الصحراء، محمولا على براق الفطرة .. البدوي الذي لم يذكر اسمه في متن التأريخ، البصوي المتناسل في ذاكرة الرواة، المنثور رفاته في ذاري الرمال، الكامن في مسامات الحصى، المدحوس في شروخ الحجارة، الذائب في جذور العشب، الحامل إلى البرزخ جراب ذاكرة مثقل / بالغزو / القنص /الرعي / القصيد / الحداء  /التبغ / القهوة /  أي ساحر عليم يسحر أعين الناس، يكور كوفيته المضمخة بالطلاسم، ويطلقها كالصقر لتقنص طرائدها من أساطير الأولين قادر على أن يريني البصوي وهو يقاسمني ليل المواقد .. أي درويش متحالف مع قبائل جن بصية يأمر أتباعه ليأتوني به قبل أن يرتد إليَّ طرفي، فيشاركني / ليال السمر / كرم المضايف /حكم الشيوخ / رقص الدلات  / قبلات الفناجين / غواية التبغ / قرض أوراق اللفائف / أو يطربني بغنائه، ويهزني بربابته، التي ما تزال تسمع في شساعة الصحراء، ما دامت الصحراء تتنفس مع الصبح، وتعسعس مع الليل .. أية صورة للبصوي تتشكل من خيوط الليل الشتوي القارس الداكن المليء بأشباح المخيلة، التي تنسجها ألسنة الحكائين المدربة على غزل الحكايات في أنوال الكلام .. أي مرود تكحل به مخيلة الجدات أجفان الأحفاد اللائذين بدفء الأحضان، المغالبين خدر الوسن، وهم يحلمون بتلك البدوية الضاربة في مسارب الصحراء التي ستنصب أول خيمة بصوية بحذاء البئر .. تسعة أشهر وهي تنوء بحملها، تصره في رحمها، وتنقله في بطنها من ظهر ناقة إلى ظهر ناقة في غدوها ورواحها .. حتى إذا فاجأها المخاض، واتسعت عيناها من الم الطلق، أبصرت بصيص الماء الطافح من جوف البئر وهو ينساب بين الرمل والحصى . فانتحت عن القافلة، شدت زمام ناقتها وانعطفت نحو البئر، لتختفي وراء الجنادل، تنطرح على ظهرها، تفرج عن فخذيها، وتكتم صراخها بذيل جديلتها مفسحة الفضاء لصرخة وليدها .. قبل أن تنهي قضم سر أول وليد بصوي، وترمسه بماء البئر، وتلفه بقماطه :

 القماط استدعى المهد

 المهد استدعى الخيمة

 الخيمة استدعت المنتجع

 المنتجع استدعى القبيلة

 القبيلة استدعت الشيخ

 الشيخ استدعى المضيف

 المضيف استدعى المكان

 المكان استدعى الاسم

 الاسم أوجده بصيص الماء

 الذي يومئ لعين البدوي من مسافات بعيدة .. عندما يلقم فم الأفق حلمة البئر لحظة عناق الزرقاء والغبراء على قارعة الصحراء التي دحتها يد الخالق، ووطأتها قدم المخلوق، لتكون البئر محطة استراحة للقوافل العربية القادمة من نجد، والقاصدة إلى مدن العراق الجنوبية للتبضع والاكتيال .. هل يمكننا أن نتلفع بيوت الشعر المتوحدة مع لون الليل المكلكل عل آماد الصحراء .. أن نحصي النجوم الأزلية، فنارات الصحراء التي اهتدى بها الأدلاء /القوافون / الحداؤون / الذين قادوا قوافل / الغزاة / الشيوخ /التجار / الرعاة / العبيد / الذين ألموا ببئر بصية قبل أن تستوفي الرمال تراب أجسادهم في السنين الخالية .. سأطبق أجفاني على وسن شفيف كما تفعل الإبل حين تداهمها العاصفة، لعلي أرى أولئك البدو الذين كانوا يتركون جمالهم تجري خببا فوق الرمال . مطلقين عنان حناجرهم للغناء، تاركين أعينهم تفتش في الأفق عن بصيص الماء .. أسعفيني أيتها المخيلة التي لا أدري / كيف / متى /أين / تكمنين لاقتناص لحظة الرؤيا..اكشفي نقابك، أسفري،  أريني وجه دليل واحد من أدلاء القوافل المكدسة في خرج الراوي، أفسحي لي . دعيني أراه وهو يصنع من كفه مظلة لعينيه ليتقي شواظ الشمس، ويهزج لمرأى البئر منادياً عطشى القافلة : (ابشروا تلك هي بئر بصية)  ستخب الإبل التي قادها حدسها قبل نداء الدليل مادة رقابها الطويلة باتجاه الماء والزبد يرغو على شفاهها الغليظة المتدلية كأنما توشك على السقوط، ستعب من الماء ما يكفيها للوصول إلى أسواق / الخميسية / الزبير / الناصرية / سوق الشيوخ /  حيث يتم تبادل السلع والمتاع .. فيتحول ما جلبه البدو من / أغنام / ماعز / أرانب / خشف 6 / قطا / حبارى / يمام / سمن / كمأ / وبر / فراء / لحم مقدد / إلى / عتاد / بنادق / خناجر / مشالح / أحزمة / أخفاف / عباءات / يشامغ / كوفيات / قهوة  / تبغ / دفاتر لفافات / .. ولا يمكث البدو في المدن أكثر من فترة التسوق، ولا يرفعون اللثام عن أنوفهم حتى تختفي الأسواق من العيون .. عندما يعودون إلى أحضان الصحراء فيكشفون وجوههم تاركين مناخيرهم تعب الهواء النقي، وهم يصدحون بغناء القصيد على ظهور الإبل التي تخب فوق الرمال عائدة إلى بئر بصية

.......................

 

هل دار في خلد تلك السيدة الإنكليزية التي فاجأها المخاض في منزل في برستون في لانكشاير بإنكلترا المكللة برغوة الضباب، أن الوليد الذي انزلق من رحمها، سيحل يوما في بئر بصية ليلتقي بذلك البصوي الذي ولد في يوم يجهله التقويم الميلادي ليرسما على بساط من الرمل خريطة بصية، ويصنعا تأريخها الحديث في خيمة مغزولة من شعر الماعز .. وهل ظنت أن صدر وليدها الذي وضعته في يوم 16 أبريل 1897 وعمدته باسم جون سيزدحم بالأوسمة والنياشين التي سيحصدها جون فيما بعد من ساحات معارك الحرب العالمية الأولى . قبل أن يصل في عام 1920 ليعمل برتبة ضابط مهمات خاصة في صحراء بلد يقع في جنوب شرق آسيا . أهدته معاهدة سايكس بيكو لانتداب بريطانيا العظمى، بعد أن كان لأكثر من ستة آلاف عام خلت يزين صدر الدنيا بنياشين الحضارة . . فيتخذ من المنطقة الجنوبية في بلاد ما بين النهرين، مركزا لعمله، وفي الجزء الذي عرف قبلا باسم المنطقة المحايدة بين العراق والسعودية .. ليتولى مكافحة الغارات التي كانت تشنها القبائل النجدية ضد قبائل البدو العراقية، فيحصل من البادية على لقب باشا .. في ظهيرة ساخنة من ظهيرات الصيف البصوي المضاء بغرة شمس ناصعة متوهجة .. ربما كان السراب يخرج لسانه لعيني السير جون غلوب باشا، ضاحكا من اجترار ذاكرته لضباب صباح شتوي من صباحيات لندن الصاقعة وهو يتمايل على (الشداد7) المثبت على ظهر الناقة الوضحة التي ستمنحه لقبا آخرا، يضاف إلى ألقابه الكثيرة هو صاحب (البويضة) لبياض وبرها الذي يحاكي بياض الصخور الكلسية التي تحدق من مكانها في قمم القارات بالرجل الإنكليزي الذي لا يشبه دليله البدوي برغم ملابس البدو التي يرتديها .. يشير الدليل إلى بصيص الماء الذي لا تراه عينا السير غلوب باشا : (نحن على مرمى رصاصة من بئر بصية) . فيحث الضابط الإنكليزي ناقته للحاق بناقة دليله .. يترجل عند المضيف ليدخل التأريخ البصوي .. في المضيف يرفع السير غلوب اللثام ويسفر عن وجهه فيحصل على لقب (أبو حنيك)، عندما يبصر البدو الجالسين في المضيف أثر الجرح الغائر في الفك الأيسر من حنكه . والذي أصيب به أثناء الحرب العالمية الأولى في معركة على مقربة من مدينة آراس عام 1917 .. بعد سبع سنوات من ذلك اللقاء الذي جمع ذاكرة السراب بذاكرة الضباب. ذاع صيت أبي حنيك في البادية الجنوبية، بعدما استبدلت دماءه السكوتش، بالقهوة، وامتلأ صدره بدخان اللفائف بدلا من دخان السيكار، وتدفأ بنيران الغضا بدلا من نيران مواقد الخشب، وشبع من حليب النوق، ولحم الغزلان، وأترعت مخيلته بقصص الجن، والغزو، وأطربه غناء القصيد، وساح في بادية بصية قانصا، صائدا حتى أجاد لهجة البدو، وتشبع بعالم البداوة، فدفن غطرسة المستعمر في أعماق ذاته الباردة .. بعدما نفذت رائحة الصحراء إلى كل مسامات جلده الأبيض كجلد ناقته .. كانت السنوات السبع التي قضاها أبو حنيك في البادية الجنوبية قبل مغادرته الصحراء ليعمل مفتشا إداريا للديوانية، مليئة بالغارات القبلية، وخاصة في الجزء الشمالي من الجزيرة العربية .. بحيث وصلت إلى بعد أميال من مقر القوة الجوية البريطانية في الشيعيبة .. لذا فقد أوصى السير غلوب ببناء حصن للشرطة عند بئر بصية  لاعتقاده بأنها أبسط وسيلة لإنهاء تلك الغزوات الصحراوية . وإذا ما زود بجهاز لاسلكي، فان السلطات المختصة تستطيع بكل سهولة الحصول على أنباء تلك الغارات والتحركات القبلية، وقد تم في شهر أيلول سنة 1927 إرسال اثني عشر عاملا إلى بصية، يصطحبهم سبعة أفراد من الشرطة الهجانه لبدء العمل ببناء الحصن .. وفي ليلة الخامس – السادس من شهر تشرين الثاني هاجم خمسون رجلا من قبيلة المطير بزعامة فيصل الدويش العمال وقتلوهم جميعا إلا رجل واحد نجا من الموت بأعجوبة . مما اضطر الحكومة إلى إرسال فريق عمل آخر مصحوبا بسيارات مدرعة تابعة للقوة الجوية البريطانية .. وإذ ذاك اكتمل بناء الحصن الذي وصفه ابن سعود بالحصن المشؤوم، وطالب بتدميره ولكن الحكومة العراقية ردت بأن حصن بصية وجد لمساعدة الحكومة في منع غارات القبائل على أبن سعود نفسه.. في عام 1930 غادر السير جون باغوت غلوب باشا إلى الأردن بعد عشر سنوات قضى سبع منها متنقلا في البادية الجنوبية وفي منطقة بصية بالذات .. وقد انصرف بعد عودته إلى بلاده إلى البحث في تأريخ الأمة العربية وألف عدة كتب بذلك.. كما كتب مذكراته عن تلك الفترة التي قضاها في العراق .. وكانت نواة بحوثه عدة محاضرات ألقاها في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي بعض الأقطار الأوربية قبل أن يقفل خزانة خياله ويدفن ما تبقى من ذكرياته وهو يغادر الدنيا في يوم الاثنين 17/ 3/ 1986 بعد ثمانية وثمانين عاما منذ أبصر النور في برستون إلى لحظة وفاته بمنزله في ( مي فير ) .. ولعل روحه ما تزال تطوف حول بئر بصية التي وصفها بقفر قاحل أو مشهد لقمر جميلة نقية بآفاقها النائية وتلالها المتدحرجة ووديانها المغطاة بالشجيرات، وبتلك الفتنة السحرية التي تملأ المرء بالزهد حين ينزل للراحة وتناول الطعام على تلك التربة النظيفة النقية كأن لم يكن هناك إنسان وطأها من قبل .. في دقائق قليلة تكون النار قد أوقدت من شجيرات الصحراء الزكية الرائحة الشبيهة بالبخور .. ويمكنك الاستلقاء على مطارح الرمال الناعمة أثناء الليل بعد أن تلف نفسك بالعباءة . وكذلك لا يمكن أن تكون الصحراء خالية من الحياة ففيها تعيش / الخنافس /السحالي / اليرابيع /الغزلان / الثعالب / الذئاب /الضباع / وأغلبها تعيش من دون ماء .. غير أن الجمال الرئيس لبئر بصية قد يتمثل في نقاء الماء والهواء وفي الآفاق الزرق البعيدة .

....................

هوامش

1- جاسم محمد الخلف – جغرافية العراق الطبيعية ط 3 ص 20

2- القارات : أماكن مرتفعة

3-  النفود : خط رمل عال يفصل بين بادية نجد والبادية الجنوبية

4 - القليب: البئر

5 - الوضحة: ناقة بيضاء أصيلة جميلة

6 - الخشف : الغزال الصغير

7 - الشداد : سرج من الخشب يوضع على ظهر الناقة                 

         

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2219   الاثنين  3/ 09 / 2012)

في نصوص اليوم