نصوص أدبية
بيانات الحرف العاري (2) / زيد الحمداني
الا ان الوحشة بدت أشد وطئة في الليلة التي سبقت بدأ حرب تحرير الكويت في السابع عشر من كانون الثاني لعام الف وتسعمائة وواحد وتسعين للميلاد. كان الدكتور (د.م) على وشك مغادرة عيادته في حوالي الساعة التاسعة مساء حينما سمع صوتا يأتي من الممر المعتم خارج العيادة. لم يبصر احدا في البداية فظن ان الصوت احدثته قطة تتسكع بين الممرات الخالية بحثا عن قطعة لحم طرية شردت من فم صاحبها او عن هر صعلوك أضناه ليل بغداد البارد ويفتش عن صدر حنون يقضي بين حناياه الدافئة ليلته.
حين أغلق (د.م) باب عيادته وقبل ان يحكم وضع الاقفال احس بيد ثقيلة تهبط على كتفه. التفت الى الوراء فرأى رجلا طويلا عريض المنكبين ملامح وجهه لا تكاد ترى بسبب العتمة. كان يلبس دشداشة بيضاء تميل الى اللون البندقي ومن فوقها جاكيته زيتونية. ابعاده الجسمية المترامية تجعلان منه شبيها بمخلوق عادل الأمام (الشلولخ)!
-" دكتور قلبي يعورني -يؤلمني- واريدك تفحصني." كان يتحدث بلهجة تقترب من الأمر.
-" انا آسف ولكن موعد الدوام انتهى. واصلا انا مختص في الأنف والأذن والحنجرة. الأفضل تراجع مستشفى حكومية" اجابه الدكتور (د.م) بلهجة مهذبة.
-" دكتور.. يعني الي يفهم بالانف والاذن والحنجرة ما يفهم بالقلب؟! هذا كلام مو مقبول منك. يلا افتح باب العيادة وافحصني."
كان المريض الغريب الأطوار يتحدث مع الدكتور (د.م) و ينضو عن جسده الجاكيتة السميكة التي كانت تخفي تحتها شريطا طويلا يشبه وشاح التخرج الجامعي الا انه كان مزينا بطلقات مذهبة تنتظم الواحدة جنب الأخرى. كان يرتدي أيضا حزاما حول خصره وقد ثبت فيه مسدسا اسودا متوسط الحجم.
أدرك الدكتور أن الرجل الواقف امامه لابد ان يكون من جهة امنية او من اقارب الأسرة الحاكمة. حيث لا يجرؤ احد في تلك الأيام على حمل السلاح بطريقة مثيرة للرهبة الا ان كان مسؤولا في جهاز حيوي من اجهزة الدولة او يرجع نسبه الى عشيرة الرئيس.
-" طيب تفضل حتى افحصك." قال له الدكتور المغلوب على أمره وهو يعيد فتح باب عيادته ويكبس على مفاتيح الانارة.
اجتازا غرفة الأنتظار الصغيرة وصولا الى غرفة الفحص. تمدد المريض تلقائيا على سرير الفحص دون ان يطلب منه الدكتور ذلك. بعد ان فحص (د.م) ضغطه قال له:
-" ضغطك مرتفع، شنو الي صار؟"
-" والله ما اعرف شنو اقولك، كنا في ساحة النضال وطالعين على الكورنيش من جهة فندق الميريديان وفجأة خطم - مر بسرعة- بسيارته جدام سيارة الاستاذ وتعطل الموكب. طبعا الأستاذ جدا غضب وقال لي: شوف شنو قصة هذا الغبي. فلاحقته وجبرته يتوقف وبعدها نزلته من السيارة وضربته الى ان خليته يقطع النفس. وراها صار قلبي يعورني دكتور!"
أدرك الدكتور أن المريض المسلح ربما يكون قد قتل نفسا قبل قليل لذا فقلبه "يعوره" بعض الشئ. وسبب القتل لا يحتاج الى تأويل. فالمقتول قد "خطم" أمام موكب الاستاذ - وهو الاسم المتداول شعبيا للابن البكر للرئيس- مما أدى الى ازعاجه وبالتالي غضبه ويا ويل امه وابيه وزوجته وبنيه وجميع معارفه ومواليه من يغضب ابن صاحبنا!
2
كانت حنا مرتبكة بعض الشئ في ذلك اليوم، لذا طلبت من زميلها مارتن ان يقدم الجعة لضيوفهما غير العاديين. الطاولة المستديرة كانت مكتظة بكبار الساسة في المانيا والمرأة الحديدية تجلس وسطهم. تقدم مارتن حاملا صينية مذهبة عليها ستة اقداح من الجعة الالمانية الشهيرة "الهاينيكن". الشراب كان باردا الى الحد الذي جعل زجاج القدح يكتسي من الخارج بطبقة من الضباب الكثيف. ولأن من أصول الضيافة ان تبدأ بتقديم الشراب للسيدات، اقترب مارتن من السيدة انجيلا ميركل - المستشارة الالمانية - وقدم لها قدحا من الجعة كان يحمله في يده اليمنى.
الى هنا كان كل شئ يجري حسب اصول التقديم المتبعة في مثل تلك المناسبات. الا ان ما كانت تخشاه حنا وقع فيه مارتن وذلك حين فقد السيطرة على الصينية التي يحملها في يده الشمال مما ادى الى وقوعها في التوقيت الغير مناسب وفوق المكان الغير مناسب وامام كاميرات الاعلام. حيث انزلقت الاقداح الخمسة انزلاقا متناغما و انسكبت جميعها على قفا السيدة ميركل وتنقع ثوبها الأسود الانيق بماء الشعير الفوار.
بصراحة كنت اتوقع ان تهب السيدة من مقعدها وتعنف النادل تعنيفا ظاهرا او ان يتقدم احد مرافقيها لتفحص الأضرار التي لحقت بمؤخرة عنقها البيضاء. الا انه لم يحدث شئ من ذلك أبدا. وردة فعلها كانت شديدة الغرابة. حيث ارتعشت السيدة ميركل ارتعاشة من تصيبه قشعريرة برد مفاجئة ومسحت قفاها بيدها الشمال مسحتين او ثلاث مسحات ولم تلتفت مطلقا الى من قام بدلق الكؤوس المترعة بالخمر فوقها. بل حتى لم تنبس ببنت شفة غير آهة مكتومة حررها عنوة نُهير البيرة الذي مر ما بين صدرها والترائب!
عم الصمت لثوان قليلة جدا، ابتسمت بعدها المستشارة ابتسامة خفيفة لتطمأن من حولها. ثم حملت كأس الجعة مجددا والتفتت الى رفاق الطاولة وصاحت: تشيرررز...!!!
3
مابين الرجل سئ الحظ الذي "خطم" امام موكب ابن الرئيس في بغداد قبل عقدين من الزمان والنادل
الالماني الذي سكب البيرة فوق قفا مستشارة بلاده يبرز للبابا غنوج دور اخلاقي اكتشفته بمحض الصدفة!
فقد قرأت قبل فترة قصيرة انه كان يعيش في القرن الأول بعد ميلاد السيد المسيح وفي قرية صغيرة من قرى الساحل اللبناني والمسماة بكفر شيما او قرية الفضة قسيس جليل القدرعظيم المكانة في قريته أسمه غنوج. احد تلامذة القسيس المذكور كان يحبه حبا جما لذا صنع له في يوم من الأيام طبقا كبيرا من الباذنجان المشوي مع بعض الخضار والطحينة. لم يرض القسيس ذو القلب الطيب ان يأكل الطبق وحده لذا صار يلف على بيوت اهل القرية ويعطي كل بيت حصة من السلطة التي صنعها له تلميذه النجيب. اعجب الناس للغاية بما صنعه القسيس وصاروا يسمون الطبق على اسمه: البابا غنوج.
لذلك البابا طيب الذكر وصية وحيدة حفظتها لنا ذاكرة تاريخ موغل في القدم، يقول فيها:
(كن عاقلا ولا تغضب كثيرا، فالغضب يقودك الى ارتكاب أخطاء لا تغتفر). بصراحة لم أعرف من الساسة من استوعب هذه العبارة استيعابا واعيا كما استوعبتها السيدة الجليلة أنجيلا ميركل التي ظلت محتفظة بسكينتها حتى بعد أن بللت البيرة المهراقة ملابسها الظاهرة والباطنة وعلى رؤوس الأشهاد.
أما ساستنا الغاضبون والمقطبون دائما وابدا فيبدو ان تلك النصيحة لم تصل اليهم ابدا ولربما حتى لو وصلت اليهم ما كانوا ليستمعوا اليها على أغلب الظن. فامثالهم لا يمكن ان يتصالحوا مع البابا غنوج ولو تغنج لهم الدهر كله!!
أبوظبي
03/09/2012
تابع موضوعك على الفيس بوك وفي تويتر المثقف
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2220 الثلاثاء 4/ 09 / 2012)