نصوص أدبية

نشيد الماء / الحبيب ارزيق

ممشوقة القد، شابة لتوها تنضح بالبياض، رشفٌ من جوفها صفعٌ للعطش .. اشتراها ثم رجع من بعيد مطاردا بِحَرِّ الشمس وإن هو وقى رأسه بمظل من سعف، فقد عاد سيولا من عرق.

تحت تلك السقيفة - سقيفة الدار- نشرنا نعنعا جنب ندى الخابية، حاوية الماء، تحضنه الآن برقة الانتعاش، ثم شرعت تقطر يخضورا يافعا، وغلقنا كل منافذ الضوء، إلا بضع سيول من بقع هنا وهناك، ترتعش على خلفية سوداء، ذلك كان إزار أمي..

كانت الشمس عدوة لي ولأبي، كلما تخطى عتبة الباب تطاير غضبا من حرها، يا له من يوم قائظ. ثم يعود هاربا لرحمة الظل، سقيفة وما أحلاها، الملاذ الوحيد الذي نعتصم فيه لاجئين إليه من حر القيظ، ثم نتلفظ أنفاسنا في لهاث الفيء، ونشرع معا في مقارنة الأيام مع بعضها - أيام الصيف- لنخلُص أن الأربعاء كان أشدها حرا، وأن الخميس هو يوم السوق.

نشر أبي حصيرا عتيقا بالكاد يفصله عن التراب ثم اتكأ على مخدة بالية، ذلك أقصى ما يملك في هذه الدنيا، يملك كذلك بهجته والأمل، وما إن غفا حتى سمعنا ترنيمة الماء، زغرودة تسرح في تجاويف الهواء أو سمفونية تُغرق البال في غفوة الحال،

لقد فتح الماء!..*

خذ الغلاية بِلينٍ ..خذها ولا تخف

كانت الغلاية واطئة تحت جمر وهاج، تتلو ما تيسر لها من ترانيم البهاء ،سورة، سورة

تتأرجح رقصا من شدة الغناء، وتكاد من رقصها أن تسقط على أرضية السقيفة. فيلتهب أديم الثرى، يا ويلي من مكان - يلتهب - نصلي من طهره بلا سجادة!

لكن أبي يستيقظ من غفوته

يتربع عرش الصينية، فروة جديدة من تحته مزهو ببهائها، ثم يتخلص من تكسير قالب سكر محاذرا أن يزعج نيام الهجير، يطرْقُ بهدوء بحافة حديدة أعِّدتْ خصيصا لهذا الغرض، فإذا القالب أشلاء بين يديه مزقهُ تمزيقا،

تعْلقُ بالحديدة ندفٌ من السكر فأتولى أنا لحسها بلساني كم كان جميلا أن أتذوق طعم الجلسة قبل أن يبلغ البراد أشُدَّه فيفيض!.

باقة النعناع أملنا الوحيد في الاستمتاع بالخضرة اليانعة، كأنها جزء من بستان يستنب جنب الصينية، كل ما هنالك أن المجمر بمقام الجحيم، يخزر إلي بوعيد لهيبه الوهاج و نيرانه البنفسجية كأنما يقول بلسان حاله هكذا تكون جهنم الحمراء من عذابها.. !!

آخذتُ باقة النعناع أشمها كعادتي، كانت الجارة - رقية - الوحيدة التي تستقصي عن النعناع - نرسل لها قليلا ونحتفظ بالباقي. نقطعه عروشا ونحفظه في كنف الخابية.

لقد فتح الماء!..*

بلغة أخرى الماء صار بخارا. بلغة أوضح الماء شهر سنبلته كأنه لسان سيف قاطع. ثم طفقت أصغي لدواخلي

لم أكن أعلم أن الماء حين يعتلي عرش جهنم يصبح أكثر جرأة على النشيد صدحا وصياحا: أحتفظ لنفسي بنشيد الماء تتلوه لي جدتي يصعب على الفصيح ترجمته حتى الآن.

.........

قمت أنا أرقب الغلاية، أرقبها بنفسي،

أرقب السنبلة الفوارة في امتداد عمودي يكاد يصل مقدمة السقف. فيهتز صدري بفرحة السؤال:

أيكون يشعر الماء بكل هذه البهجة أم في التأويل معنى آخر..؟

الماء

والبخار،

والنارُ من تحتهما تفعل فعلتها الماكرة.

أكان ينصهر ليرتقي إلى مقام النشوة والفرح؟

أم كان يشكو ألما تعذر عليه كتمه من شدة العذاب؟

تلك أسرار أخرى يستحيل فكها.

قمت أراقب البراد أيضا، حتى إذا فتحته وجدته يهدل في نشوة الفرحان، يرغي كأنه صوتُ رضيع، تختمر الحلاوة فيه بلذة المُر،

الكون مبتهج يهتز في اضطراب بحر عريض كأنه لظى بركان، يتلقف رغوة زبد مستريح،

الحلاوة من خلاله تتوجُ كل شيء، والسقيفة على ضيقٍها عرضُها السماوات والأرض.

...........

يضيف أبي قليلا من السكر محشو في عروش النعناع - بئس الأطباءُ ينهوننا عن شربه هذه الأيام - ثم يتكأ على مخدة، يحدثنا عن السوق وموجة الغلاء، كم كان يروق له أن يشبهه بالنار الكاوية !!

كاوية حامية !!

أيستقيمُ أن أسأل أبي عن ثمن الدلاع، فإذا هي كوكبٌ أخضر  يتدحرج لي من تحت الباب..

تمتعتُ بحجمها الكبير وبصفوف الوشوم على ظهرها.. ثم سُقناها إلى المجزرة.. !!

...........

يعود أبي إلى مقامه العالي - الصينية/البراد ، يتذوق برشْفٍ حاذق نكهة الكأس الأول عندما دبت سرائر الفرح على محياه، بزغت شرارة الحبور من عيونه، كنت أعرف أن الكأس الأول كاللكمة الأولى لا يمكن أن تعوض..

هكذا يحكي لي أبي، فيراهن في كل حياته على البدايات، لكنه لا ينسى أن تكون الخواتم أجمل.

...........

*كناية عن غليان الماء

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2221   الاربعاء  19/ 09 / 2012)

في نصوص اليوم