نصوص أدبية

الأرض المغدورة / محسن العوني


خطّاف

يرويه عطشه ..مفرغا من جذور..

يحرس الشمس و قوسها المحمرّ..

يجسّ الطائر الزمان بسعفة من ريح..

يلامس بجسده مضاض* البحار..

ريشه وقد مهرته نظرة دونما شبكيّة..

ينساب بجلده العسليّ وسحنته في لون عرق السوس

بين طيّات مخضّبة لسماء ساطعة تبيضّ لها

طحالب السباخ وصنوبر الصمغ

يثبّت المتعة عند طرف جناحيه

يكسر صخر الموج ..وبخنجر من جليد

يفرق حرير النهار لخصلة من شعر حرون

عابرا بطيرانه النّيل ..البحيرات والأراضي

حيث الشرق قد مات بعد فوق السطوح العالية

ليتعقب طوفا ثقيلا تضطرب أشرعته

 

.....................

* مضاض: جنس شجر من الفصيلة القاتيّة يابانيّة الأصلFusains /

فرنسيس إتيان سيكار " محظيّات " 1995

Francis Etienne Sicard ."Odalisques" 1995.

 

الأرض المغدورة

أذكروا لي اسم الحجر الذي عليه وقعتم..

أذكروا لي اسم الغاب حيث صلبوكم..

أسرجوا لي الصوّان القديم..

أشعلوا القناديل العتيقة..

دعوني أرى السياط التي اخترقت

عبر القرون الجراح..

هكذا ابتدأ الدم..

دم القرون الثلاثة 1 ..محيط الدم..

أجواء الدم الذي غطّى أرضي والأزمنة

الأكثر هولا  والأبعد تأثيرا من أيّة حرب..

ماذا صنعتم أنتم أيها الجيديّون2

المفكرون ذوو الحسن والوجاهة ..أقران ريلكه

صنّاع العجائب والغرائب ..سحرة الزور والبهتان..

أيها الوجوديّون 3 ..سورياليّو 4 الخشخاش..

ماذا صنعتم أمام سطوة الحصر والرعب..

في مواجهة هذا الكائن البشريّ المعتم..

ماذا صنعتم للكرامة المهانة ؟

عندما نفخ في الصور..

كان كل ما فوق الأرض على أهبة الاستعداد..

وكان يهوه 5 يقسّم العالم

بين كوكا كولا .. الأنكوندا 6

محرّكات فورد وشركات أخرى..

الشركات المتحدة للفاكهة

استبقت لنفسها الأكثر عصيرا..

الجهة الوسطى من بلادي..

نطاق أميركا العذب..

أيها الكادح 7 المسكين منكود الحظّ ..

بين الأدغال موثق إلى الزوال والفناء..

في ظلّ المراعي البريّة..

آلام شعبي اخترقتني..

إنها تستبدّ بي وتستولي عليّ..

شائكة هي في روحي ..

تجلب لقلبي الانقباض والنكد ..

خرجت من فرط غضبي لأصرخ في الطرقات .

.............................

1- دم القرون الثلاثه: يقصد به الغزو الإسباني الذي بدأ خلال القرن 15م

2- الجيديّون: نسبة إلى أندريه جيد .. وهم انصار الأهوائيّة والنزوة والتصرّف المجّاني

3- الوجوديّون: القائلون بالفردانيّة الذين لا يؤمنون بالاتصال والتخاطب مع الغير

4- السورياليون: شعراء قاموا خاصة بتحرير اللّغة والخطاب

5- يهوه Jehova : إله خاصّ باليهود من خاصيّاته أنه عنصريّ دمويّ غضوب قاس وشرّير

6- الأنكوندا : Anaconda شركة الولايات المتحدة الأميركية المتخصّصة في استغلال مناجم النترات والنحاس والمنغانيز .

7- العامل الكادح: يدعى في أميركا اللاّتينيّة    Péon.

 

" بابلو نيرودا* " النشيد العام

ترجمة : أليس أهرويللر  "فرنسيون متحدون" 1954

Pablo Néruda "Le chant général"

Traduction Alice Ahrweller.Ed.Français réunis.1954.

 

كتب نيرودا من خلال "النشيد العام El Canto Géneral "ما يشبه كتابا مقدّسا  Bible  للقارة الأميركية ..342 قصيدة استحضر فيها بصور أخّاذة مدهشة ولادة القارة وتاريخ البشر الذين يحيون هناك ويكابدون ويناضلون كتب نيرودا  القسم الأكبر من هذا العمل في السرية والخفاء La clandestinitéواستحق عليه نوبل 1971 باعتباره "القصيدة الأميركية التي أحيت مصائر وأحلام قارّة صارت بفضلها تعي قيمتها "..

  

غبريال بيري

مات الرجل الذي لا يملك من دفاع

سوى يديه المفتوحتين للحياة

مات الرجل الذي لا يملك سبيلا

سوى تلك التي فيها نبغض البنادق

مات الرجل الذي يواصل المقاومة

ضدّ الموت ..ضدّ النسيان

لأن كل ما أراده

كنا نريده أيضا

كما نريده اليوم

أن تكون السعادة هي النور

في عمق العين .. في سويداء القلب

وعلى الأرض العدل

ثمّة كلمات تحيي

هي كلمات بريئة..

كلمة الدفء.. كلمة الثقة

الحب..  العدل .. وكلمة الحرية

كلمة الطفل وكلمة الطيبة

وبعض أسماء الزهور وبعض أسماء الفاكهة

كلمة الشجاعة..  كلمة الكشف

وكلمة الأخ وكلمة الرفيق

وبعض أسماء البلدان والقرى

وبعض أسماء النساء والأصدقاء

لنلحق بها اسم بيري

بيري قد مات لأجل ما يحيينا

لنرفع الكلفة معه محبّة..  فصدره  قد ثقبه الرصاص

لكن بفضل تضحيته  ها نحن نعرف بعضنا  أفضل

لنرفع الكلفة بيننا مودة .. فأمله  مازال  حيّا

 

1944بول إيلوار"إلى الموعد الألماني"

Paul Eluard "Au rendez-vous allemand 1944

  

أنظم الشعر منتظرا أن أرى الحرية

الساعة العاشرة

الدبّ الأكبر يصافح القمم

إنه الخريف

صرّار الليل يغنّي ابتهاجه وحبوره

ماذا يعني الخريف ونشوته لسجين

نشيد قلبه الوحيد ونشوته.. أن يرى حريته من جديد

السنة الماضية كنت حرّا في بداية الخريف هذه

..ها هو الخريف يدركني هذا العام وأنا خلف القضبان

أتراني أقلّ نفعا لشعبي الحبيب ؟

أعتقد أن هذا الخريف يساوي جيدا الخريف الآخر

أفضل للمرء أن يموت من أن يحيا حياة ذلّة وقلّة

 

هو شي مينه* "مفكّرة السجن" 1963

Hô Chi Minh ."Carnet de prison" .1963.Seghers.

 *هو شي مينه 1890 – 1969 بطل استقلال فييتنام .. معنى اسمه : الذي ينير ويضيء ويكشف.

  

القصيدة الأخيرة

 حلمت بك كثيرا وبقوة

لفرط ما مشيت ..لفرط ما تكلّمت

لفرط ما أحببت ظلّك

لم يبق لي أيّ شيء منك ..أيّ شيء

بقي لي أن أكون الظلّ بين الظلال

أن أكون ظلاّ مئة مرة أكثر من الظلّ

أن أكون الظلّ الذي سيأتي وسيعود في حياتك المشمسه

 

* روبير دسنوس "قصائد من السجن" غاليمار

Robert Desnos ."Poèmes du bagne" .Gallimard

 

*شاعر فرنسي توفي سنة1945 في معتقل هتلريّ بتشيكوسلوفاكيا.. تحوّل نصه  الأخير المترجم إلى أسطورة

ارتبطت به قصّة  مؤثرة إلى أبعد الحدود ..فقد عثر على الشاعر روبير دسنوس طالب تشيكي دخل المعتقل مع الجيش الأحمر الروسي بعد أن سمع بوجوده ولم يكن قد عرفه من قبل ونادى باسمه وصفته :"من منكم الشاعر روبير دسنوس؟"فأشار إليه  وكان يجلس على سرير وهو يرتجف من الحمّى وقد تحوّل إلى مجرّد رقم في سجلّ ..ومات بعد هذا اللقاء بثلاثة أيام.

كتب إيلوار عن دسنوس في أكتوبر 1945 بعد استعادة جثمانه ليدفن في مقبرة مونبارناس بباريس.."على مدى قصائده تجري فكرة الحريّة مثل حريق هائل ..تصفّق كلمة الحرية مثل راية خفّاقة ضمن الصور الأكثر جدّة والأكثر عنفا أيضا..شعر دسنوس هو شعر الشجاعة..إنه يمتلك كل الجرأة الممكنة للفكر و التعبير .."نصّه الأخير الذي وجده جوزيف ستوناJoseph Stuna

معه عند موته جاء ليؤكد عبارة أليجو كاربونتيي Alejo Carpentier" مستقبل الشعراء يكتب مسبقا في قصائدهم "..

تحول هذا النص القصير إلى آخر رسالة من الشاعر للوعي الجمعي حيث يرنّ صوت دسنوس من خلال قصيدة لم تعد متعلقة بشخصه لتتحوّل إلى صوت للجميع حيث يبدو الشاعر وكأنه يناجي الحرية لا امرأة بعينها ..بعد الحرب نشرت الصحافة الأدبية الفرنسية نص دسنوس تحت عنوان "القصيدة الأخيرة"  Le dernier poéme أما عنوانه الأصلي الذي ورد بخط الشاعر فهو "ظل بين الظلال" Ombre parmi les ombres  ..

 

لوحة "حلقة المساجين" لفان غوغ

ربطتني بهذه اللوحة قصة غريبة .. هي من تلك اللوحات التي كانت تشدّني بشكل خاص و كنت أتوقف عندها طويلا متملّيا دلالاتها ورموزها وأجواءها.. أول ما يلفت الانتباه ويضغط بثقله على صدر المشاهد حدّ الاختناق .. مشهد تلك الجدران العالية القريبة جدا من المساجين المنتظمين على شكل حلقة أو vangokhدائرة وسط هذا الفضاء الكئيب القاتم الضاغط على نفسية المشاهد ..حلقة كأنها دوّامة الدوار والغيبوبة التي تسبق الموت ..وجه الغرابة في قصّتي مع هذه اللّوحة ..أنني كنت في كل مرة أفتح بعض الكتب الفنيّة الخاصة بفان غوغ ورسومه ..أو أتملّى أعماله على شاشة الحاسوب .. أسارع بالبحث عنها و أنظر إليها متأمّلا متوقفا مليّا عند ذلك السجين الذي لا يحمل غطاء رأس ولا يضع يديه في جيبه ولا يمسكهما خلفه ولا يطأطيء رأسه لتضيع ملامح وجهه وسط الظلال شأن باقي المساجين ..إنما يستقبل النور الخافت بوجهه وتلك النظرة التي يقابل بها مشاهده والتي لا يمكن فك شفرتها بشكل نهائيّ  ..هل تحمل لوما ..تمرّدا ..تحدّيا ..فخرا ..جميع ذلك وأكثر منه .. لعلّ فان غوغ كان يرسم ملامحه الخاصة ووجهه وموقفه تجاه السجن والقائمين عليه والهيئة الاجتماعية .. إنه مدى من التميّز والتفرّد ناطق بعبقريّة فان غوغ وإنسانويته السامقة .. لوحة "حلقة المساجين"  أكثر من مجرّد لوحة ..إنها موقف ..

 

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة يوم الشعر العالمي اعتبارا من 24 / 9 / 2012)

في نصوص اليوم