نصوص أدبية

رجل ملثم / حسن البصام

فقد فقدت الحروف بريقها.. وتحولت الى غمغمة خابية خاوية.. بلا ملامح وتائهة، تخرج من فمي المقعد الذي يشبه الى حد ما متسول ممدد الساقين المعاقيين ، من بين لثتين حافيتين، أنتزعت أسنانهما، ولم يتبق سوى لحم خجول منكسر الجبين..

فمي أعزل ولا يجيد الرمي بالكلمات… لذلك فهو لا يجيد التصويب للرد على الخصم، وان نظرات الناس الموجهة لي بتركيز، مالحة، أحسها تلتصق على عيني فتتسلل الاملاح الى قلبي ليستشيط حزنا. وكأن تلك النظرات تدخل مابين شفتي المزمومتين، تعري فمي، لتكشف واقع حال اسناني.

بعد اللكمة التي وجهت لي، لم أرتكن على حائط ذكرياتي المائل، باكيا حالي.. على الرغم من ان الذكريات دافئة احيانا، تقيني من برودة الحاضر.. أكره ان اصف نفسي اني رجل ادرد، أو يقول الناس عني ذلك، وكاني اقول أنني رجل عاجز. لم أسمع أحدا اعترف بعجزه الا اذا كان يخفي أمرا ما.

لم تكن هي القاضية ولكنها كانت حديدية من يد ملثم استجمع في قبضته حلكة الليالي السود.

في وقت العشاء طرق باب البيت. قفزت ابنتي الصغيرة مسرعة، تاركة عشاءها، معتقدة ان صديقاتها على الباب. سائلة اثناء هرولتها بصوت عال من الطارق ؟؟لكنها رجعت حال سماعها صوت رجل يطلبني.. دون أن تفتح الباب.

وضعت قطعة الخبز التي كانت في يدي على الماعون، ونهضت، ما ان اخرجت راسي من الباب باتجاه الشارع حتى امتدت يد من اعماق المجهول، من جسد ضخم، مختبئ، وعلى مقربة منه، يقف رجل لا أميز ملامح وجهه، أعتقد ان رأسه مغطى بكيس اسود فيه ثقبين امام العينين، لمحته، كان يقف مقابل الباب عدة أمتار، بينما كانت اليد التي لطمت وجهي، تقف بمحاذاة الباب من جهة اليمين.. وقعت على الارض مرميا من عنفوان الضربة مدفوعا الى باحة البيت ودوي اللكمة، هز قلوب اهلي، فتساقط الفزع والذعر وكاد أن يتلبسهم الجنون.. افقت على سماء انطفأت نجومها، وجدران ترقص رقصة الهنود الحمر حول صيدهم، وارض تطوي نفسها وتبسطها تحت اضلعي، وتدور بي.. انمحت خطابات العالم كلها الا خطابي الذي واجهت به الحاضرين حول اسباب تخلف الاداء الوظيفي، والتي واجهني بها الملثم.. انمحت كل مخزونات الذاكرة لحظة تمددي على وجهي فوق الارض، الا الصرخة التي سمعتها قبيل اللكمة أنت أيها السافل تدعو الى الغاء المساجد ؟ .. ثم انطفأ العالم.

لقد زلزلت أنفي فأنكسر، وفمي تهشمت أسنانه.. اسناني كانت ترفع كلماتي بشموخ كمن يحمل في المظاهرات على أكتاف رفاقه.. انها شماعات اعلق عليها أحزاني، لارميها خارجا.. أصوغ اهاتي كلمات وأطلقها بوجه خصمي.. جرفتها يد ممتدة من عمق الظلام. قلت محتجا في الامسية الثقافية، التي ضمت القليل من المواطنين، وانا واحد منهم،ورؤساء الدوائر والبعض من ممثلي الاحزاب، عن أسباب تخبط المدينة في الجهل والتخلف، وتردي الخدمات.

ان وجود المساجد متلاصقة مع دوائر الدولة، ينمي لدى بعض الموظفين الذين يتطلعون الى افق المصالح غير المشروعة الدوافع لارتداء زي المتعبد الخاشع، يستأذن لاداء فريضة الصلاة بأوقاتها في المسجد المجاور، بينما أقدامه تقوده الى دروب التهرب من الالتزام..سيتكاثر الخاشعون الوهميون، وهنا سوف ينمحي اثر الولاء الاصيل، وينحسر الموظف المثالي.. ولم أدع الى أن تكون الدوائر في جهة، والمساجد في جهة أخرى، لقد دعوت الى عدم التلاصق، لأن في التلاصق تتصارع النوايا و تتحرر الشياطين، وتتعرى حشمة المساجد لانها تأوي الهاربين، وتدس أنف الوظيفة في الطين.

ثأرت الكلمات مني، كنت أرهقها، أجلد خصمي بها… الان تضحك متساقطة على ذقني، وتتغامز لي ساخرة.. وحين تحتدم العبارات وتزدحم ، تخرج باشكال ضبابية مارة على الاذان مثل سحب متفرقة لا ترتبط ببعضها ، ولهذا فقد جهدت نفسي كي لا تكون اللكمة هي الضربة القاضية، فقد بحثت عن اسلوب اخر للتعبير، وتجلى فجأة هذا الاسلوب، حين ارتدى رئيس الدائرة القلنسوة البيضاء التي تشبه مايلبسه بعض الكهنة المسيحيين، أو سائقي التكسي وسيارات الريم القدماء، قبيل الاذان، مهتديا بساعة الحائط الكبيرة.. كنا نقف على باب غرفته متزاحمين، كل يحمل معاملته، وحين تعالى صوت المؤذن بقوة مكبرات الصوت المتوجهة نحو الدائرة، وقبل ان يكمل المؤذن نداء الله اكبر ، ودون أن يعرنا انتباها ، غير ابه بانتظارنا وتزاحمنا على بابه كالايتام.. خرج بهدوء ورزانة ووقار، مطرقا براسه الى الارض، تتقدمه الاكف الممتدة من قبل بعض من موظفي مكتبه متذللين تفضل مولاي.

تزاحمت الكلمات، وتصادمت، دون أن تكون جملة مفيدة مسموعة .. ركضت مسرعا خلف رئيس الدائرة، قفزت عاليا في الهواء ورفسته على ظهره.. سقط على وجهه فتدحرجت قلنسوته، وبفعل تيارات الهواء ترنحت كاطار عربة صغيرة لتتكأ على غطاء فتحة المجاري، بينما تعفر وجهه وملابسه الانيقة بالتراب.. واوراق معاملتي تطايرت وتفرقت، وحين أفقت وجدت ساقي التي رفسته بها مبتورة.. أيقنت أنها القاضية.. لاني سوف لا أحسن الكلام ولا التعبير بالرفس.. ولكن ان رفست أحدا بساقي الوحيدة، من المؤكد سأقع على مؤخرتي، وسأكون عرضة للتندر والهزأ،. وسيسخر الاخرون على كائن ليس بالانسان ولا بالحصان.

لقد أخطأت برد الفعل غير المناسب، ذلك ان التعبير يكون باليد اولا وليس بالرجل، أو يكون باللسان، او بالقلب.. ولكن ماحدث، لا يحتمله عاقل.. لقد لامني الكثيرون، قالوا انت العاقل تفعل هكذا؟

الذي يذلني الآن، أن أيادي الموظفين، مازالت تمتد أمام خطوات رئيس الدائرة، عند مغادرته موقع عمله اثناء الدوام الرسمي متوجها الى المسجد الملاصق للدائرة .. بينما أنا الذي فقدت أسناني و ساقي، لا أحد يشير نحوي، سوى ظلي الذي يتقافز خلفي، عند كل خطوة أقطعها بمشقة. يذم القدر الذي أرغمه ان يكون تابعا لي دون ارادته، ينهرني ويهز يده حانقا. ويلعنني عكازي الذي أزكمت أنفه رائحة أبطي. وان الذي لامني لم يحرك حتى قلبه.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2226   الاربعاء  26/ 09 / 2012)

في نصوص اليوم