نصوص أدبية

السركال / مسلم السرداح

- كانت حياتنا اكثر امانا وكنا نتمتع بالراحة المطلقة، لايعكر صفو حياتنا شيء. فالفلاحون هنا يعملون من طلوع الفجر وحتى اخر الليل. ورغم انهم وعوائلهم في حالة كدح وركض مستمرين. وقد يشبعون او لايشبعون فهم قانعون راضون لانهم لايجدون بديلا اخرا لحياتهم. ومن لايقبل، فالى الجحيم والى بئس المصير، نسلط عليه رجالاتنا وكلابنا من حملة السلاح.وينتهي بعد ذلك كل شيء بخضوع الجميع وعبوديتهم لنا.

- انا ادري بذلك. ولكن قل لي، ما الذي جرى الان حتى تعيد على مسامعي اشياء اعرفها؟ سال الاقطاعي السركال.

- يا أمْحَفوظ **...كنا نسحب الفلاح المشاكس من قميصه ونطوح به من فوق جذع النخلة الى الارض فينكسر عموده الفقري، فيخاف الاخرون، وترى الناس ساكتين شبه اموات. قال السركال.

- نعم اعرف ذلك. ولكن اختصر او ابدا الكلام من اخره. قال الاقطاعي بلهجة آمرة.

- هناك معلم جديد جاء الى المدرسة منذ مدة قصيرة. لم يكتف ِ هذا المعلم بتعليم الصغار القراءة والكتابة، بل راح يعلم الكبار ايضا. ويجب ان نضع حدا لهذه المسالة والا فالنهاية لنا.

- وماذا في ذلك؟ ليعلمهم.

- وكيف؟ اترضى يا امحفوظ ان نحفر قبورنا بايدينا؟ ان يفتح هذا المعلم العيون النائمة المغمضة للفلاحين. فيتمردون علينا وقد يثورون فيقتلوننا؟. انهم الان يعملون ولاياكلون. جياع عراة حفاة هم ونساؤهم واطفالهم يغطيهم الجهل والامية ونحن نعيش في بحبوحة، فلو تعلّموا وتفتحت عيونهم من يضمن بقاءهم على هذا الحال وبقاءنا؟ قال السركال.

اقتنع الاقطاعي، المقاد بطبقيته، بما قاله السركال الذكي، وتم الاتفاق بينهما على ان يضعا حدا لما سماه السركال، مهزلة المعلم، الشيوعي، الذي جاء الى المدرسة حاملا معه افكاره ووعيه.

كان واجب المعلم الذي ارسلته الدولة من اجله هو تعليم الصغار ليتجاوزه بفتح صف لمحو امية الكبار.

ان مما اثار حفيظة السركال ان المعلم بدا يبث بين الناس افكارا حول الطبقات الاجتماعية وكيف ان الاقطاع طبقة مضطهِده ( بكسر الهاء )، وان الفلاحين طبقة اخرى مضطهَده ( بفتح الهاء ) من قبل الاقطاع. وان عليهم ان يفهموا ان طريق الخلاص من هذا الوضع هو بالقضاء على طبقة الاقطاع المقيتة. قال لهم:

- في المستقبل سيتحول ابناؤكم الى عمال كادحين ويتحول ابناء الاقطاعي الى راسماليين وستستمرون مسحوقين الى ابد الدهر مالم تنهضوا. وان النهضة تبدا بالحرف والكتابة.

كان هناك في القرية " ملّا "*** استقر في " السلف " يقرا للناس في المناسبات الدينية ما تيسر له من الدجل المبطن المغلف بالدين ليحرف افكار الناس عما عليهم ان يفهموه من وعي يخص حياتهم وظلم الانسان للانسان.

انبرى هذا الملا الواعظ لهذه المهمة ( مهمة المعلم )، بطلب من السركال. قال السركال للملا ان عليه ان يسقط هذا المعلم من عيون الناس. وان يمهد لطرده من القرية.

 

قال الملا، الذي قبل المهمة التي اوكلت له بطيب خاطر، مقابل قصعة دسمة من قصاع الشيخ، لاهل القرية:

- هذا المعلم رجل كاذب يعلمكم الباطل الذي يخالف دين الله الذي خلق الكبار والصغار الاغنياء والفقراء، الشيوخ والفلاحين الله هو الذي خلق الشبعانين والجياع، ليوازن الارض فهل يعقل ان يجعل الله الناس كلهم اغنياء؟. ان شيخنا الجليل هذا، الذي يسميه المعلم " الإقطاعي "، خلقه الله لإدارة شؤون الرعية والعباد، وليعيلكم. والذي لولاه لتاهت أمور الناس و لمتّم جوعا وعريا، فوق ما انتم فيه. وهذا المعلم كاذب وحاقد بل وملحد وشيوعي وهو يبث بينكم الفساد ومخالفة اصول دينكم.

بين مكذب ومصدق من الناس عند الوهلة الاولى، اجبر الملا المعلم، برضا من الجميع على الجلوس في ديوان الإقطاعي الكبير المساحة والمصنوع من القصب والبردي والذي يجتمع فيه الناس عادة يستمعون للملا وغيره من الوعاظ الذين ينصحونهم باسم الدين. وقيامهم بمناظرة يحكم فيها الجميع.

ان الوعاظ والدجالين والملالي، انما يشكلون وزارة اعلام ديماغوغية مصغرة لخداع الناس. في حين يشكل الاقطاعي هو وسركاله والرجال حاملي السلاح الذين يعرفون بالتفاكَة، ما يشبه وزارتي الامن و الداخلية المصغرتين مجتمعتين. كان الوعاظ ينصحون الناس الخضوع لاولي الامر بتوجيه من الله.

قال الملا للمعلم بحضور الناس الفلاحين المقتولين بالفقر والجهل واللاوعي:

- انت يا استاذ تعلّم الناس كيف يتمردون على اولياء امورهم. فلماذا تفعل ذلك؟ هل لديك عداء شخصي مع عمهم الشيخ الجليل، الذي يحب الجميع ويسهر على حياتهم. ويسخّر ارضه وماله في سبيل معيشتهم وحياتهم هم وابنائهم؟

- انا لايعنيني لا الشيخ ولا السركال ولا حتى انت ايها الملا. انا فقط اعلمهم القراءة والكتابة وحين يسالوني عن الاقطاع اجيبهم بما يقوله التاريخ والعلم واتكلم بما يبوح به العلم عن الطبقات عبر التاريخ.

- انت تقول لهم ان الشيخ الذي هو ولي امرهم ونعمتهم وعمّهم باطل وسيزول. اسمعوا ايها الناس ماذا يقول هذا المعلم.

دار بين الملا والمعلم حديث طويل بحضور الشيخ الغبي والسركال الذكي. احس خلاله السركال بان المعلم يسحب البساط من تحت قدميه وقدمي سيده الطبقي. ولكن بادر الملا الى حيلة ديماغوغية تتناسب ووضع الجهل المطبق الذي هم فيه. قال للناس:

- الاستاذ المعلم افسدته المدارس، وهو الان يريد افساد ابنائكم.

ثم دار لغط كبير بين المعلم والسركال لايفهم منه الناس شيئا. ومن فهِم منهم فهو لم يهضم المعنى جيدا ومن هضم المعنى فهو خائف من سطوة سيده الاقطاعي و نائبه السركال.

واخيرا قال الملا للمعلم امام الشهود:

- في المدرسة كيف تكتبون الحيّة؟

- نكتبها كما يكتبها المتعلمون ياملا.

- اكتبها يا استاذ ليراها الناس.

اسقط بيد المعلم رغم فهمه للعبة والمؤامرة. فكتب المعلم على الفور على السبورة التي يعلّم بواسطتها الصغار " حيّة ". عندها انبرى الملا وراح يرسم على السبورة صورة للحية. ثم ليصيح بالناس الفلاحين:

- بربكم اين هي الحية؟ فاشاروا جميعا الى الحية التي رسمها هو، الملا. بسبب عدم تعلمهم للابجدية.

- ثم يدعي انه يفهم كل شيء. ونحن نناديه بالأستاذ. قال الملا، بتهكم واضح. واضاف:

-  يا أستاذ من الافضل لك ان تترك الناس وحالهم وان تمضي من حيث جئت. وراح يحرض الناس على المعلم الذي هجموا عليه، بسبب جهلهم المفرط.

كاد المعلم ان يقتل بايدي الناس لولا نصيحة له من السركال بترك القرية والذهاب بعيدا.

 

كان هذا قد حدث ذات يوم في ارياف العراق. ولقد هيّا الواعون المناضلون الشرفاء بتضحياتهم الارض والعقول لثورة الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه الضباط الاحرار الذين اطاحوا بالاقطاعيين وحاضنتهم النظام الملكي الاقطاعي الرجعي.

 

*وهو شخص يخوله الاقطاعي نائبا عاما مطلقا لمتابعة مصالحه وخدمتها.

**هكذا كانوا ينادون الاقطاعي.وهي كلمة عامية زاحفة من " يحفظك الله ".

***الملا بتشديد اللام شخص ديني يقوم بالوعظ والارشاد والدجل، بما يتناسب ومصلحة الاقطاعي انذاك، كواحد من وعّاظ السلاطين.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2232   الثلاثاء  2/ 10 / 2012)

في نصوص اليوم