نصوص أدبية

صداقة وبلبل وفتاة / مسلم السرداح

لانها كانت كما يراها، شاهدة على المجهول الذي يغيّب عنه من يحبهم ويمضي بهم بعيدا إلى حيث لارجعة، الى الحد الذي كان ينظر الى الله كند جالس على الطرف الاخر. ويروح يتساءل : لماذا يكن الله كل هذه العداوة للبشر بخلقه للموت؟ وكان وحين تجبره الظروف على المرور بين قبور الموتى اثناء ذهابه بمعية والده اثناء زيارة قبور اقاربه واهله،  يبتدئ جسمه بالارتجاف وبالاحتلامات الليلية المزعجة والكوابيس. وكان اكثر مايرعبه قبر محفور، سقط سقفه، لميت انقطعت ذريته. كان يخاف ابتلاعه. وراحت هذه الحالة، تسم طفولته بميسمها البشع. واستمرت معه حتى كبر الولد، وصار شابا يافعا.... حتى اذا :

اندلعت حرب ضروس لها اول ولا اخر بعد ذلك.

وفي يوم من ايام الحرب،  وكان جنديا في الجبهة لفظ صديق حبيب له من اترابه، انفاسه في حضنه بعد ان اصيب بشظية قاتلة. ومن يومها تعايش مع رعب الموت،  وصار ينظر له كشيء مالوف يمكن التعايش معه.

 

بلبل

كان الولد يعاني من فوبيا المناطق المرتفعة، اعتقادا منه انه سوف يسقط منها نحو الارض فتلتهمه وتنتهي حياته. انه حب الحياة، ذلك الذي يجعله يخاف صعود المرتفعات.

وبالرغم من انه لم يسقط يوما ما من مكان مرتفع نحو الارض، الا انه كان يعاني من خوف غريزي تاصّل في نفسه منذ، ما لا يعرفه،  متى وكيف ابتدا معه. وكان يشعر بالارتجاف وهو ينظر من عل الى الارض.

ولكن في يوم اهداه صديق لوالده بلبلا صغيرا،  وضعه في قفص مصنوع من جريد النخل احضره الى بيتهم ، مع زنبيل من الخوص مملوء بالرطب.

كان عشقه للبلبل، دافعه، حين فتح باب القفص. لكن عشق البلبل للحرية، كان دافعه، ايضا ( لانه لم يدجن على يد الفلاح صديق والده ) فقد طار العصفور، ليحط على قمة جذع نخلة عالية ( عيطة ) قريبة.

عند ذلك نسي الولد خوفه من المرتفعات، بعد ان صفّر للبلبل طويلا،  دون جدوى، وراح متسلقا النخلة، مثل قط رشيق، لحين الامساك بالبلبل المتوحش الذي تحول فيما بعد الى طائر مدجن عن طريق التجويع والتغذية حد الكفاف، وبصورة متناوبة. وتشافى هو من فوبيا المرتفعات.

 

فتاة

وكان الولد يعاني من مرض الدوار. وكان من اعراضه انه يخاف التطلع في الاجسام المهتزة التي تروح وتجيء عنوة. فكانت الدنيا تدور في راسه حين يسافر في السيارة. وكان اشد ما يربكه هو النظر لحركة الدواليب والاراجيح الشاهقة التي كانت تربط بين نخلتين عاليتين،  ايام عيدي الفطر والاضحى،  التي تروح تتحرك متارجحة في الهواء، بفعل عصا يضربها بها عامل واحد او اثنان. فكان يصيبه الغثيان ويظل رأسه يدور لما تبقى من ايام العيد والايام التالية ، وقد يلازم الفراش ومايبرح يتناول ادوية الدوار والغثيان. ولكن وفي احد الأعياد، صعدت الأرجوحة بنت الثانية عشرة ابنة جارهم البرجوازي الجميلة الدلوعة بملابس العيد الزاهية الفضفاضة التي كانت تتطاير فوق راسها كالهاربة تاركة جسدا بضا جعل النشوة والجنون يدبان في جسدي عامليها حين راحا يضربا الحبل بعصاتيهما بكل ما اوتياه من قوة وهما ينشدان طربا،  حتى باتت ترتفع وتنخفض وكانها تطير في عنان السماء مثل بندول ساعة متعجلة،  راسمة لوحة جميلة في الهواء، مثل بستان برتقال ناضج، من صنع الرسام الفرنسي " مانيه ". ما ادى به الى ان تدب في اوصاله مشاعر جنسية لا عهد له بها، وراح لا يتمالك نفسه من التحديق بشراهة، في تلك اللوحة الرائعة فوق الأرجوحة وهي تروح وتأتي ناسيا الدوار ومايسببه من الغثيان له.

 

 تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2237   الاحد   7/ 10 / 2012) 

في نصوص اليوم