نصوص أدبية

الجذور المتوحشة / موسى غافل الشطري

أتبعها، كأننا ماضيان نحو ذلك القرص الدموي الهائل. كنت أرصد الطيور نقطا سوداء كأنها تتلاشى في ثقبه المعتم. وزهرة تحث قدميها العاريتين.

حافّات وبريتها (1) تلهبها تلك الحمرة المتوهجة. وتيجان نبات (الخدم دم) (2) تكتم دندنة خلخالها.

أتبعها صامتا، مثل ظلالها الزاحفة، فوق المروج السندسية، وقد اكتسبت بهاءا إرجوانيا.

فهل يصدق المرء بأن رحيلها أبدي؟

أتذكرها جيدا.. وأعيش الذكرى، حتى لو امتد عمري مائة عام .

كأني أنصت توّا، لشكشكة خلخالها، تتداخل بحفيف السنابل الهيفاء.ممعنا نظري، بحمرة (وبريتها) القانية، منزلقة من قمّة شعرها الفاحم، لتستقر على نحرها البض.

أسمع ضحكاتها تتردد، في مروج الحقل. ولم يزل مذاقُ رغيفها في فمي حتى اليوم. بل .. لم يزل .. عطرُ قبلتها على فمي. وجسدي الصغير، إذ حملته بين ذراعيها، وأراحته على بساط من العشب، يقرصني خضالُ خضرته النضيرة، ثم استلقت وأمطرت وجهي بالقبل.

أتذكر.. أني بكيت لبكائها، منبهرا بذلك الحب العارم، ثم احتوتني، وألصقت صدرها بصدري، وأحسست أن قلبَها ينبض بعنف .

كنت أسمعُه، كما لو كان يطرق صدري، بضربات .. ممعنة بطرادها، مثل خيول الرهان. كنا وحيدين، يحتضننا الصمت الجميل. لا يبدده سوى صفير قبّرة وحيدة، وحفيف السنابل الرهيف .

كنت آنذاك لم ابلغ السابعة، وكانت تتخطاني بحولين أو أقل.

بين لحظة وأخرى .. نطل برأسينا الصغيرين، كبنات عرس ونختفي. ثم نلعب (الختّيلتة)(3) نفترق، ثم نبحث عن بعضنا. وما أن نلتقي حتى نلتصق بكل لهفة .

وكانت شويهاتُنا تبيح غفلتَها بقضم العشب، على حافات الساقية.

ذات يوم ..قالت مطرقة برأسها، وهي تنبش بعود شوكي:

ــ ستكبر أنت وتنسى حُبَّنا. وآنذاك..لا نتزوّج .

قلت بسذاجة :

ــ ولماذا نتزوّج؟ أليس ذلك عيبا؟

قالت:

ــ ولماذا العيب؟ وأمهاتُنا وآباؤنا ألم يفعلوا ذلك؟

قلت:

ــ حينذاك، تتزوّجين أنت .

أجابت:

ــ هل يمكن أن أتزوّج بآخر؟

وكأنها أحست بخطر يداهمنا.. فطوّقتني .. وأمطرت وجهي بالقبل .

نبشنا الأرض معا ــ حين اقترحت هي ــ أن نحفر ( نقرة العباس )(4) ونقسم وأقسمنا: أن لا يخون أحدُنا الآخر.

خبّأتني تحت عباءتها، وبقيت أطل برأسي الصغير، مشدودا لحمرة و(بريتها)، ألتي استلقت على نحرها .

أطرقت برأسها فوق رأسي وقالت :

ــ أتلعـــب؟

ركضنا يدا بيدٍ. وطأنا انتصاب عشب (الخدم دم). واستلقينا فوقه. حوت بيدها أزهاره. جمعتُه معها، وكنت خائفا. أقعت وانحنت برأسها على الساقية. حشرته في رقاق أنفها، وضربته بجمع كفّيها مرددة :

 

خـــــــــــدم دم يــــــــــــــــــا خــــــدم دم

قـــــــــــــــــــدح روب قــــــــدح دم

خـــــــــــــــــــــدم دم يـــــــــــــا خدم دم

قـــــــــــــــــدح روب قـــــــــــدح دم

رعفت بغزارة، وصوّبت نظرَها إلي بانتصار، وابتسمت :

ـــ خــــائف ؟

كررت مرة أخرى :

خــــــــدم دم يـــــــا خـــــــــدم دم

قــــــــــــــــــــــــدح روب قـــدح دم

خـــــــــــــدم دم يــــا خـــــــــــدم دم

قــــــــــــــــدح روب قـــــــدح دم

تراءت لي.. كأنها تستحم برعافها. وبدت مخضبةً بدمها القاني .

رددت صوتَها بهدوء غريب..وتراءى لي نحرَها، مذبوحا من الوريد إلى الوريد. و انتفضت (وبريّتُها) تلهث و تتنفّس دمـــا عبيطـــاً .

* * *

 

بعــــد رحيلي .. يفعت زهـــــرة. وأحبّت بصــــدق. ناصبتها زوجُ أخيها العداء. وأوغرت صدرَ ه. واتهمتها بفقدان عفافها.

وذات مســــــاء حزيــــن، صحبها أبوها.. و كان أخـــوها ثالثَهم.

كان كل شيء يبدو صـــــامتا. عــــدا .. صفــــير قبّرة وحــــــيدة، وحفيف السنابل الرهــــــــيف.

ظلّت تمشي راسخـــــة القدمـــــين. وإذ.. وصلوا قبالة الساقيــــة، توشح الأفق بحمــــــرة قانــــية، ورســـّخ قرص الشمـــــس، نصفه في الأرض. ثمّ.. ســـاد صــــمت غريب.

كانت زهـــــرة، تجهل حتى ذلك الوقــــت قدرَها. كانت تتوجس أمرا.

ظلّ الصمت قابعا يرتجف. قبـــع تحت سنابل (الخــدم دم). وانساق نحيب الساقيـــة.. نحيبا يمضي دون خوف. منحدرا، متعانقا مع صفير قبّرة كامنة .

ظلّت زهـــــرة تجهل بغيتهما. لكن ارتجاف الصمت .. أوحى لها بالخطر.

قــــــال الأب لولده:

ــ أحفر هنــــــــا...

كانت الحفرة تتسع وتتعمّق. وكان الظلام يرخي بسدولـــــه.. لكي يخفي ارتعاش الأثنين.

فقــــال الأب بصوته الواهن المهزوم:

ــ من الذي فعلها؟

أدركت ما يرميه. فقالت بهدوء وقدم راسخة :

ــ لم يفعل شيئا . سوى .. أنه أحبّني .

قـــــــا ل:

ــ مـــــن هو ؟

قـــــالت:

ــ أذا كنت لا تعرفه ، فلماذا تقتلاني؟

قــــــــا ل:

ــ مــــن هو ؟

قـــالت:

ــ أقسمنا أن لا يخون أحدنــــا الآخر، وأنا طاهرةً كما ولدتُ.

قــــادها الأب، إلى جرف الساقية. كان الخدم دم المختال، ينحني تحت قدميها، وكانت الساقية تتهدج بهدوء مسموع . والسنابل .. تتشابك وتطوّح بتيجانها بألم. وكانت القبــــرةُ وحيدة حزينـــــة.

لوى عنقَها .. فوق أزهار الخدم دم المتوحّش، وشخب دمهـــا في مجرى الساقية .

* * *

زهرة..تلوح لي ( وبريَّتَها)الحمراء .. تُطوِق نحرها، خافقة كالبيرق، وهي

تركض نحو أزهار الخدم دم، تحشره في رقاق أنفها، وتردد بصوت هاديء جميل، كأنها تسجد أمام مذبح، وأنا أُردد معها:

خــــــــــــدم دم يـــــــا خــــــــدم دم

قـــــــــــــــدح روب قــــــــــــدح

خـــــــــــــدم دم يـــــا خــــــــــــدم

قـــــــــــــــــدح روب قدح دم

 

 

1994

(1) الوبرية: كوفية من الحرير تستخدم لغطاء الرأس للفتيات القرويات

(2) الخدم دم: سنابل الثيل يضعه أبناء الريف في انوفهم ويضربن عليه بأكفّهم لينزفوا، اعتقاد منهم أن ذلك يحسن نظر العين.

(3) الختيلة: لعبة اختفاء يبحث البعض عن المختفين.

(4) نقرة العباس: يحفر العاشقان حفرة صغيرة ويقسمان على الخلاص.

(5) الروب: اللبن.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2241   الخميس   11/ 10 / 2012)

في نصوص اليوم