نصوص أدبية

صالح لحمد يحرث الطريق العامّ / سعود الأسدي

لم يبق منها في مخيلتي سوى حطة وعقال وملامح متجعّدة تُلحُّ عليّ منذ زمن بعيد، وكنت أؤجّلها لاعتباري أنّ الزمن ملكي يمتثل لي في أيّ ساعة أريد، وكان كذلك وقد امتثل الآن ليقول لي :

كان صالح لحمد فلاحاً بسيطاً من فلاحي قريتي ولم يرزق لا بنتاً ولا ولداً برغم زواجه من اثنتين أمنة وزهرة ، زهرة تزوّجها في عمر متأخّر، وآمنة منذ أول شبابه .

كانت فلاحته : خبزنا كفاف يومنا أعطنا يا ربّ ! مؤونة من القمح والذرة البيضاء والفول والعدس له ولزوجتيه والشعير والكرسنة والتبن لفدّانه : بقرة وحمارة للحرث والدرس، أما الذرة الصفراء فقد كانت منظراً تزيينياً لحدود مقاثي البطيخ عند أكثر الفلاحين .ومقاثينا ومواسمنا صغيرة بحجم قريتنا وأهمها القمح والزيتون اتّباعاً لحكمة قديمة موروثة " القمح والزيت أسدين في البيت "، وتطبيقاً لمقولة كنت أسمعها تتردد على السنة الفلاحين : الفلاحة فنون،  والجناين جنون، ولا ملك إلاّ الزيتون !

وكان لصالح لحمد زيتونة في منتصف الطريق الصاعد من البيادر إلى حارة القلعة، وفي إحدى المرات رأيته يحرث  أرض تلك الزيتونة وقد لفت انتباهي ذلك المنظر وحرت يومها في تفسير الأمر، والصحيح أنني غير محتار فالزيتونة زيتونته وحرم الزيتونة ملكه ولكن المحيّر كيف كان يحرث أرضاً يابسة كالمصطبة تملأها الحجارة وصغار الحصى فلا يبين ترابها أبداً ؟

كان يربط عود الحراث الخشبي إلى بقرة وحمارة كانت امرأته القديمة تمشي خلفه وامرأته الجديدة تجر البقرة بحبل مهترئ وهي تحت النير مقترنة بالحمارة ، وصالح لحمد يشد على كابوسة  عود الحراث وهي المقبض الخشبي ليعين السكة الحديدية على اختراق الدرب والدرب طريق عامّ للسابلة والدواب والمواشي من ماعز وغنم وأبقار وحمير  .

وزيتونة صالح لحمد عمّارية قديمة فارعة الطول مجوّفة الجذع مشقّقة الجوانب قليلة الأغصان بعضها يابس وبعضها أخضر كما يصعب الوصول إلى حبّاتها أثناء موسم القطاف ولو وصل إليها  بضرب عصي طويلة لما ملأت صاعين اثنين !

وقفت لأرى مشهد الحراثة، الدرب صعب وصلب .. يكبس صالح لحمد على الكابوسة فلا تكاد تخترق السكة الحديدة مسافة فتر في الأرض  ! الحجارة تتبعثر والحصى يتناثر ولا لأثر لتربة، والبقرة تتأرجح هزيلة خاوية البطن والحمارة تشخر تحت النير، وامرأته الجديدة تشد بالبقرة إلى الأمام، وامرأته القديمة تشد معه على الكابوسة والأرض طريق كثيرة الحجارة والحصى صلبة كباطون المصطبة، وبين تأرجح الفدّن والتطويح بالعود على الأرض والعناء صاح صالح لحمد بامرأته الجديدة أن شدي بالنير إعانة للبقرة ! فوضعت كتفها تحت النير وأخذت في الشد ، وبعد أخذ وردّ وجيئة وذهاب استطاع عمي صالح أن يُجَرِّح الطريق صعودًا وهبوطًا .

كان بعض الناس يمرون به فيُحيّونه : العوافي يا عمي صالح !الله يطعمك ويطعمنا منك ! وكان يردّ عليهم تكرموا  والرزق للعايش ,

والأرض أرض عمي صالح والزيتونة زيتونته والفدان فدّانة بقرة عجفاء وحمارة هرمة  وزوجتاه تساعدانه لقد دهشت يومها لحراثته الطريق العام وستلازمني دهشتي ما حييت !

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2244 الأحد 14 / 10 / 2012)


في نصوص اليوم