نصوص أدبية

البناية / مسلم السرداح

لأن كل واحد ينظر للأمر من زاوية واحدة فالجانب الاول يقول ان لكل جواد كبوة ولابد للجواد ان يتشافى فينهض. واما الجانب الثاني فيقول ان الفرس حين تكبو فلابد لها من طلقة للرحمة اذ لا امل بشفائها. وحتى لوشفيت فلن تعود الى سابق عهدها.

ان المسالة متكررة الا وهي سقوط البناء وانهياره الأخير حتى إن البعض حين يتحدثون عنه يشيرون إليه بالكيان القوي الذي انهار والأمر سيان بالنسبة إليهم. فليس مهمّا، بنظرهم، تاريخ البناية المجيد طالما إن النتيجة هو سقوطها. وان القادمين للمكان حديثا هم من روّج لتلك النظرة، لأنهم لايعرفون مقدار العمران الذي كان قد وصل إليه البناء الخرب الذي أمامهم بل ولا يهمهم أي شيء عما كان عليه قبل انهياره. أي فيما إذا كان قد مر بتحولات بطيئة أم مفاجئة أم إنها هي البناية نفسها.

انها مجرد وجهات نظر حول ما حدث للبناية. وهو ما لم يروه بأم أعينهم. لأنهم ولدوا والبناية خربة.

الغرباء ليس وحدهم من يحتفظون بنظرة تشاؤمية عن المظاهر بل الشباب الذين يولدون و يكبرون على ما يرونه أمام أعينهم لهم نظرة مشابهة. فحين كان البناء شامخا كانوا لايعرفون عنه أي شيء إذ كانوا غرباء أيضا في غياهب الغيب لم يدخلوا عالم النطف او عالم البويضات. وعبثا تكللت جهود الكتّاب الذين راحوا يؤرخون لهذا البناء وكيف كان قبل ان ينهار وكيف تمت عملية انهياره اذ ان جلّهم غير مهتم بالمسالة لان قسما كبيرا منهم لايقراون ولا يكتبون بل ولا يعرفون ابجدية اللغة، وان قراوا وكتبوا فهم غير معنيين بالتاريخ. واما البعض الاخر فانهم ليسوا مهتمين اصلا لا لطبيعة المكان ولا لتاريخه الذي كان عليه فهم لايزالون يتوارثون الاكل والشرب ويهتمون بالمال وجمعه اكثر مما يهتمون بما آل وما سيؤول اليه البناء ولا تهمهم طبيعة الاجيال الذين انجبتهم البناية وعاشوا وتربو فيها. ولقد سمعت احدهم وقد بدا مندهشا، وهو يسال اخر بدا مهتما:

- هل يعقل هذا؟ ان هذه المزبلة القابعة في هذا المكان الغريب كانت بناية عامرة ؟

- ولماذا لايعقل؟ ثم راح هذا الآخر يقسم الإيمان الغليظة. وهو يحاول ان يشرح، كيف إن بناية ضخمة مترامية الأطراف، تشبه السفينة. مشيدة من طوابق عديدة وفيها خدمات عامة تليق بالبشر كبشر. وابتداء من الطابق الأرضي وصعودا حتى أعلى الطوابق.

وكان السائل وهو يرى الازبال تملا المكان، في احد الشوارع الجانبية. في منطقة نأت بنفسها عن الحياة وعن العمران. منطقة مليئة بالذباب والبعوض والارضة والحشرات الزاحفة والطائرة والقوارض والزواحف من كل صنف، إضافة إلى آكلات اللحوم واكلات الجيف من كل نوع والتي راحت تنزل ابتداء من الطابق الأعلى.

 وراح يضيف للرجل بحرص :

- كان يجلس هنا بناء شاهق واناس حضاريون يفهمون ويتفاهمون مع بعضهم البعض ومع الاخرين الذين قد يقدمون لزيارة المكان. وكان في الطابق الاعلى من البناية عقولا بشرية تحول معظمها الى حيوانات مفترسة باتت تكيل الخراب نحو الطوابق السفلى وسكانها من ابناء البناية. وتعلّم سكان الطوابق الاخرى فوق الارضية والارضية ذلك حتى باتت البناية منطلقا للفساد والامراض المستعصية على العلاج.

- وهل كان ذلك في عهدك يااخي ؟ سال الرجل الاخر المهتم.

- كلا. لقد كان ذلك في عهد ابائنا القدماء وعهد من كان قبلهم. حتى ان ابي قد حدثني بما حدثه عنه ابوه.وفي ايامنا لم تكن تفوح منها رائحة الجيفة كما الان. صحيح انها كانت بناية خربة ولكن كان يمكن اعادة بنائها. لان المريض يمكن علاجه لكن الميت يااخي لابد من دفنه تحت التراب ومن ثم استخلافه بآخر.

وكان سر اندهاش الغرباء والابناء على السواء يكمن في السبب التالي:

ان المنطقة كلها وللان وفي هذا الشارع الجانبي المنزوي، وبعد مرور هذا الزمن الطويل لم تنشا فيها بناية واحدة اخرى تضاهي ولو نصف مايصفونه عن هذه البناية التي اشبعوها فنتازيا واطلقوا عليها القابا مثل الجميلة وبديعة البناء او الجنائن التي كان يقوم بالاشراف عليها اروع المعماريين الذين لم يقدموا من مناطق سكانية بعيدة بل كانوا من ضمن سكان تلك العمارة الزاهية.

 وكان هذا مثار تساؤل اخر من ابن يسال اباه :

- واين ذهب هؤلاء المعماريون؟ اولم يعلّموا ابناءهم الصنعة ؟ صنعة البناء والنقش على الحجروالنظام؟ وكان الجواب سريعا ومباشرا من الاب الذي اطلق حسرة طويلة :

- لقد رحلوا ولم يتركوا أي اثر والاجيال التي جاءت بعدهم، لم تكن لتمت لهم بصلة.انهم يشبهون قطارا نزل ركابه، ثم انهار القطار قبل ان يصل الى المحطة، بعد ذلك.

- واين ذهبت جهودهم الاخرى؟ وهل لم يبنوا سوى هذه العمارة؟

- قاموا ببناء عمارة واخرى واخرى في نفس المكان. ووضعوها كلها في داخل هذه البناية الكبيرة وجعلوا المظهر الخارجي للعمارة الكبيرة على شكل سفينة بعدة اشرعة كرمز لما فيه من اناس كثيرين واهواء متعددة. ولم تكن الطاقة الميكانيكية قد اكتشفت بعد وراحت المجاميع البشرية تتجمع فيها وهي تنزح من كل الجهات المجاورة القريبة منها، وتستظل كل مجموعة بشرية بشراع يقيها من الشمس والبرد وراحت تلك المجاميع تكبر وتكبر وكلما زاد ثقل مجموعة سكانية عن مجموعة اخرى راحت السفينة تميل باتجاههم حتى صار هناك ثقل كبير راح يؤرجح البناية الجميلة فتهاوت وتحولت الى انقاض بعد ان تعددت مزاجات قباطنتها واطماعهم وها انت ذا تراها خاوية متهالكة.

- او ما كان بامكان المجموعة البشرية التي يزداد عددها ان تنتشر نحو الاشرعة الاخرى حتى تتجانس ويتساوى الثقل على جميع اجزاء السفينة بالتساوي؟ سال الابن اباه، ببراءة.

- نعم يابني كانت تزحف وتتجانس ولكن اشخاصا من سكان الطوابق العليا كانت لهم نفوس مريضة شريرة راحوا يبيتون لنوازع الشر التي في دواخلهم ما ادى بهم بالتالي الى ظاهرة النزاع بين سكان الاشرعة.

- او لم يحسبوا الحساب ان النزاع يمكن ان يغرق السفينة مهما كانت كبيرة وضخمة؟ اليست البناية التي على هيئة السفينة هي ما يخصهم كلهم؟

- لقد لعبت الاهواء والمصالح بالناس الذين فاتهم ذلك ولم يدركوه الا بعد فوات الاوان والوقت. وها انت ذا تراها راي العين وقد تحولت الى خرائب وصارت ماوى للوحوش والضواري الكبيرة التي راحت تاكل بعضها بعضا.

- وهل هناك من حل لتقوم العمارة على رجليها؟

- الله اعلم. فقد تعرضت للانهيار الشامل. وهي بحاجة الى ان تقوم قيامتها لتقاوم الشر الذي طرا عليها.

ثم اضاف الاب لابنه كلاما يائسا، او شبه يائس، لم يتاكد منه بعد :

- ستنهض لو اتحدت تلك الاشرعة بشراع واحد، وذلك بعد ان تنتهي الثروات المستخرجة من ارض البناية وتتحول الى ارض يباب.

ربما كان ذلك مجرد امنيات اذ كثرت جراح السفينة وكبرت وصارت مزمنة وانقطع عنها الماء وانحبست عنها السماء وتعددت الاهواء وزاد عدد القباطنة السيئين.

ولكن وبعد فترة من الزمن لا احد من جيل الاب او ابنه يعرف كم سيمتد العمر بالبناية الخربة ليحدث زلزال صاعق لم يتاكد احد هل هو من فعل الطبيعة ام من فعل فاعل راح يطوح بالبناية السفينة وربابنتها وقد تنهض او لا تنهض من جديد وقد كثرت فيها آكلات الجيف ومفترسات اللحم. على مدى جميع طوابقها وابتداء من اعلى الطوابق في قمة البناية ونزولا حتى الطابق الارضي.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2246   الثلاثاء 16/ 10 / 2012)

في نصوص اليوم