نصوص أدبية
فيل السلطان / فيصل سليم التلاوي
وبعد أن يلتقط بعض أنفاسه، ويشعر بدفء المكان إلى جوار جده، يبادر إلى سؤاله التقليدي:
- ما هي حكاية الليلة يا جدي؟
- سأقص عليك الليلة يا سعيد قصة فيل السلطان.
- وهل لكل سلطان فيل يا جدي؟
- لا. ليس لكل السلاطين أفيال، لكن سلطان مدينتا في قديم الزمان كان لديه فيل عظيم، أهداه إياه ملك من ملوك الهند، حيث تكثر في بلادهم الأفيال.
ولما كانت بلادنا تخل ومن هذه المخلوقات الأليفة على ضخامتها وهيئتها العجيبة، فقد سُرَّ سلطان مدينتا بهذا الفيل، مثلما عمَّ الفرح والبهجة سائر الرعية لمرآى هذا الفيل العظيم. وصار أهل مدينتا صغارا وكبارا، رجالا ونساءً، يمنون أنفسهم باختلاس نظرة ول وعن بعد، لهيئة هذا الكائن العملاق في طريق غدوه ورواحه إلى الحديقة التي خصصها له السلطان. يتأملون قوائمه الضخمة، وخرطومه الطويل، وناباه العاجيان البارزان على جانبي فمه الواسع. وأحيانا كان يُدهش الناظرين، وه ويلف خرطومه حول وسط صبي صغير من صبيان خدم السلطان، فيرفعه عن الأرض في طرفة عين، ليستقر المقام بالصبي على ظهر الفيل، ويسير به هادئا مطمئنا، ثم ينزله عن ظهره بنفس الطريقة.
كان كل أطفال المدينة يحسدون أبناء خدم السلطان على هذه اللفتة، التي يخصهم بها الفيل دون سواهم من أبناء المدينة، ويتمنون ل وأتيحت لهم ول ومرة واحدة فرصة الركوب على ظهر الفيل، لكن بواسطة سلم يسندونه إلى جسده العملاق، وليس بطريقة لف خرطومه حول خصورهم. تلك الطريقة التي كانت تفزعهم، ويخشون أن يشد عليهم خرطومه فيعتصر أبدانهم الهزيلة.
- ولم تسنح الفرصة لأي منهم بتحقيق تلك الرغبة يا جدي؟
- يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر ازداد تعلق الناس بالفيل، واشتعلت رغباتهم بمتابعته، وزاد تلهفهم إلى رؤيته، ول ومن وراء أبواب الحديقة وأسوارها.
وبلغ السلطان أمر تعلق رعيته البالغ بمرآى الفيل ومشاهدته عن قرب.
- فماذا فعل السلطان يا جدي؟
- قرر السلطان عندها أن يتكرم على رعيته، وأن ينعم عليهم، فيلبي رغباتهم، فأمر بأن يُترك الفيل على رسله، ليسير في شوارع المدينة وطرقاتها، ويتجول على هواه في أسواقها ومزارعها، وأن يترك له أمر ملاطفة الرعية ومداعبتها كيفما شاء. وأن يحمل على ظهره من يريد من بينهم، ويسير به المسافة التي يريدها، دون أن يظل ذلك الامتياز مقتصرا على أبناء خدم السلطان دون سواهم.
- يا لله! إذن لقد استمتع أهل المدينة كثيرا.
- نعم. ذلك ما حصل، لقد فرح أهل المدينة أيما فرح بمرآى الفيل عن قرب، ومتعوا أنظارهم بتأمل ضخامة بنيته، وتعجبوا من قوته وقدرته الفائقة على رفع شخص عن الأرض بخرطومه، ليلقي به على ظهره في مثل لمح البصر، وأكثر ما أعجبهم فيه وداعته وألفته، فه وعلى عكس سائر حيوانات الغابة من أسود ونمور وفهود، لايفترس كائنا، ولا يؤذي أحدا، ولا يأكل إلا الأعشاب والنباتات، مثل الأبقار والجمال وسائر الحيوانات الأليفة.
- وهل ركب كل الأولاد على ظهره؟
- ليس كلهم، بل كثير منهم. لكن الأمور لم تستمر طويلا على هذا المنوال الهادئ، بل تبدلت الأحوال مع مرور الأيام، وتتابع جولات الفيل في المزارع والأسواق، فقد انقلب الحال رأسا على عقب. وما كان الناس يتغاضون عنه مما يطؤه الفيل بقوائمه الضخمة من مزروعات حقولهم، أ وما كان يعبث به فيبعثره بحركات خرطومه، من بسطات خضروات وفواكه، ومعروضات تجارية أمام محلاتهم في أسواق المدينة. كل ذلك كانوا يغضون الطرف عنه أول الأمر بدافع فضولهم، ورغبتهم في ملاحظة الفيل عن قرب. لكن لما طال عليهم الأمد، وتفاقمت خسائرهم وأضرارهم بفعل حركات الفيل، واحتكاك جسده العملاق بما برز من دكاكينهم ومعروضاتهم التجارية، ووطئه لممتلكاتهم ومزروعاتهم بقوائمه المدمرة. عند ذلك ضجت المدينة بالشكوى، مما لحقها من تلف وضرر جراء نزهات الفيل، وجولاته في طول المدينة وعرضها.
- وماذا فعل أهل المدينة يا جدي؟ هل شكوا أمرهم إلى السلطان، وطالبوه بإعادة الفيل إلى حديقته ، ليكف أذاه عنهم؟
- كأنك كنت بينهم يا سعيد. فعلا، تهامس أهل المدينة فيما بينهم بالشكوى أول الأمر، وراحوا يبحثون عن حل يدفعون به هذه البلية التي استفحل خطرها، والتي جلبوها لأنفسهم بأيديهم، حين طلبوا من السلطان أن يطلق الفيل من حديقته، ليسرح ويمرح في أرجاء المدينة على هواه. ثم علا همسهم مع مرور الأيام، وتوالي الخسائر والأضرار التي يلحقها الفيل بممتلكاتهم، لينقلب إلى تذمر علني يتناقله الناس على ألسنتهم، دون أن يجرؤ أي منهم على إيصاله إلى السلطان.
- ولماذا يخافون يا جدي؟ وماذا سيفعل السلطان بهم؟
- يخافون أن يقال إن من لا يحب فيل السلطان لا يحب السلطان ذاته، وإن من يتبرم ويعترض على فيل السلطان، فكأنما يعترض على ذات السلطان ومشيئته، وذلك أمر خطير، وعواقبه وخيمة.
ومع ذلك فقد تجرأ جماعة من أهل الرأي والحزم من وجهاء المدينة، فعقدوا اجتماعا حرصوا على أن يكون سريا، لتدارس الأمر والتفكير في وسيلة تخلصهم من هذه الورطة التي أوقعوا أنفسهم فيها . فاقترح بعضهم أن يشكلوا وفدا من بينهم ليقابل السلطان، ويعرض عليه الأمر، ويبين له الأضرار الجسيمة، التي يلحقها الفيل بأسواقهم وتجارتهم ومزروعاتهم في جولاته اليومية، ويلتمسوا من جلالته أن يعيد الفيل إلى حديقته مثلما كان حاله في الأيام الأولى. فرد عليهم آخرون:
- كيف نطلب من جنابه أن يعاود حبس الفيل داخل حديقته، وه والذي لم يطلقه منها إلا تلبية لرغباتنا، ونزولا عند التماسنا؟ وأضاف آخرون:
- وماذا ل وقال لكم لقد اعتاد الفيل حياته الجديدة، التي عودتموه عليها، وهي التجوال على سجيته في الأسواق والبساتين طول النهار، فكيف نعاود حبسه من جديد بعد أن ذاق طعم الحرية؟
ومن الذي يضمن لنا أنه سيرضى بذلك، ولا يلجأ إلى خلع الأبواب وتحطيم الأسوار، ليعاود الانطلاق على رسله مثلما عودتموه؟ أ وأنه لن يمتنع عن تناول الطعام والشراب احتجاجا على حبسه، فيؤذي بذلك نفسه، ويعرضها للأخطار؟
- وعلامَ قرّ قرارهم يا جدي؟ ألح سعيد في السؤال.
- بعد طول جدال وأخذٍ وردٍ، بين مشجع لمقابلة السلطان ومثبطٍ لتلك الفكرة، انبرى أربعة نفر كانوا أشجع القوم المجتمعين، وتطوعوا أن يقابلوا السلطان، فيعرضوا عليه سوء الحال الذي آلت إليه المدينة نيابة عن جميع أهلها، وتعهدوا أمام الحاضرين أن يطلبوا من السلطان إعادة الفيل إلى حديقته، فيتوقف بذلك أذاه عن أهل المدينة جميعا.
والتزموا بأن يرفعوا للسلطان تظلم أهل المدينة بطريقة استعطاف مناسبة، لا تثير حفيظته، ولا تستثير غضبه عليهم، بل سيعملون على استدرار عطفه، وإثارة رأفته وشفقته على رعيته من أبناء مدينته.
- وهل قابلوا السلطان ياجدي، واستجاب لطلبهم؟
- نعم يا سعيد. لقد استأذن الوفد الرباعي للمثول بين يدي السلطان، لعرض مطلبهم عليه، وانتظار كلمة الفصل التي سينطق بها، والتي أملوا أن تخلص أهل المدينة من هذا الأذى الذي يجلبه لهم الفيل.
استقبل السلطان الوفد وه ولا يعلم شيئا عن حقيقة مطلبهم، فرحب بهم وأكرم وفادتهم، وسألهم عن المدينة وأحوال أهلها، ودعاهم لعرض مطالبهم، ووعدهم بتحقيق ما أمكن تحقيقه منها.
تبادل أعضاء الوفد النظرات فيما بينهم، واحتاروا أيهم يبدأ الكلام، وكلٌ منهم يحث الآخر على أن يكون البادئ، متظاهرا بتقديمه على نفسه، فلما أطالوا في ذلك أشار السلطان إلى أكبرهم سنا ليبدأ الحديث، فاستجمع كل ما واتاه من شجاعة وبراعة وبدأ حديثه قائلا:
- أطال الله عمر مولانا السلطان، وأدام عزه وبعد، فإن أهل المدينة قد أوكلوا إلينا مهمة إزجاء تحياتهم إلى جنابكم الكريم، وإبلاغ جلالتكم جزيل شكرهم، على ما تفضلتم به من إطلاق سراح فيل جلالتكم، ليسرح ويمرح بين ظهرانيهم في شوارع المدينة وأسواقها وبساتينها، ليكون قرة عين لأهلها، يداعب الصغير ويسلي الكبير، وتقر به عين المبصر والضرير، فكل من في المدينة يكاد من فرحته بهذا الفيل أن يطير.
والتفت إلى يمينه مستعينا بجاره، ليكمل عنه بقية الحديث، ويكمل ما تبقى من طلبات أهل المدينة فقال:
- أطال الله بقاء مولانا السلطان، وأعزه بنصر من عنده وبعد .
فليس عندي ما أضيفه إلى ما سبقني به أخي المتحدث قبلي، سوى أن أنقل إلى جنابكم مشاعر أهل المدينة رجالا ونساءً، شيبا وشبانا، التي تعايش هموم فيلكم العظيم، وتشعر بشعوره في وحدته في ذهابه وإيابه، وتتساءل كيف يقضي أيامه ولياليه دون مؤنس أ وجليس؟ فإذا كان يسلي أهل المدينة، ويفرج عنهم كربهم، وينسيهم همومهم، فإن من حق أهل المدينة عليه أن يردوا له جميله، فيؤنسوا وحدته، ويخففوا عنه عزلته. فسأله السلطان:
- وكيف يكون ذلك؟
- فالتقط خيط الحديث ثالث أعضاء الوفد، ليدل وبدلوه مثنيا على ما بدأ به زميله مكملا الحديث قائلا:
- يقصد يا مولانا أن نبحث له عن فيلة تؤنس وحدته، وتخرجه من عزلته، فينعم الله عليهما بالذرية الصالحة من صغار الفيلة، التي تزيد مدينتنا بهجة وأنسا، وتصبح بلادنا من بلاد الفيلة، وليست ذات فيل واحد.
ولم يجد رابعهم ما يضيفه على أقوال من سبقوه، سوى إبداء الاستعداد ليكونوا أربعتهم، الوفد الذي سيذهب إلى بلاد الهند، نيابة عن أهل المدينة لاختيار الفيلة المناسبة التي تليق بمقام فيل السلطان العظيم، إذا تكرم جلالته ووافق على طلبهم وبعثتهم.
ولم يخيب السلطان رجاءهم حين استجاب فورا لطلبهم، بأن أثنى على اقتراحهم، وحثهم على الإسراع في مهمتهم، والعودة بما تقر به عيون أهل المدينة، وبما يسر قلوبهم.
وفات سعيد أن يسأل جده إن كان الوفد قد وفق في مسعاه، الذي قام فيه بدور الخاطبة، فقد كان عندها يغط هانئا في نوم عميق.
13/10/2012
تابع موضوعك على الفيس بوك وفي تويتر المثقف
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2247 الاربعاء 17/ 10 / 2012)