نصوص أدبية

كدمة صغيرة / موسى غافل الشطري

فيؤنسه إحساسه بأنه رجل .

يحس بأن أباه يبعث في جسده الصغير. ويرضى بموقعه، كمعيل لأمه وأخويه.

لكنه، بدلا من بيع مفردات السكاير، يسعده أن يحظى بعربة يدوية . وقتذاك، سيعود معه رغيف الخبز مقاداً. وإذ يضج فناء الدار، بصرير عجلاتها المعدنية، مكللة بتاج من الدقيق الأبلج، فأن الابتسامة تحل على البيت ضيفا طال غيابه. وتحط في فناء رحب.. وكان لرحيل مقتنيات البيت فضلا، حين هاجرت كأسراب البط البري فحظيت العربة بمساحة واسعة لا يعترضها عارض مهما أسرع الأطفال بدفعها بأقصى سرعتها .

في اليوم الثالث، جرى خلف عربته : نحو حشود المتبضعين. كانت المنافسة أشد.

وتدافع مع أقرانه بالمناكب. واكتشف ــ حينها ــ سياطا من الضرب والسباب.

في اليومين الماضيين، لم يحدث له ذلك . وعند إياب صرير العجلات، هبّت العائلة لملاقاته.

 حينها كانت جبهته متورمة، وعيناه مخضلّتان. اختلطت دموعه برشح أنفه. واختلط هذا كلّه بلقمته.

كانت صرّة النقود، لم تزل، تتدلّى من ياقة ثوبه الممزق.

راقبت أمه شروده بأسى، لكن وجهَهَا توشّح بضلال ابتسامةٍ مواسية . ابتسامة مسحت عتمة الخيبة والوحدة .

الوقت مبكّر والليل يدنو بهدوئه. ملقياً فوقه بشاله المخملي . جسده المتعب يئن، من تعب النهار والعراك . والكدمة تؤلمه وتضايقه.

مدد ساقيه واكتنفه الشرود، وأثقل جفنيه الكرى واستلم ..

لاحت له الكدمة تنتفخ . وعبثا حاول محاصرتها . لم يعد بمقدوره أن يحد من نموّها . أمعنت حتى  لم تعد تتناسب مع ضيق جبهته .

تضخمت ثم انفجرت ماءا متدفقا . وانغمرت المدينة واجتاحها سيل عارم .

 باستماتة تشبّث هنّاوي بالعربة الصغيرة وتدحرج وسط الفيض . فقط كانت سيّارات الشحن، والرافعات العملاقة،تتحدّى الاجتياح وتمضي باتجاهه المعاكس.

كانت العربات التي تجرها الخيول، بالكاد تصمد في مواجهة السيـــــــــــــــــــــــــــل .

انغمر فم هنّاوي بالماء المر، وكذلك أُذناه، إلاّ أنه يسمع الضجيج، المنبعث من آلات الرفع، وسيارات الشحن الضخمة .

 ثمة عويل .. وصراخ . وصهيل الخيول المعذبة من صعوبة المقاومة. وارتطام الكتل الحديدية والصناديق الخشبية الهائلة.وشجار مستمر.و سباب واستغاثات.ثم هدير كل شيء يتصافع واحدا بآخر.

يتداخل، في اشتباك، في اندماج  بحيث يصعب عليه أن يفرز شيئا من هذا الالتحام الغريب. بل لم يعد نحيبه مسموعا .

 بالكاد حاول هنّاوي، عبر صوته الأبحّ المسحوق، أن يستغيث.

حطّم ضرس رافعة واجهة العربة .لكن هنّاوي تشبث بها مستميتا . بات شبه عارٍ. وأيقن أن نقوده قد انجرفت مع أوصال ثوبه. ثم .. استقرّا على راحة لسان رافعة وارتفعا وسط الصرير . وعوضا من أن تعلو استغاثته، إنهدّ بوله .

لكنه ــ وهو يتدلّى من فوق المدينة الغريقةــ استمر متشبثا،ثم انقذف بعيدا.

حين استيقظ، مرر يده المعروقة على جبهته . واستغرب .. أن الكدمة لما تزل صغيرة. ولم يكن هناك انفجار .. سوى .. حبيبات من عرق متفصد. ووشالة من بلل تحت قفاه،ذي رائحة  حادّة .

 

قصة قصيرة جدا

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2248 الخميس 18 / 10 / 2012)

في نصوص اليوم