نصوص أدبية

خارطة الذئاب / حسن البصام

لا يطرأ تغيرعلى سلوكهم وطبائعهم بتغير الاحداث، مغروزة جذورهم في التحدي، والعناد، والتطرف ..... لقد كنت مخطئا الى حد ما، حين اعتقدت، ان ارادتهم تخفي في اعماقها، الرغبة للوقوف مع الحقيقة اينما كانت، حتى وان كانت كما يقال في فم الذئب .. ولا تسجد جباههم الا للخالق، ولا يهادنون

الذئاب نهمة، مرعبة، قبيحة ..... تترك نعومة الغابات وافيائها وطرائدها، لتطرق ابوابنا بقوائمها الامامية، يسرها ان تجدنا جياعا، لانملك طاقة للمقاومة، وحفاة، وتتاكد أكثر اننا عراة، لتقتحم الابواب وتحتفل راقصة مع ضحاياها وفرائسها. تستفزنا طرقات الذئاب، نهتف لحظتها: نعم .. نكررها ثلاث مرات. وحين لايجيب الشخص الموجود في البيت، بكلمة نعم . بصوت عال وبنغمة جنائزية، فان الذئب سوف يقتحم الباب، ويقفز مباشرة الى وسط البيت، ويخيره بين الفتك به وتمزيقه والتهامه، او تمكينه وباختياره، من الكشف عن عورته لالتهامها.. لذلك وبدافع الاحتفاظ بالاغلى، يتم التنازل عن الغالي، فيلتهم عورة ذلك الممتنع عن الهتاف، بنشوة واحساس بالظفر اكثر مما لو أكل الجسد بكامله.. ولا يشفع له تغيير رايه لحظة الافتراس حتى وان ردد ألف مرة: نعم .. بل يبادر الى التهامه حال تردد موقفه. ولا يترك له خيارا اخر مطلقا، او فرصة لاعادة النظر او التفكير .. لانه ببساطة يحب الدم، وينتشي حين يتدفق .. وتصل سعادته الى قمتها عندما تسيل دماء العورات من بين اسنانه، فتتناثر على أقدام الاخرين ..

توافدت بكثرة، الضعيف منها والقوي، اصبح أمام كل بيت ذئب يطرق الباب، في أي وقت يشاء .. لذلك فان كلمة نعم نرددها اكثر مما يردد اطفالنا كلمات مثل بابا او ماما .

هؤلاء الاشخاص، الذين لم اجد لصدى خطواتهم نغمة موحدة، كانوا يشاكسونها، ولا يجيبون بنعم، الا انهم يهربون، يقفزون قبل ان يلمحهم، ويختبئون، دون ان يمسكوا بعصا او بندقية لمواجهتها، منهزمون دائما و مشاكسون...وبنادقهم وعصيهم، يخفونها .. يجيبون على المستغرب من أمر فرارهم قائلين: اننا ندخر أسلحتنا لايام الضيق .

 لكن ماحدث مذهل حقا، ماتت اغلب الذئاب. والقليل الذي بقي منها يعيش مستترا، او يهجم على بعض الدجاج النائم ..ماتت بسبب انتشار الداء فجاة .. نال منها دون البشر .. قالوا وحسب الشائعات ان المرض تم نقله عن طريق ذئب جاء متخفيا في احدى البواخر العملاقة، وحين ترجل على الساحل، تسلل متسترا بين الادغال واشجار الغابات الممتدة من البحر حتى اطراف الصحراء، حين قادته غريزته المجبولة على الفتك، بالاستعانة على حاسة شم استثنائية، ليعيش حياته مرفها منعما منتشيا امام ينابيع الدم، يعيش على نطاق واسع وبكامل طاقته، لاعتقاده انه الاقوى والاشرس، ولكن حين اشهر زعامته واعلن فرض سيطرته، تصدت له الذئاب القادة للمجاميع المنتشرة، حين نازعهم على سلطة المكان، وتجاوز حدود الخارطة... تم التهامه خلال ثوان معدودة ... فنقلت العدوى مباشرة، بين الذئاب عن طريق الدم، ثم انتشر عن طريق الماء والهواء، حتى قضى على الكل تقريبا، وخاصة القوية الشرسة، التي تتشكل كتلا ومجاميعا،عند اتخاذ القرارات الحرجة .. تمارس القصاص بنفسها عندما يتعلق الامر بفريسة متميزة.

 لكننا لم نتوقف عن ترديد كلمة نعم، حتى للسائبة التي تمر من امام بيوتنا وهي تتشمم في الارض بحثا عن لقمة عابرة تسد بها جوعها .. بل اني سمعت يوما أحدهم يهتف للكلب بصوت واضح: نعم،

عندما قدمت انواع شتى من حيوانات الغابة لتدخل الى الصحراء المترامية ثم مدننا المحاذية لها، تجوب الشوارع تهز بذيولها، وتتمسح بالجدران، او تقف مستجدية، وهي تتلوى باجسادها، وتتقلب على ظهورها، وتصدر أصوات الطاعة والخذلان،عند مكان انبعاث روائح المطبخ المتسربة من تحت الابواب الخارجية للبيوت، كانت تستغرب في البدء، حين تمر على مسامعها كلمة نعم، لكنها اعتادت على ذلك واعتبرتها كلمة صداقة او عربون محبة، لذلك فان الكثير منها المختلفة الاشكال والالوان والانواع وخاصة الكلاب عرضت خدماتها للاخلاص، والحراسة، على الكثير من سكنة البيوت .

 لكن هؤلاء الاشخاص الذين التبس علي فهمهم، استمروا بمشاكسة الحيوانات على اختلافها، وبقيت خائفة منهم، وفي نفس الوقت خائفين من مواجهتها بالسلاح ..

الذين أرعبوا الذئاب حقا،هم الذين هجروا بيوتهم وسكنوا اعالي التلال الصحراوية المحيطة بالمدينة من الجوانب .. قتلوا الكثير منها .. لم يساوموا على عوراتهم درء للخطر.. ولم ينطقوا بكلمة نعم ذاعنين. ولم يترددوا لحظة واحدة عن مواجهتها .. كانوا يغيرون فجرا على معسكرات الذئاب، والحيوانات الاخرى التي أعقبتها .. ويبيدون ارتالا منها، وقد زرعوا الخوف في خطواتها ... قلقة تتلفت حين تطرق الابواب. لم تترجل من التلال، ولم يهجرها القلق ..فهي مازالت غير مقتنعة، وقررت ان لا تتخلى عن مهمتها، حتى مغادرة اخر حيوان .. وان لا يطرق باب، أو تلتهم عورة . وتستشيط غيضا عند مداهمت البيوت المكتظة بالنساء والاطفال المذعورين..

وان الذي لا يطاق وقد اقلق بالهم وأدمى مضجعهم واستشرى في عروقهم كالنيران تحرق دماءهم، حين لم تجد الذئاب رجلا في الدار، فالنساء ينبغي عليهن عرض عوراتهن ان اردن النجاة، بل انها تدفع الباب حال سماع صوتا نسويا في البيت، قد يدخل اكثر من واحد، يتنافسون، لالتهام عورات النساء، وان اخفين انفسهن، او تكورن، او حاولن الهرب، او قاومن ... وهذه مشكلة في غاية التعقيد، وهي التي أشعلت جذوة المجموعة عند التلال، حين أضرمت الذئاب نيران الغيرة في أفق رجولتهم ...على العكس من الاشخاص الذين لم يغيروا سلوكهم بتغير الاحداث ...وتغير انواع الحيوانات وانماط سلوكها، وفي قبضتهم السلاح، عندما يرون باعينهم، كيف تلتهم عورات نسائهم !!

انها مشغولة بالتهام المزيد من الفرائس، لم يكن لديها الرغبة بالتكاثر ولم تفكر به. التكاثر يؤسس لها المتنافسون.. لهذا فقد انقرضت الذئاب التي نجت من سريان العدوى .. لم يبق منها الا الظل، ظل لكل حيوان نافق يسير في الذاكرة .. الظل دائما ملاصق عن قرب، وهو الاقرب، يتواجد دائما حيث لا يشغل حيزا في المكان، انما يشغل حيزا في الذاكرة، حيزا كبيرا ومؤثرا .

حتى في الاحلام، تجثم على انفاسنا، كوابيس لها انياب.

فقد رسمتنا الذئاب خارطة لاحلامها .

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2249   الجمعة  19/ 10 / 2012)

في نصوص اليوم