نصوص أدبية

لويحظ وادي الخوف والطمع / حامد فاضل

 

رفعت السماء نقاب السحاب، أسفرت عن وجهها الصافي المشع بضياء شامتها الشقراء، لحظة سمعت الأمر ألإلهي بانتهاء الطوفان.. صمت الرعد، انطفأ البرق، أُلجمت خيول الغيث، التي تخب بين السماء والأرض، انقطع وقع حوافرها، ولم يُعد يُسمع على أسكفة العالم السفلي. هدأت أجنحة رخاخ العواصف، خفقت أجنحة حمائم النسيم، ابتدأت الأرض بشرب الماء الذي أغرق / البشر / الشجر / الحيوان / واكتست بثوب من الطين، أخفى غضون الدهر التي وشمت جبينها بالأخاديد، ومحا سطور كتاب الزمن، ومن أجل أن يستبدل عالماً زائلا ً بعالم جديد، تسلق الماء ظهور الرواسي، وعصبها بعصابة غرينه، رافعا ًعلى هاماتها بيرقه، وإذ آن ُّ لطيوره أن تهاجر، أبصرت الشمس في غرة مشرقها على اليابسة أعشاشاً كالعمائم حطت على رؤوس الجبال، التي تشهق كي تعب الهواء النقي، وتزفر بالماء من شقوق أردية السفوح، وقد تبعتها عراة التلال، وعلى إثرها الهضاب الخجولة سافرة، تتعثر بعد انحسار عباءة الموج عنها، فقد آنُّ أن تترجل سفينة الحيوان عن صهوة الطوفان.. لملمت شعرها المتطاير، إذ تخلت أذرع الريح عنها، ونودي ُّ ملاحها: (أن اظفر جدائلها، لترسو بها). فاستوت على الجبل، لينطلق الهدهد منها، حتى إذا لم يعد، نزل الملاح الى اليابسة التي اقتطعت ربع بيضة الأرض، المدحية بأمر الإله، تاركة ما تبقى ليُغمر بالماء.. وكما يكتسي جسد الوليد بالزغب، اكتسى جسد الأرض المقمط / بالغرين / بالعشب / بالشجر / سمح الملاح بترك السفينة، فجدَّ الناجون من الطوفان في البحث عن وطن للسلالات، حتى إذا بدأوا السكنى، جاءهم يتوكأ على عصا الأزل، الزمن المسافر نحو الأبد، ليشهد عظم مخاض الحياة، عظم مولودة الماء، الذي خلق منه كل شيء حي.. وكما تفتًح الجَمالُ على الأرض، بأمر الإله الجميل، عُبئ جوفها بالخوف والطمع، فأغرت الكائن المولع باقتحام المجهول، الذي أقتلع بأصابع فضوله، جذور خلود سلالته من الفردوس ليدسها في تراب العالم السفلي، الذي ثأر منه لتمزيقه جسد الأرض بأنصال السهام التي يطلقها من كنانة الاكتشاف / فأرعدت / أزبدت / قذفت بالحمم / غيرت شكلها مقنعة بالعصور كأنها تتخفى، وما درت أنها تثير بذلك شهوة الانسان المولع بالمجهول، الذي ما يزال أحفاده، ذوي العيون المتمترسة وراء الزجاج السميك، منذ أقدم الأزمنة يعملون لفك طلاسم الأرض / مدججين بالمعاول / الرفوش / الأزاميل / مزودين بالخرائط / الفِرَش / المساطر / الفراجيل / حاشرين أُنوفهم في الشقوق / قاطعين الفيافي / داخلين الكهوف / متلمسين المغارات / باقرين السهول / شاطرين الجبال /مخرجين ما في أرحام التلال / طاعنين خواصر الهضاب / نافضين جراب الدهر / دارسين أساطير الأوليين / قارئين سطور الماء / الطين / التراب / الرمل / الحصى / الحجر / مزينين قمة الهرم الجيولوجي بأحسن المكتشفات / مقسمين / مصنفين / ممتطين خيول العصور الجيولوجية / أولئك الذين قالوا: أن أرض السواد التي خرجت من الطوفان تتبختر أمام بحر(تثس)، بثوب الأهوار الموشى بالقصب، وشال الشمال المنسدل على قمة (هلكرد)، المزنر بزنار(حصاروست)، حتى أذيال المنطقة المتموجة، التي كانت تحمل في رحمها، صخوراً نارية قديمة، هي بقايا القارة الاركية. حتى إذا فاجأها المخاض، انتبذت تحت سماء الجنوب الغربي، خيمة آسيوية، لتلد توأمها، الهضبة الغربية التي ترعرعت في عصر الميوسين الأعلى، وكان مهدها على حافة جبل (كوندونالند)، مكللا ً بالصخور الرسوبية، والسهل الرسوبي ايزار جنوبي، حاكه العصر (ألبرمي)، وكان مهده حضن العصر الطباشيري.. وكلما اهتز المهد بفعل حركة الأرض، انحسر ثوب بحر (تثس)، فيمد الجرف ذراعيه، ليدثره بالترسبات، وإذ مر حين من الدهر، تعاقب فيه طغيان وانحسار البحر، مخلفا ً فلول البرك التي سرعان ما يأسرها الجفاف، فتفتدي نفسها، وتنطلق من أسر القاع، لتلتحق بقوافل الغيوم، تاركة متاعها من أحجار الجبس / الملح / الصلصال / المارل / أحجار الرمل / الصخور الطباشيرية / المجمعة / المكتلة / البختارية / التي استوطنت سلالتها، تلك الأرضين الممتدة جنوب بلاد الرافدين، مختارة منطقة الدبدبة وطنا ً لها. والدبدبة هي القسم الثاني من منطقة بصية، بحسب طبوغرافية الأرض، حيث يفصلها وادي لويحظ عن القسم الأول، الذي تشكله منطقة الحجارة. وكلما جلدت الريح ظهرها بالعواصف، تعفرت السماء من فوقها، فأمطرتها بالغبار الأصفر كالتبر. وكلما شاخ نهر، ومات، دثرته العصور بأغطية من رمال،فولِدَتْ للسماوة صحراءها / سمة البدوي/ موئل السر/ مكمن الجن / مأوى الضواري / بؤرة السحر / موطن الآبار / مخبأ الكمأ / منبت العشب / الزهر / السدر / جادة الجمل / موطيء الندى / ملعب القمر/ قبلة الغيث / معشوقة الجمال/ سجادة الدنيا / المنسوجة بأصابع الريح / المطر / الشمس / النجم / القمر / لا تبلى / لا تتغير / كل دهر مر بها / حل فيها / سحرته طلعتها / قلد جيدها بقلادته / فخرجت على بدوها / تتبختر بثياب الفصول.. الربيع السندسي الأخضر، الصيف المنخنق بالصهد، المتموج بالسراب، الخريف الأصفر الفاقع اللون، الشتاء ذي الملمس القارس.. ليلها خيمة غزلتها السماء، وبرها أسود حالك تارة، وطورا ًمضيء كما في النهار، أوتادها الآفاق ألانهائية، أعمدتها (القارات1)، فوانيسها النجوم، فراشها / الرمل / العشب / الزهور / وسائدها الكثبان / موقدها القمر / دلالها التلال / فناجينها الآبار / ضيوفها كائنات الصحراء / ربابتها النسيم / حكاؤها السَحر/ قصيدها الصمت / رواتها الآماد / نهارها ناقة (وضحة 2) تسير على آثارها الفائتة، نهجها غرة من الرمل، تبصم خفها عليه (نفيلة 3) للذي خلفها، وقدامها يندلق العشب والزهر وآبار ماء قراح، على ظهرها هودج من ضياء، تُزف به الشمس من مشرقها إلى مغربها، إلى بيتها في التلال، لتلقي غلالتها، تسفر عن قدها البرتقالي، تضطجع على فراش الغروب الأسمر كالبدوي.. تلك صحراء السماوة الناضجة، فأي زمان سينكحها، ليولد فجر جديد، يطل على الأودية، يمسح عن صدرها هموم الشعاب، يعيد الى بصية أيامها السالفات، يوم كان الصغار يعدون خلف الجمال، يقذفون الحصى (بالمحاجيل) صوب طيور القطاة، والكلاب تلم قطيع الشياه، تنبش الأرض باحثة عن يرابيعها، وتحرس رعيانها المتعبين، حين يغفون بفيء الشجر، بعد معركة خاسرة، مع (ملهي الرعيان 4)، المراوغ مثل لسان السراب في الهاجرة.. السماء مزحومة / بالصقور / الحبارى / القطا / النسور / الثعالب تأكل النبق، القنافذ تختبئ في درعها، الدعالج ترمي النبال، قوافل النمل تترى محملة بالفتات، وقرب الحمير، يحوم الذباب المعاند رغم سياط الذيول، على ساحل الرمل ترسو سفن الصحارى، وفي الوادي تعدو (جميلة 5) ريم، وتهفوا الى وِرد ماء تجمع في فيضة، أو قليب، وقد تتخلف عنها صغار المها، فيقتادها الرعاة الى دارهم في المساء، لتصبح من جملة العائلة.. هل رأت العين أجمل من غزالة شاردة؟ تعدو بوادي لويحظ المستحم بماء المطر، أم رأته وقد لون الغسق منه الشفاه، يزق الى غزلانه المحناة ماءً قراح، ويلقي عليها عباءته في المساء، ليسترها عن عيون الضواري، ويتركها تهضم الحنظل المتناثر على أرضه كما البرتقال، وإذ يطل عليها القمر، وتأنس في ضوئه سلاما ًوأمنا ً، تقفز فوق صخور لويحظ، تلعب آمنة بحضن نسيم الشمال، وحين ترى من خلف باب التلال الموارب، خصلة ضوء تدلت تداعب وجه الرمال، استدلت على غرة تلك الغزالة التي في السماء، فتهرع نحو مخابئها في غابة السدر، لتأمن من عيون النهار.. وأني بوادي لويحظ وقفت مساء ً، وقد ضج في داخلي نداء البراري، وكانت فوانيس ذاك المساء، تفيض على الأرض ضوء السماء، وعيناي بالأفق سارحتان، لعلي ألمح وشما ً لحافر ذاك الغزال الذي أتى في السفينة، ليزرع بيرق سلالته على هامة الصخرة المسماة باسمه، ويهدي من (الخشف 6) أضحية لآلهة الجوع في البادية، وفي سعيها الى قمة التهجد، أرخت الروح مني عقال الجسد، وطارت محلقة في الفضاء الرحب، وفي ذروة الوجد حيث التوحد بيني، وبين البدوي الذي في القرار، تسنى لعينيّ أن تضفرا بذاك الغزال الرشيق، يعدو على هامة الريح فوق لويحظ، يحوم على موطن قد بناه، ويأسف إذ رغم كل ما قدمته يداه، نذورا ً لجيرانه المتعبين، فقد دنست أرض موطنه المستباحة أرجل الوافدين.. لذا حين شم رائحة أبن آدم مني، لوى عنقه الرشيق الجميل، وأعرض عني، ناشرا ً في الرياح جناحين كالسحب البيض في سماء الربيع، فحركت أجنحتي إثره بهدوء، همست له بأني صديق، لا سيف عندي ولا خنجر في حزامي، ولا أطلق النار من أجل صيد، ولكنه كان أسرع مني، فأنى اقتربت، يبعد عني، واختفى مثلما قد ظهر / رشيقا ً / خفيفا ً / شفيفا ً / فصدقت أن لا خرافة بالذي قيل لي عن حكاية وادي لويحظ بأن غزالا ً رشيقا جميلا ً لم تر العين مثله، يجيء مساء ً ليشرب من مائه السلسبيل، وإذ يتنفس الصبح حولي، أدرك أني كنت أطارد فيَّ غزال الضمير العصي على الصيد، فأطفئ ناري برشفة ماء، وأمضي حثيثا إلى بيت شَعْرِ قريب، لألقي بنفسي على مطرح بدوي، وأشرب قهوة الصبح كي أستفيق، وإذ يتناهى لأذني / الصياح / النباح / الثغاء / الرغاء / النهيق / الصهيل / أعرف أن الرعاة خرجوا، والشمس لما تزل في الطريق، وألمح بعض الأرانب تنفر مذعورة، إذ ترى ثعلبا ًيلطع الماء من بركة قبل أن يحتجب، فيخطئ واحدها في قفزة، أو يضل الطريق، فيقضى عليه بأنياب كلب سلوقي.. أمامي وادي لويحظ يسفر عن وجهه للصباح / وتبدو الخيام التي تحيط به / تؤطر أجرافه / يأنس منها / ومن بدوها / فينساب كالرهوان / نشيج الربابة يحدو به / وصوت مغني القصيد: (بيتي على جال الشعيب.. واللي يجنبني غبر7).. لإقراء ضيف، تظل عيون المضايف مفتوحة، لعل الطريق تجود بسارٍ آنس نارا ً، أو ضاربٍ تناهى الى سمعه رنين (النجر8)، يُطسُ السبيل9، وتبقى المواقد مسجورة بالغضا، والدلال مدسوسة في لضى الجمر / ثنوة10 / قمقم 11/ بجر12 / يدور الحديث، يدور(المصب13)، تُصب الفناجين، يشرب الضيف قهوة القرنفل، أو قهوة الهيل، ثم يأتي الطعام، فيأكل الضيف مما تجود به يدا لويحظ، الوادي الجميل الفارع، المضطجع على مطرح الرمل، بين هضبة نجد، ومنخفض الصلبيات، القاسم بصية بسيف الطبيعة إلى قسمين، الذي يزين صدره بنياشين (القلبان14)، التي استحقها بعد معارك / الماء / والصخر / والحصى / والتراب / السابح بالسيل / المتلفع بالسدر / المكتظ بالحنظل / العاقول / الشيح / الزعتر / الحرمل / الصريم / فليس عجيبا ًًً إذا ما هفا إليه فؤاد الغزال، الذي تكفل حفظ سلالته، جاءه مستدلا ًً بغريزته، تابعا ًوشم حوافر أنثاه على صفحات الرمال، ولم يدر أن الذين أتوا معه في السفينة قد سبقوه، واستوطنوا قبله في الكهوف / ذئاب / ضباع / ثعالب / أرانب / في الجحور / أفاع / يرابيع / قنافذ / دعالج / في الجو / كانت تحوم / النسور / الصقور / الشواهين / على الأرض كان أبن آدم يكمن كل غروب لها في أجمات العيون أو يطاردها على صهوة كحيلة ضابحة، يشق لبانها هواء الصباح، تمرق كالسهم خلف الطريدة، مطلقا ً كلبه السلوقي الضامر الخصر في إثرها، أو صقره الذي يفقع العيون.. وبرغم كل الضحايا التي قدمتها السلالة للجائعين علّ آلهة الصيد ترضى وتتركها في أمان، لم تنم ليلة دون فقد الأعزة من نسلها / بين ناب / ومخلب / وكمين / فصارت تلوذ بما قد بقى من قطيع عن الأعين والطامعين، حيث لم يعد القفز والركض ينفع، أمام البنادق / الدرابيل / العربات / التي تثير الغبار كما العاصفة، وغباء أبن آدم الذي يقتل باسم الجَمالْ، الجَمالْ، فَرِِحٌ بكل صيد ثمين، ليقضي على آخر ما تبقى من الريم في البادية، ويمسح عن قشر أرض لويحظ / آثار غزلانها الرائعات.

*********

لا أفهم بالتضاريس التي على الخارطة، كفهمي لها وأنا بين أحضان أمي الأرض، كلما هزني الوجد نحو البراري، نحو صحرائي التي في القرار، نحو تلك البساطة، تلك البراءة، ذاك النقاء.. هفت الروح قبلي نحو القفار، فأقرأها وهي مسفوحة أمام البصر، وأبصرني ضاربا ً ساربا ً في مرايا الرمال، مرايا العيون، مرايا الحجر، أطارد روحي التي سبقتني، لتنزل في قطرة من مطر، لتخرج في دلو بئر، في نسغ عشب، أو لتسقي الشجر، ربما حَلّقَتْ خلف طير الحبارى، أو غفت بعش قطاة، ربما حَوّمَتْ فوق رأس غزال، أو بَنَتْ عشها فوق قمة راقم، أو أوت إلى موقد ٍ حزمة من غضا، تفيض بضوء، تضوع بعطر، وتمنح دفءً (لمعزب 15)، أو طفت فوق سيل مفاجئ، يشق زيق لويحظ، المزرر كزيق البدوية.. وتبقى السماوة تفخر من بين كثرة وديانها، والأخاديد التي تملأ صحرائها، وتلك التي لضمتها أصابع الدهر بخيط الهضاب، لتبدو كمسبحة الخرز في كف منطقة الحجارة، التي تميل كأنما ترقص للهضبة، من الجنوب الغربي، إلى الشمال الشرقي، قاصدة واحة المنخفض.. يبقى لويحظ بعين البداوة مرآة خوف وطمع على مطرح الرمل يغفو، أمير على كل ما حوله، محاط بحاشية من شعاب صغيرة / كالجدعة / الضبعة / العاذر / الحياصي / ولا يضاهيه في خيلائه، إلا شعيب أبو غار الكبير، الذي تشيعه الى مصبه بمنخفض (الصليبات)، ثلة أخرى من الوديان / كالغانمي / السدير / الغوير / النهدين / الأشعلي.. ووادي لويحظ، أو وادي بصية، نسبة إلى منطقة بصية، التي تأخذه بحضنها، وترعاه خوفا ً وطمعا ً وادٍ رملي فارع، رأسه على وسادة نجد، وقدماه مدحوستان بين منطقتي الدبدبة والحجارة، ويعد من ضمن صحراء الدبدبة لأرضه الرملية، طوله (200 كم)، تلون ثوبه قلبان سطحية عذبة المياه، تتراوح أعماقها بين (1م إلى 5-1م).. إلى شرقه، ضَرَبَ (شعيب16) الباطن أطناب نجعه / بين السعودية / البصرة / ذي قار / إلى غربه، عرش صحراء الحجارة، حفيدة جبل (كوندلالند)، شماله، أعدت بحيرة صلبيات قربتها لتملأها منه كلما عطشت، جنوبا، ظلت هضبة نجد تفاجئه بالسيول.. يضيق نصفه العلوي / حتى يصل (50م) ويعرض نصفه السفلي، حتى يصل إلى (100 م)، كما يختلف عمقه باختلاف الانحدار، وطبيعة وجيولوجية المنطقة، فعندما يشعر بدفء حضن بصية، يفرد ذراعيه، يتمطى، فيزداد عرضه، وعمقه من (3م إلى 5 م)، ويرفع ثوبه، ليعبر مناطق الطمر، ثم يرخي أذياله، ليصل عمقه في بعض المناطق إلى (7م)، والوديان هي سمة سطح منطقة الحجارة، التي وسمتها بها يد الطبيعة، لا يرحل البدو عنها، ويحلون فيها شتاء ً وصيفا ً، فهي الفردوس لهم، ولأنعامهم.. في الربيع تستحم بالمزن، تتعطر بالزهر، تبث الزرابي البرية، وتخرج على البدو بثياب سندس خضر، فيتلقونها / بالدحة / السامري / سباق الخيل / سباق الهجن / هلاهل البارود في مسابقات رمي الشبح.. في الصيف تسعفهم بِقِرَبْ المياه الجوفية.. في الخريف تٌبقي على ظهرها ما ترمه الإبل.. في الشتاء تأخذهم بدفء أحضانها، فيحيطونها ببيوت الشَعْرِ. وأكثرهم من قبائل / الظفير / السعيد / أبي ذراع / السويط / الجواسم / العريف / الحسينات / وسبل الوديان التي تربطها بمناطق الصحراء الشسيعة، مسالك جيدة، ووسيلة هداية، للبدو الناصبين خيامهم على جوانبها، كما استغل بعض المزارعين في قرية (الركايا) المياه المتدفقة من أبارها، وعيونها في سقي مزارعهم، وتتباهى الأودية الجافة، والمجاري النهرية غير الدائمة الجريان، في الصحارى الحارة الجافة، بأفرشة الرواسب الفيضية، التي تفترش قيعانها، موجدة تربة جيدة لنمو العشب والشجر، فالنهر الدائم الجريان الذي يرضع من أثداء سماء محملة بالسحاب الثقال، يفرغ حمولته في البحر، الذي يسعى إليه، بينما تتميز مجاري المناطق الصحراوية الحارة، التي تقع ضمنها بادية بصية، ولأنها تنحدر من سلالة غيوم فقيرة، يقصر جريان سيولها، الذي قد يستمر لبضع ساعات، فلا يتسنى للمجرى أن يحمل جراب رواسبه، الى مسافات بعيدة عن مصدره، إذ سرعان ما يسقط إعياءً، على مطرح الرمل أسفل منبعه، يفك أحزمة السيول، يلقي عن كاهله أثقال الرواسب / يتنهد / يتمطى / يقتعد قيعان الوديان / مشكلا ركامات / مخروطات / غطانات / مروحية / إرسابية / تزين وجه الوادي / على عكس روافد المناطق الغزيرة الأمطار، التي تنحدر من بين طيات عمائم الجبال، وهي تتلوى زاحفة ً كأفراخ حيات، تلتهم كل ما يصادفها من تراب / رمل / حصى / فتكبر / تكبر/ تنتفخ بطونها الحبلى بالرواسب، فتطغي المياه كلما اقترب النهر من مصبه، تختلف أشكال تصريف الأودية في الصحارى الجافة، فبينما تتجمع المسيلات المائية الصغيرة في المناطق الغزيرة الأمطار، تمسك بأيدي بعضها / تتكاثف / تعدو / تسرع / تنزلق / مكركرة ً فوق الانحدارات العليا، ساقطة ً صوب الانحدارات الدنيا، تتلقفها أذرع البحيرات، تضيع كركراتها في صخب البحار.. في المناطق الصحراوية، تتجمع المياه في أعلى الوديان، ثم تبدأ مسيرتها العشوائية نحو الوديان الدنيا، وكلما ابتعدت عن منابعها، انهارت قواها وتشتت شملها، سقطت في كمائن الصحراء، ابتلعتها الجحور / الشقوق / الحفر / فتستسلم وتساق الى الأحواض الداخلية أو المغلقة، ويلجأ من ضل ُّ منها الى مسامات الصخور17.. كل عام تأتي الغيوم الى أرض نجد، تبث همومها الى الهضبة، تبكي على صدرها، تنشج، تغرقها بالدموع، تنشفها الهضبة بمناديل الرياح، فتنزح الى جارة غافلة.. هنالك في صحراء السماوة، المحلولة الشعر في ضياء النهار، المعصوبة الرأس بالسدر والغضا، الرافلة بثوب الربيع، وحيث الرعاة في كل فيضة يحطوا الرحال، على أيما موعد، يدهم السيل فرحتهم بالربيع، يغرق وديان صحرائهم، يفاجئ كل من لاذ فيها من الحيوات، فتطفوا على كف عفريتها الماء، تتخبط طالبة النجاة، رؤوس كثيرة يخرجها السيل من مخابئها، تلفظها / الكهوف / المغارات / الجحور/ التي اختنقت بالمياه، فعلى الماء تسعى الأفاعي مرعوبة، وتخرج منه رؤوس / الذئاب / الضباع / الكلاب / الثعالب / وتطفوا الأرانب / باحثة عن أيما عاصم من الموج، وحتى الجِمالُ التي لا تخاف، ترغو من الخوف، إذ إبتل منها السنام، وتطفوا / الخيول / الحمير / الشياه / الخيام / فيصرخ البدو انه الطوفان، وليس لنا سفن للنجاة، السماء تفتح أبوابها، ولا درقة تصد عن الأرض ماءها المنهر، فينغمر/ الرمل / يشرب / يشرب / يشرب / حتى انتفاخ الشعيب / الذي يرمس / يتطهر/ يغسل / أثواب أشجاره / يمسح عن وجهه غبار العواصف، يقشط عن جلده بثور الجفاف، يزيح عن كتفيه ركام الحجر، يملأ كفيه بالماء، يسقي عطاشى القوافل / يهدر / معلنا ً بالخرير / بأن لدي مياها ً وفيرة / هلموا / تعالوا / أستسقيكمو من المزن ماء ً زلال، و لكن هذا الكرم البدوي، قد يتحول الى كارثة، عندما تصل المياه الغزيرة، الى بلدة لم يصبها المطر، وهي تعدو مسرعة كالخيل في غزوة هائلة، مكتسحة ً كل من يعترض مسيرتها الصاخبة، فتفاجئ البيوت، والناس الغافلين الآمنين، تحت سماء خالية من السحب، وفي مناخ مختلف عن مناخ المنبع الذي أتت منه، لتميل عليهم ميلة واحدة ً، مفاجئة ً البدو الذين ينصبون بيوت الشَعرِ في بطون الوديان، فيتعرضون الى الغرق، وتدمر مساكنهم وممتلكاتهم.. ذات صيف فوجيء سكان ناحية بصية، والقرى التابعة لها، بسيل من أحفاد الطوفان، مياه غزيرة، حملها وادي لويحظ، أتته تعدو من هضبة نجد، هابطة من غيوم رمادية، حجبت سماء نجد، بينما كانت النجوم ترتع في سماء بصية الخالية من الغيوم، فجرف ذلك السيل المفاجيء خيام البدو الرحل، وأدى الى نفوق أعداد كبيرة من مواشيهم، ومن سوء الحظ، أن المياه الجارفة التي نقلها الوادي، وصلت الى خيام البدو، بياتا وهم نائمون، مياها ً عظيمة، شديدة الانحدار، متخمة بالمفتتات الصخرية، و الرواسب الرملية، والطنية المختلطة بحيث تشكل كتلة، تقتلع متاريس العوائق التي تحاول إعاقة مجراها.. في مستهل تسعينات القرن العشرين، في غبش حرب الثلاث وثلاثين دولة، صحت بصية لاكما تصحو على سيول المياه، صحت على سيل من الدبابات القادمة من حفر الباطن، كانت الصخور تردد وقع حوافر دبابات شوارسكوف، وهي تحفر بالسرفات رمال الصحراء، في الحرب الكونية، بركت بعران الصفيح الأمريكي على صدر وادي لويحظ.. يذكر أحمد حمدان الجشعمي، في كتابه بصية ألق الصحراء وقافية الشعراء: أن القوات الأمريكية قامت خلال اجتياحها لناحية بصية سنة (1991) بمد طرق النقل، ورصفها، وقد طمر الوادي جنوب منطقة بصية على ارتفاع يزيد على (2م) كما أقامت تلك القوات عدة طرق عبر الوادي، وبدون وضع ممرات لمياه السيول، مما أدى إلى حجزها، وجريانها بطريق آخر، أدى إلى تشوهات بينية مختلفة، حتى إذا جاء السيل العارم في 19/ 2 / 1999 اقتلع السد الترابي الكبير الذي أقامه الجيش الأمريكي.

*********

في مرحلة جمع القوت، كان الصيد،الوسيلة الأولى للعيش، التي عرفها، واحترفها الانسان البدائي، صاعدا ً سلمها، من درجة العصفور، الى درجة الديناصور.. وفي مرحلة جمع المعلومات، صار الصيد وسيلة من وسائل الترفيه، التي طورها الانسان المتحضر، وموت الطريدة، هو النتيجة في الحالتين. ربما لم يكن باعث الصيد في العصور القديمة، غير ملء البطون، بينما صار باعث الصيد في العصور الحديثة / بطر/ تباه / حنين / الى غابة في العقول، ووادي لويحظ الذي بث فيه إله البراري، من كل / نوع / وشكل / ولون / دواب كثير، ليبسط فيه لمن شاء رزقا ً وفير.. وللبدو في الصيد وسائل شتى / صقور / كلاب / حبال / عصي / حتى إذا ما أتى البادية، قرن جديد، يتأرجح في هودج الدهر، على ناقة العشرين، يحط الرحال، ويضرب أطنابه، في بطون وديانها الثاكلات، أتته وفود الرمال، ولما يزل في عقده الأول، لتنعى إليه آخر طير نعام، ثم أتته في عقده السابع من عمره المئوي، لتخبره باختفاء الغزال، فلم يبق للصيد بوادي لويحظ، غير الأرانب / طيور الحبارى / القطا / واليمام / أما السلوقي النحيل الخصر، الذي خلق للصيد، فما يزال يقاوم آفة الانقراض، باحثا ًعن فرائسه في الجحور، فكيف ارتضى سليل الكلاب التي تسبق الريح، لافتراس الطرائد في البادية، بافتراس جرذانها اللابدات العجاف ؟.. والبدوي يعتمد الصيد، إذ يعزب صيفا ً، وتفرغ زوادته من طعام، أما المزارع، أو صاحب الماشية، فيعتبر الصيد حرفة ثانية، ربما لصناعة أمتعة، كوسائد ريش، فراش شتائي، عباءة فرو، صرة جلد لحفظ الثياب، وأكثر ما تخاف الطيور البنادق، الكسر أو الشوزل، إذ تتشظى رصاصتها القاتلة، فتسقط عشرة من طيور القطا مرة واحدة.. زمان طويل مضى، منذ جاء الغزال المؤسس لسلالة الريم في البادية، وأحفاده يمرحون على بساط الرمال، حيث كان للصيد عدته البائدة، قبل أن تمزق أول بارودة، ثوب وادي لويحظ، تأز رصاصتها في خواصر الصخور، وتردي الغزال الذي لم يكن من السهل أن يصاد بوضح النهار، على مسمع من السدر والبئر والرابية، ومرأى من الشمس المكناة باسمه، لتستهل زمان صيد جديد، وتعلن بدء انقراض الغزال الذي تدر له جلبان لويحظ أمواهها، فيشرب منها كل غروب، ليطفئ في كبده عطشا ً ظل يكابده طوال النهار، والذي اعتمد البدو في صيده، طرقا ً بدائية لم تكن لتقضي عليه، أو تهدده بالانقراض، إذ يختفي البدوي عكس اتجاه الريح في (دوزة 18)، يكمن فيها بقرب القليب، ويعمد الى مد انشوطة حبل، يمسك بالطرف الآخر منها، ويظل ينتظر الغزال، عيناه خلف الشمس تتبع خطوها، وهي تميل على التلال، صفراء شاحبة كأن بها اعتلال، ولربما قد مر سرب قطا، يؤب الى وكناته ما بين كثبان الرمال، أو أسفر الأفق البعيد، عن الكلاب النابحات، وراء أثار الرعاة السائرين قدام قطعان الشياه العائدات الى الديار، ولفافة أو اثنتين، وتودع الشمس الرمال، قد آن أن يأتي الغزال.. ها قد أتى، ولقد رأه وظله ما بين حشد من ظلال، فيخبئ البدوي كيس التبغ، يمسك حبله، ويفيض من عينيه ضوء، يكشف الدرب المغطى بالرمال، القلب يخفق بانفعال، تتكسر الأنفاس بين ضلوعه، ويكاد يخنقه السعال.. عند الجليب يقف الغزال، متوترا ً حذرا ً، وقد تلفع بالغروب، عيناه واسعتان، باحثتان في كل الجهات، لا تطرفان، أذناه تنتصبان، تتحركان، تتسمعان صوت أجنحة النسيم، والمنخران يتشممان روائح الصحراء، لا شيء مريب، تلك السماء كما رآها يوم أمس، وهلالها الشاب النحيل، يطل من مرآتها، يمشي وتتبعه النجوم، الرمل يطرح عنه هاجرة النهار، يعرى وينشر ثوبه على حبال الأفق، فلربما هطل الندى، أو ناشه برد الشمال، في البئر ماء بارد، والكبد يحرقه العطش، يثني الغزال قوائمه، ويمد نحو الماء رقبته النحيلة.. يتهيأ البدوي، يجمح قلبه بين الضلوع، ويجف ريقه، حين تبتل العروق من الغزال، وينتشي فيأخذه ارتخاء، وما هي إلا كطرفة عين، ليصحو على حبل صياده، وقد كبل منه اليدين، فينفر، يقفز، لكن ذلك بعد فوات الأوان.

********

حين تم تشكيل قوة من الشرطة الهجانة، بأمر من السير غلوب باشا عند بناء حصن بصية سنة 1928، أصبحت الغزلان بين نارين، نار البواردي، وهو البدوي الصياد، الذي يصنع عتاد بارودته المعروفة (بأم الملح) بنفسه، حيث يخلط الكبريت بالملح وقطع الرصاص، أو بقايا المسامير، ويدسها مع فتيلة خاصة في ظرف اطلاقة فارغة، ونار الشرطي الهجان، الذي يتباهى بامتلاكه بندقية من الحكومة.. كان صوت الرصاص يفزع الغزلان، فتخرج من مخابئها في غابات السدر الصحراوي، لتجد سيارة الشرطة في انتظارها، حيث تبدأ المطاردة في غرة النهار، جميلات الغزلان تعدو لاهثة على الرمال المسفوحة، تتشظى ناشدة الخلاص، وسيارة الشرطة تلاحقها بأقصى سرعة، يطلق الرجال نيران بنادقهم، فيردون مجموعة من الغزلان، تتوقف السيارة، ينزلون منها، يستلون خناجرهم، يذبحون الغزلان، ثم يعلقونها على جانبي السيارة التي تعاود الانطلاق خلف قطعان الغزلان المرعوبة التي ضاقت عليها الصحراء بما رحبت، وقد يستمرون بالقتل، والذبح حتى يحين المساء، فيعودون الى منطقة بصية، يدورون على بيوت الطين، يطرقون أبواب الصفيح، يوزعون اللحم كما يفعلون كل مساء، ثم يعمدون الى تجفيف اللحم الزائد.. وتمضي السنون، ذكور الغزلان تزرع نطف السلالة في أرحام الإناث، وبنادق الشرطة تحصد، الغزلان تطبع آثارها على صفحات الرمال، وإطارات سيارات تمحو، البنادق تغتالها كل حين، وهي تتشبث بحياتها، بوجودها، بموطنها، وتحاول الحفاظ على سلالتها، تمرنت على الإفلات من الحبال، الاختفاء عن أعين الصقور، وعودت أذانها على سماع صوت الرصاص، المراوغة للتخلص من بارودة البواردي، الركض في بطون الأخاديد، والرمال الغزيرة للتخلص من السيارات، إلا أنها عجزت، وفشلت في التخلص من البنادق الرشاشة، التي ترشقها بالرصاص، كما يرشقها الشتاء بالمطر، والسيارات الحديثة التي صنعت في المصانع الأوربية، ومصانع أمريكا واليابان خصيصا ً لاقتحام الصحراء، والتي جاء بها السياح من عرب الجزيرة، الذين توافدوا على البوادي العراقية ليستهلوا العقد السابع من القرن العشرين بانقراض الغزال من بادية بصية، ويعلنوا خلو وادي لويحظ من أي أثر لحوافره.. كل عام يأتي السياح إلى بادية بصية، من دول الخليج العربي / قطريون / كويتيون / بحرانيون / سعوديون / إماراتيون / ينصبون خيامهم، لغرض الصيد، السهر الدافئ مع نار الغضا، والتمتع بطبيعة الصحراء الساحرة التي افتقدها البدو في اغلب البلدان العربية، يهيئون / سياراتهم / صقورهم المدربة / بنادقهم الرشاشة / ليمارسوا صيد / الحبارى / القطا / الأرانب /البط البري / السمنان / يوثقون مشاهد الصيد عن طريق كاميراتهم المحمولة، ويتمتعون اشد التمتع، في بادية السماوة الرائعة، حيث يمكثون فيها لأكثر من شهر، ثم يعودون حاملين معهم الهدايا من الطيور التي اصطادوها الى أهلهم، وأصدقائهم في بلدانهم، ويستفاد الناس في البادية من السياحة، إذ ينفق السياح أموالا ً طائلة من العملة الصعبة، مقابل السلع، والخدمات التي يحتاجها أولئك السياح، الذين يستفادون من خبرة أهل البادية في الدلالة، وتوفير المياه، والوقود، كما ينشط بيع الخضار، الفاكهة، المياه المعدنية، و الخراف، وحتى ورش تصليح السيارات، ومحال الأدوات الاحتياطية، تزدهر من خلال الخدمات التي تقدمها الى المئات من السياح، الذين تتعطل سياراتهم كثيرا اثناء متابعتهم لصقورهم وهي تنقض على فرائسها في تلك الصحراء المتموجة  

*********

آن لي أن أترجل عن ناقة الحكي، أخلي زمامها الى من هو أقدر مني/ الحكاء / الصياد / القناص / الماهر / الذي كَنَّتْهُ الصحراء بأبي الأشقر، للزغب الأشقر في جناحي صقره، ضربات سريعة متوالية على رقبة الناقة، تتشكى الناقة، الزبد يرغو فوق الشفتين، الرقبة الضخمة تتلوى كأفعى الأساطير، ثم تبرك على الثفنات، ويحط الكلكل فوق الرمل، وأبو الأشقر يصعدها، يجلس فوق شداد الناقة، والناقة تهدأ، تجتر طعاما ً مخزونا ً، وتلوك به، تتلهى عن ثقل أبي الأشقر، وعن الصقر المعصوب العينين الأشقر، وأبو الأشقر يتهيأ ليقص علينا ً، قصصا ً عن أيام الصيادين الماضين، أبناء الصحراء، الأم الكبرى، منجبة الآكل والمأكول، فتعالوا نتحلق حول أبي الأشقر، اقتربوا أكثر، انه يمشط لحيته، يجس الماضي المخبوء في دغل اللحية، بأنامله يطوي الحاضر، لا تطرف عيناه، لا تنبس شفتاه، يتكلم بالصمت مع الصمت، و يسهو، يبدو كأنه ينأى عنا، يسمو فوق (الردم19) القادم من نجد، ليسربل بالماء رمال لويحظ، يعانق أبواب بيوت بصية، ويأخذها بالأحضان، تلك طقوس دخول حكايا الصحراء، فلنصمت إن كنا نبغي سماع حكاية، ولنتهيأ حين يعود إلينا الصياد الحكاء أبو الأشقر، وطرائده تتدلى من سرج الناقة.. ها قد عاد إلينا بحكاية، نالتها بارودته أو صقره، فأبو الأشقر ما زال يطارد آخر غزلان الوادي، ويشك بأن الغزلان انقرضت، ويصر على أن غزالا ً بلون الحناء، يجيء الوادي ليشرب من ماء قلبانه، ومن الصعب أن تراه العيون، إلا إذا جاء عند اكتمال القمر، ويحكى قال أبو الأشقر، وأطلق آهة كالهجير: أن هنالك بدويا غليظ الشارب، مدبب اللحية، رفيع الجدائل، ضخما ً كفحل أجهم، إذا ما اعتلى أنشط الخيل، انحنى تحته، وحمحم من ثقله واشتكى، طويلا ً ينوش الرمال بأقدامه، ويحرث ظفر إبهامه، شروخا بوجه الرمال، له بصر الطير الحر، وصبر البعير، وأنف الذئب، وأذن القطاة، صيادا ًعاش هنا على رمل هذه البادية، في ذلك الزمن الذي لن يعود، وأطلق آهة أخرى، وحدق فينا، كأنه يبحث عن أرث ذلك البدوي، وكلمني، لعله جدك، أو جدي، أوجد أحد السامعين، قناصا لا يخطئ حتى فرخ النملة، يصنع أطلاقته بيده، يتنكب بارودته، ويسري إذا كلكل الليل في البادية، تاركا ً للحصان طيّ طريق القليب، طلقة واحدة لا غيرها، ويأتي مع الفجر حاملا ً صيده للفريج، فيهرع لاستقباله الجائعون، وتسجر نار الشواء، فتدمع منها العيون، وتستاف دخانها أنوف الكلاب، فتأتي تبصبص في انتظار العظام، وذات مساء، مضى مثل كل مساء، تلفع بردة القمر الذي في السماء، وقدامه كان ذاك الخلاء، مضيئا ً كما في النهار، وعند لويحظ قرب جليب الحمام، ترجل عن صهوته، وانتحى ليكمن في انتظار الغزال.. ولم يدر أن عابر سبيل أتى قبله، منذ آبت الشمس نحو الغروب، ليأكل كسرة خبز، وفردة تمر، ويطفئ نار الهجير بماء القليب، ثم توضى وصلى، وعلى الرمل ألقى بتعب مسير النهار، داحسا ً خفه تحت رأسه، وراح يحدق في عيون السماء، التي تحدق في الوادي كل مساء، وشيئاً.. فشيئا ً، كقافلة النمل حلُّ النعاس بأجفانه، وارتخت شفتاه، لتسقط كعب لفافته، ولم يعد للنجوم وجود، ولا للجليب، ولا للسماء، ارتمى ذلك البدوي نحو حضن المنام، ونام على الرمل دون غطاء.. وفي غابة السدر كان الغزال، ينفض عن جلده اختباء النهار، فقد جاءه المساء الصديق، ليلقي عليه كساء ً من الأمن، بعد خوف النهار، تمطى وحرك بندول ذيله، وانسل الى مآدب وادي لويحظ، ليلتهم العشب والحنظل المتناثر فوق الرمال، حتى إذا ما امتلأ كرشه، أسرع للشرب نحو قليب الحمام.. ومن كهفه، اندفع أحمر العين الذي لا ينام، عوى حينما رأى الضوء يسيل بوادي لويحظ، وأشرع أنيابه بوجه القمر، فللذئب خير صديق الظلام، وراح يشم الحصى والرمال، وقد ضج في جوفه جوع ذاك النهار، ولم يطل البحث عن صيده، فقد شم رائحة لغزال، فسال اللعاب، وضج العواء، وهاجت به نزعة الشر، فراح يلهث خلف الأثر، وما هي إلا كلمح البصر، فكان قريبا ً وخلف الجليب، وحين تهيأ لافتراس الغزال، أبصر بالرجل النائم فوق الرمال، تلبث لابدا ً وراح يفكر، ربما استيقظ قبل الوصول الى الغزال.. وفي مكمن الصيد، كأنما انشقت الأرض أمام صيادنا البدوي، إذ رأى الذئب خلف الغزال، هي اطلاقة واحدة،فأيهما سيردي بها، أيطلقها باتجاه الغزال، فيخطفه الذئب، أو قد يهاجمه، إن هو همُّ بأخذ ه منه، فليتريث إذن، حتى إذا بطش الذئب بذاك الغزال، زرع أطلاقته بين عينيه، وأسرع لذبح الغزال، وما هي إلا كما تلد النسمة العاصفة، هجم الذئب هجمة خاطفة، وتناهت الى مكمن الصيد صرخة خائفة، أطلق الصياد صوت بارودته، فإذا الغزال

كالبرق يقفز فوق جثة الذئب، وينطلق هاربا ً نحو غابة السدر حيث الأمان، فتخيلوا دهشة صيادنا البدوي، حين أبصر جثة الرجل الذي شق بطنه الذئب.

 

..............

1-  القارات: أماكن مرتفعة

2- وضـحة: ناقة بيضاء

3- نفيـــــلة: أثر

4- ملهي الرعيان: طير جميل يوهم الرعيان بامكانية الامساك به فيبتعدون عن قطعانهم وهم يطاردونه دون أن يشعروا

5- جميلة: مجموعة من الغزلان

6- الخشف: الغزال الصغير

7- المقصود بهذه الشعر أن بيتي قريب من البئر والضيف الذي لا يأتيني أغبر

8- النجر: الهاون

9- يطس السبيل: يملأه بالتبغ، والسبيل هو التخم أو البايب الذي يستخدم في التدخين

10- ثنوة: اسم لدلة

11-  قمقم: دلة كبيرة

12- بجر: اسم لدلة

13- المصب: الدلة التي تصب منها القهوة بالفناجين

14- القلبان: الآبار

15- المعزب: الراعي الذي يذهب الى المراعي بابله ويبقى بعيدا عن أهله

16- شعيب: وادي

17- حسن سيد أحمد أبو العينين – أصول الجيمورفولوجيا- دراسة الأشكال التضاريسية لسطح الأرض

18- دوزة: حفرة ويسميها البدو دورة أيضا

19- الردم: السيل المفاجيء

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2249   الجمعة  19/ 10 / 2012)

في نصوص اليوم