نصوص أدبية

علبة السجائر / نجاة البُكري

لمن يأتوا لشراء فقط الدخان، يُسلّم العُلبة ويتناول قيمتها الماديّة من نفس اليد التي امتدت لتتسلمها وتنصرف؛ فلغة الإيماء تكفي لقضاء مثل هذه الحاجة بين التاجر والزبون.

صاحب الدكان عم محمود رفض هذه المرة أن يستجيب لطلب سي الحبيب وطلب منه بينما كان يزود إحدى السيدات بما طلبته من مواد غذائية وبصوت يعتريه التهكّم :" والله لو كان الأمر يتعلق بإطعام أسرتك لما تردّدت للحظة بتزويدك بها أما الدخان، عليّ الطلاق لن أبيعك سيجارة واحدة قبل أن تسدّد ما تراكم عليك من ديون،،، اعطيني حقي يا رجل، ولك ما تريد"!!

وبينما كان العم محمود يسترسل في الكلام كان سي الحبيب قد غادر المكان ممتعضا  ومردّدا الشتائم ولاعنا اليوم الذي "جعل مثل هؤلاء يتمرّدون على أسيادهم"

فتح باب المنزل ونادى بصوت مرتفع ابنه حسام وطلب منه أن يذهب إلى جارهم العم صالح ويطلب منه أن يقرضه مالا إلى حين ميسرة، وبما أن حسام قد تعوّد على مثل هذه المهمّات، استجاب لوالده حتى لا يصبّ جام غضبه عليه، واتجه نحو بيت الجيران وهو المتأكد أن والده يراقبه من وراء سور الحديقة.

تظاهر حسام برنّ جرس الباب ووضع طرف إصبعه على قابسه، وكرّر الحركة لمرّات عدّة حتى يطمئن من يُتابع حركاته عن بُعد ومن خلف سور البيت، ثم عاد مسرعا متظاهرا بالاستياء:" يبدو أن لا أحد في البيت!!؟

لم يسمح سي الحبيب لابنه بالدخول وقال له:"رأسي ستنفجر، أريد سجائر وعليك أن تتصرف وإلاّ ....فحُسامك قاطع الأرزاق، حيث ما أرسلتك تعود صفر اليدين يا وجه البؤس!!

لم يكن حسام قد بلغ بعدُ سن الثانية عشر إلّا أن طبيعة العلاقة التي تربطه بوالده جعلته يقوم بدور الأب في بعض الأحيان مع أب يُقرّر أن يصبح طفلا بحاجة لحماية إذا ما غابت إحدى حاجته "الضرورية" عنه.

توقّف الفتى تحت شجرة الزيتون المنتصبة منذ عقود إلى جانب سور المنزل، وبدأ يفكّر ويُفكّر في طريقة الخلاص، وكيف له أن يحصل على علبة سجائر وهو لا يملك فلسا أحمر في جيبه.

جرّته خطاه وبدأ بالتسكع في شوارع الحيّ علّه يعثر في بعض القطع النقدية التي تقع سهوا من أحدهم سواء كان على عجلة من أمره، أو ممن ارتعشت يده لكبر سنّه...

لم يأبه حسام كعادته لمرور الفتيات ولا لتلك التي اعتادت تحيته من خلال شباك بيتهم، ولا لتلك العواميد التي اعترضت طريقه واصطدم بها ليواصل خطاه، كانت حركة احتكاك حذائه بالأرض هو ما يشغله ربما...ربما عثر على قطعة نقدية أو أكثر، ربّما وفّر لوالده ما يسكّن أوجاع رأسه ويحرّر عقله من هوس التدخين ولو لحين، وبات يردّد عبارة ربّما بنغمة موسيقية استاء منها سلّمها.

ضحك الفتى وقال في سرّه:" هل ستقنع السيجارة أو السيجارتان عقلا أتلفه النيكوتين ؟!! وينقذاني من سطوته ويمكناني من العودة إلى البيت ؟؟؟

استمرت تلك الخطى شبه الراقصة في البحث عبر حفر الطريق شبه المعبّدة، وتحسس ما يمكن أن تُجيد به أرض ألفت خطاه، إلا أن جهده لم يف بالمطلوب...

سمع أحد المارة يتحدث عن ارتفاع أسعار الفواكه التي أصبحت "نار"...توقف حسام لبرهة عند هذه الكلمة، وضرب بكفّه على جبهته :" السوق...السوق، نعم أنسب مكان هو السوق المركزية، هي التي ستنجدني، لا بدّ أن أجد تلك القطع الصفراء والفضية على أرضها الكريمة...قطع تحلّ مشكلتي، لا قطعة واحدة"!!

 

ركض حُسام كالسهم متوجّها نحو سوق الضاحية، واقتحم تلك الأجسام المتلاصقة، فقد ساعده جسده النحيف على المرور من بينها رغم تأوّهات من أردن إظهار رغبتهنّ في ملامسة وهميّة.

استمر الفتى في السير بين تلك الكتل البشرية إلى أن تعثّر بعصا عجوز فانبطح أرضا؛ لم يأبه لشيء لا لصراخ العجوز الذي لم ينفك على لعنة والديه ولا لاحتمال أن تدوس رأسه تلك الأرجل الصمّاء، كل ما اهتم به هو ما وقع تحت كفّه، نعم إنها قطعة معدنية، أتراها مائة مليم أم خمسمائة...أم دينار؟

 جرّ يده الملتصقة بقوة على بلاط المكان الأسود نحوه ليُمتّع ناظريه بما سيمنحه فرصة الرجوع إلى المنزل بعلبة أو ربما علبتين من السجائر؛ ولمجرد أن رفع يده ليتأكد من قيمة كنزه حتى طارت القطعة من يده بفعل خفّ "ظالم" شاء أن يحركه صاحبه في لحظة غير مناسبة وكأن أمرا ما سيفوته لو تأنّى في خطوته الملعونة، صرخ بأعلى صوته قهرا، تفرق المتسوقون ليتيحوا له المجال للوقوف، انتفض الفتى من مكانه ونفض ملابسه متقدما نحو إحدى دكاكين اللحوم، اصطف في آخر الطابور وكأنه ينتظر دوره إلا أن مهمته الحقيقية كانت مراقبة الأيادي الممتدة لحافظات النقود وحركة تلك التي ترتجف أو تلك التي تتناول أكثر من ورقة دون أن تنتبه...هل ستسقط إحداها أم ماذا.

 طال وقوف حسام في الطابور وهو الذي يسمح "لمن يكبره سنا" بالمرور أو لتلك التي تظهر مدى رغبتها في القفز عن كل من سبقوها في الدور... دون جدوى؛ وما أن انتبه صاحب الدكان لحضوره المريب حتى نهره ليغادر المكان إلا أن الفتى لم يستجب لأمر الجزار مُدّعيا انه ينتظر والده الذي طلب منه حجز دور له لشراء شيء من اللّحوم.

 غضب صاحب الدكان وخرج من وراء مصطبته حاملا بيده تلك الساطور التي كان يقطع بها اللحم مما أدخل الفزع على قلب حُسام الذي رأى أن يختبئ منه حتى لا يصيبه بضرر، فانحنى وقرفص تحت المصطبة فإذا بصوت الجزار يلعن وصوت حسام يستغيث من شرّ صاحب البطن المنتفخة، امتزجت أصواتهما بأصوات المصطفّين منها المؤيّد لصاحب البطن الكبيرة ومنها من يطلب الرحمة لفتى طائش ستتكفل الأيام بتربيته.

 وبينما كانت الغوغاء تملأ المكان، تحولت استغاثة حسام إلى تهليل وترحيب بفرج قريب:" إنها قطع نقدية...حقيقية ملتصقة بأرضية الدكان وبحماية تلك المصطبة المحترمة...الكريمة، وبعفن يعانقها وكأنه لا يرغب في تحريرها...لا تخافي عزيزتي، أنا من سيحررك...أنا من سينقذك..يطهرك من قذارة المكان ويعيد اعتبارك بعد أن أهملك من لا يعرف قيمة نعمة الرحمن، ستلتحقين حتما برفاقك في أدراج هذا الدكان أو ذاك ولما لا في تلك البنوك المنمّقة لترقصي على رنّة اعتدت سماعها...ستنقذني من ورطة وضعني بها...أنا قادم ومع سجائر العزّ والأمان...

استمر الفتى في التهليل وإنشاد نغمة الانتصار حين كانت تعمل أظافره جاهدة على اقتلاع تلك النقود المُبجّلة دون أن ينفكّ عن ترديد ما راق له من كلام مرحبا بظهور حضرة النقود المحترمة التي ستنقذه من ظلم والده:" جاء الفرج ...جاء الفرج  وستنعم يا حُسام بحمّام ولقمة تملأ بطنك الجوعان!

 

فكّـر حُـسام في تنظيف تلك النقود حتى يقدمها لصاحب الدكان بأفضل حال،انطلق  كالسهم مغادرا ذلك السوق المكتظّ بكلّ مكوّنـاته...وجب البحث عن مكان يتوفر فيه الماء، وسرعان ما خطر على باله أن يتوجه إلى أقرب مسجد، فلا يمكن أن لا يتوفر في المساجد ماءا...أو أن يمنعه أحد من دخول المكان فهو مكان عبادة متاحا للجميع.

 

وبخطى ثابتة قرر أن يدخل الفتى المسجد، ساقته قدماه حيث مكان الوضوء المُشار إليه بسهم عريض على يمين المدخل، وبحركة سريعة فتح الصنبور وتدفق منه الماء بقوة على يديه، وبدأ مع حركة جسدية راقصة تعبر عن فرحة فوز بكنز نادر، بفرك تلك القطع النقدية ليزيل عنها ما علق بها قبل أن يتوجه إلى دكان الحيّ، إلا أن ما بدا من ثقب صغير في أول قطعة ظهرت ملامحها أشعره بشيء من السخط والنقمة على من خيبت ظنه ليكفهر وجهه وتتباطأ حركة جسده لحدّ السكون، رمى تلك القطعة الملعونة من يده لكنه سرعان ما تفرّغ لبقية القطع النقدية، علها تقدّر جهده وترحمه من عناء رحلة تفتيش أخرى...فرك الثانية والثالثة بكل ما أوتي له من قوة علّ وعسى، كانت دموع حسام هي آخر ما سال على تلك القطع االمتآكلة ليرتمي مستسلما في زاوية  المكان ، أجهش بالبكاء وتلعثمت الكلمات في حلقه:" يا إلهي أوجب  عليّ أن أقوم برحلة أخرى...كيف...ومتى ...ولما...أمن العدل أن ....أمن العدل أن أتكبّد كل هذا العناء ..."

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2257 السبت 27 / 10 / 2012)

في نصوص اليوم