نصوص أدبية

غيـــرة كلب / حميد الحريزي

كانا ينعمان بعيش رغيد برعاية (صابر) و(مزيونه) الشاب والشابة القرويين اللذين اسسا لهما عشاً جديداً بعد أشهر من زواجهما وانفصالهما عن عائلتيهما الأم حيث ابتنى لهم أهل القرية في (عونه) كوخا جديدا على ضفة النهر متصدرا بستانا من النخيل الممتدة أشجاره صفوفا منتظمة على شكل مستطيلات تحد ألواح الرز الذي تشتهر بزراعته قريتهم (الهارمية) وقد شجعهم على تأسيس بيت جديد حصولهم على قطعة ارض زراعية على وجه بعد ثورة تموز.

"فتنه" و"مسرور" ابناء "وردان" و" موزه" اللذان يعيشان في كنف عائلة (صابر) اباً عن جد ولعدة اجيال متوالية للعائلة.فان لعائلة (مسرور) وعائلة (صابر) تاريخ مشترك!!

"فتنه" و"مسرور" ممتلئان بهجة وسرورا ومتعة في اللعب والمرح والشبع التام وكانهما يشاركان اهل القرية فرحهم وابتهاجهم ورفيف اعلامهم الحمراء التي اخذ يزداد ظهورها في كل مكان لتحل محل بيارغ القبائل والعشائرو(الساده).كانا فرحين ومسرورين وهما يقعيان او يتوسدان باب الكوخ ويراقبان مشاهد الغزل ومظاهر النشوة والحب والحميمية بين (صابر) و(مزيونه) التي ما ان تخمد جذوة حرارتها حتى تتجدد ثانية بين العريسين، يحاولان تقليد سيديهما بحركات اللمس واللحس والشم والتمرغ في المرج الاخضر البهيج الممتد بجانب الدار يتسحبان حينما تبدء مرحلة العري الممهدة للالتحام بين الشابين عبر اشارة من (مزيونه) عندما تنهض لاغلاق باب الكوخ قبل الغيبوبة الكبرى.

مزيونه تراقب حركة الجروين الرشيقة الحميمة الشبقة الساخنة الودود وهما على ابواب مرحلة النضج فقد قارب عمراهما الشهر السادس او السابع.

كانا يتمرغان في الحقل محتضنا احدهما الآخر مثيران اصواتاً ناعمةً كأنها كركرات أطفال صغار يمرحون، تتذكر ايام طفولتها وصباها ومرحها ولعبها مع ابن عمها وحبيبها حينما كانا صغارا مما يؤجج داخلها نار الشوق لحبيبها صابر انها لا تريد ان تنهي لعبة الحب بينهما ابدا فتكاد لا تحتمل ساعات غيابه في العمل.

"فتنه" و"مسرور" يتقافزان حول مزيونة عندما تعمل في باحة الدار او تذهب لغسل الاواني في النهر من على (الشريعه) يتوددان لها ويلحسان اصابع قدميها المخضبتين بالحناء كانهما يلتذان بملمس نعومتهما ،وحجليها الفضيين وبريقهما المثير، يجهدان في محاولة القفز ليتمكنا من تطويق رقبتها ووضع منخريهما بين نهديها النافرين وعطرهما الليلي المنعش.

لم تكن مزيونه تنهرهما ولاتبخل عليهما بالخبز او ببعض الاسماك وبقايا بعض الطيور المائية التي كان يصطاد منها صابر الكثير حيث يوجد منها الكثير في الهور المشاع القريب منهما، ،الاسماك كانت تلعب بين اقدامهما اثتاء العمل في الحقل.

شب الجروان على اصوات الهلاهل والاعراس وفائض العزائم والولائم شبه اليومية كانت القرية تعيش أعراسا وافراحاً دائمةً، طغى الفرح على الناس على حين غرة بعد عشرات السنين من الحزن والبؤس والحرمان، كانت روح التضامن والحميمية في اروع اشكالها بين الناس ،نحاكي حالة احتضان المنجل للمطرقة في الرايات الحمراء التي كانت ترفرف في كل مكان من القرية والمدينة. يتمثلان نفسيهما ،متحدان في نوبة عشق حميم (مزيونه) و(صابر)في عناقهما الذي لاينقطع.

اخذا يلحظان ظهور انتفاخ في بطن سيدتهما (مزيونه) وثقل في حركتها مع مزيدٍ من البشر والمرح والامل ظاهرا بيناً على محياها.

...لااعرف ما هذا الانتفاخ في بطن سيدتي ولكنها مسرورة على اية حال.

بدأ مسرور يشم رائحة مثيرة من جسم (فتنه) وهما يدخلان ربيعهما الأول، رائحة لم يالفها من قبل، تثير لديه احساسا بالرعشة والنشوة ودفقا غير مسبوق في عواطفه وفي بعض أعضاءه وكأنه يكتشف شيئا جديدا في جسم (فتنه)خصوصا وانه لحظ تبدلا في مشاعرها وسلوكياتها وعواطفها وتوددها له.

رافق كل هذا ظهورمجاميعِ من الكلاب بمختلف الاعمار والالوان متوددة ومتملقة مستعرضة مواهبها وقدراتها امام ناظري (فتنه) وعارضة خدماتها لها سعيا منها لكسب ودهاوقد بلغ الكرم ببعضها ان ياتي بالعظام او بقايا الاسماك ليضعه امامها.

ماهذا الذي يجري يا(فتونه) مالذي جذب اليك الكلاب المتطفلة هذه وماهذا الكرم المفاجيء الذي نزل عليها؟؟

.... تتنبح (فتنه) بغنج تدوس بقدميها كل ماقدم اليها من الكلاب الغريبة، تضحك ضحكة عارف للسر وكانها تجيبه:-

ان الذي جذبهم اليها هو نفس ماجعله يجن في حبها والالتصاق بها والغيرة عليها كلما ازداد نفاذ رائحتها الانثوية الجاذبة التي بدت لك غريبة لاول وهلة، لاتبتئس ولاتقلق ياحبيبي دعهم يتحرقون غيرة ووجدا وكمدا فانا لك وحدك وليكونوا شهوداً يوم عرسنا العظيم.

- لثمها (مسرور) بقبلة شوق متلذذا بطعم رضابها اللذيذ الذي اجج لديه نيران وفوران بركانه الذي يكاد ان ينفجر، يسألها ولم لايتم عرسنا الان ياحبيبتي فقد طال غزلنا ولم اعد احتمل المزيد؟؟؟

-مهلا.....فنحن لسنا (صابر) و(مزيونه) لهم في كل يوم اكثر من عرس بعد فصل غزل قصير فنحن معشر الكلاب تمتد فترة غزلنا اكثر من خمسة الى ستة اشهر ولنا في العام موسمين للعرس فقط ولكن حملنا لايزيد على تسعة اسابيع بينما حملهم تسعة اشهر وقد عوضتنا امنا الطبيعة بولادة عدة جراء في كل مرة بينما قلما تلد انثى اسيادنا عدة اطفال مرة واحدة،فلك ان تتصور لو كانت لنا امكانية ولادة هذا العدد من الجراء كل تسعة أسابيع لملأنا الأرض كلابا!!!!.

هز (مسرور) ذنبه وراسه اعجابا برجاحة عقل ودراية حبيبته (فتونه) وغاب في حلم واطياف وتخيلات يوم العرس الموعود لاول مرة في حياته، مكشرا انيابه مهددا عشرات الكلاب التي تحوم حول حبيبته بالويل والثبور ان هي حاولت الاقتراب منها.

لم يتقدمه احدُ من سرب الكلاب ليكون خلف (فتنه) مباشرة متشمما ومتشبعا بعبق عطرها،وهي تتنقل من مكان لآخر تتمدد في ظل شجرة او قرب ساقية ماء بارد حتى حان موعد اليوم الموعود فالتحما ببعضهما وكأن أيادي خفية تلوي ذنبيهما على بعضهما ليغيبا في عالم من النشوة والسحر واللذة والمتعة التي تطول لعدة ساعات ،ولأول مرة في حياتهما لم يشهدا مثلها من قبل، غاب عن عينيهما كل شيء حتى بعد ان هدأ وقع الانفجار الأكبر الذي أحسا اثناءه كأن الأرض اهتزت والطيور طارت ،الأشجار والزهور رقصت من حولهما قبيل فك التحامهما الأول بنجاح ،الذي لم يحدث أكثر من مرتين وليومين متتاليين وبعدهما أصبحت (فتنه) تنفر من كل محاولة من هذا القبيل.

.... بدت (فتنه) بعد فترة تماثل سيدتها (مزيونه) ،بدا عليها انتفاخ البطن و ثقلت حركاتها ،كثرت طلباتها ،تنوعت شهيتها وتضخمت أثداءها في الوقت نفسه ازدادت جمالا وتألقا وتعلقا بحبيبها الذي تفهم سر تغيرها ونزقها وغرابة بعض تصرفاتها بعد ان استمع لدرس في تجربة الحمل من أمه حين استفسر منها عن سر التبدلات في سلوك حبيبته بعد عرسهما.

راقب (مسرور) و(فتنه) بحيرة واستغراب التغيرات التي بدت تظهر في القرية حيث اخذت الاعلام الحمراء تختفي شيئا فشيئا وخفت صوت الهلاهل وأصوات الدرابك والغناء، لم يشهدا سهرات السمر والحب والعشق بين سيديهما كعادتهما، مرت ايام لم يتواجد فيها (صابر) في الدار وان قدم خلسة يبدو حذرا مترقبا لايخلع بندقيته من كتفه.

عند فجر احد الايام دارت معركة حامية الوطيس بين (صابر) وقوة مسلحة كبيرة اتت من المدينة صحبة سيد (مزبان) الاقطاعي المعروف لم تنتهي الا بعد ان تناثرت جثث صابر ووالده وجثث اخرى من القوة المهاجمة.

قررت (مزيونه) الرحيل من القرية مكللة بالسواد ،مصطحبة والدة زوجها وطفليهادون ان تنسى اصطحاب (مسرور) و(فتنه) اللذان بلغا عامهما الرابع من العمر ومعهما بقايا جرائهما وأحفادهما ممن لم يتبناهم أحدا من القرية او من خارجها، لتحط الرحال على مشارف المدينة في كوخ صغير تأوي إليه مساءا بعد عودتها من العمل في البناء لإعالة أطفالها وجدتهم التي هدها الحزن والمرض، حصل هذا بعد ان بصقت بوجه (مزبان) الذي جاء يعرض خدماته واغرائاته عليها بعد استشهاد حبيبها طامعا ان يضمها إلى جواريه وخدمه في قصره.

اخذ الجوع ياخذ ماخذه من (فتنة) و(مسرور) و جرائهما فقررا ان يدخلا شوارع المدينة وازقتها عسى ان يوفرا قوتهما وقوت جرائهما من فضلات سكان المدينة، رغم إنهما أخذا يفقدان جراءهما واحدا بعد الاخر اما قتلا او دهسا او الهروب الى جهات مجهولة ،بعضهم حظى بعشيق ثري او عشيقة ثرية في احد القصور...

اخذت (فتنه) تزوغ الى اماكن مجهولة بعيدا عن (مسرور) الذي يعود الى الكوخ خائبا بعد طول تفتيش وترقب وانتظار عودتها، يجد(مزيونه) في حالة من القلق لغيابهما لايعرف باي شيء يعتذر وبماذا يبرر تركهما للدار وغياب (فتنه).

يظل يترقبها مقعيا طوال الليل على ظهر الكوخ ،تظهر احيانا عند الفجر متعبة ظاهر على محياها الانكسار ، بياض شعرها اخذ يتحول الى بقع رمادية أو سوداء ، ترفض الاجابة عن تساؤلاته وعن روائح كلاب غريبة عالقة في فروة جسدها.

قرر ان يضع حدا لهذا الاستهتار واللامبالاة التي طغت على تصرفات حبيبته في ضحى احد الأيام لم يجد فيه (فتنه) في ألدار او الجوار قرر ان يتتبعها عبر حاسة شمه التي لاتخطأ رائحتها ورائحة الكلب الغريب الذي علقت بها ارتد من الشرق لان الرائحة بدأت تخبو وتخف فاستدار صوب الغرب ، وبالفعل أخذت أ لرائحة تزداد أكثر فأكثر كلما تقدم باتجاه الغرب حيث كلما اقترب من سوق المدينة وبالأخص سوق القصابين في مركزها، بلغت الرائحة المزدوجة أشدها بالقرب من عرصة مهجورة قبالة احد القصابين في طرف السوق.

توقف قليلا ليسترد انفاسه ويروي ضمأه من بركة ماء وسط الشارع حيث بلغ به العطش والتعب واالغضب اشده ،بعد ان تاكد له وجودها مع عشيقها في هذه الخربة، شحذ فكره واسلحته استعدادا لمعركة حاسمه!!

نط على حائط الخربة فلحظهما في وضع فاضح (فتنة)والوضيع (بكَوع) هذا الذي طردته القرية بعد أن ثبتت سرقته واكله فراخ دجاج اسياده وجيرانهم فهرب الى المدينة تخلصامن قرار اعدامه الصادر من قبل سكان القرية.

...هكذا تخونيني ، من اجل فضلة عظام يا(فتونه) ومع (بكَوع) لاغيره!!!!!

الان حسابه وسيكون لي معك حساب آخر.احست (فتنه) بشم رائحة (مسرور) فانسلت من حضن (بكَوع) هاربة لاتلوي على شيء في حين قفز (بَكَوع) متوجها الى دكان القصاب محاولا الاحتماء من (مسرور) الذي اطلق عواءا كالرعد ارعب كل من كان في السوق ، وقد تمكن من الامساك ب (بكَوع) عند باب المحل غارسا انيابه في رقبته حتى التقيا مع بعضهما فتدفق دمه ميزابا مع صوت نجدة ورعب مخنوقة، فاقدا القدرة على الرؤية حيث غرز مسرور مخالب قدميه الامامين في عينينه فادماها وفصلهما عن محجريهما!!!

وسط ذهول الناس والمتسوقين......................

عاجل القصاب(مسرور) بضربة قوية بساطوره على راسه منتصرا لكلبه فتناثر دم راسه على وجوه المتجمهرين دون ان ينزع انيابه عن رقبة (بكَوع) ، ابعد عمال البلدية الكلبين جثتين هامدتين والقياهما في الخربة دون ان يعرف احدا سر صراعهما الدموي المميت.

يئست مزيونه من عودة (مسرور) اقفلت باب كوخها واخلدت للنوم ، استعدادا ليوم عمل جديد.

 

................

عونه- عمل جماعي نطوعي يقوم به اهل القرية ن الفلاحين لمساعدة ومعاونة الفلاح الذي يتخلف في العمل وزراعة ارضه او حصادها لاي سبب كان كالكبر او المرض او اي امرطاريء اخر وهي بقايا من ارث العمل التضامني للمشاعية البدائية وهي بالضد تماما من (الحشر) او اعمال السخرة الاخرى سواء جاءت من الاقطاع او من السلطات الديكنانورية.

الشريعه- مكان على جف التهر مخصص للعبور او غسل الاواني والملابس من قبل نساء الفلاحين وغالبا مايكون امام كل بيت شريعه خاصة.

شتال- نوع ن زراعة (الشلب) العنبر والذي ينتج عنه احسن انواع العنبر يسمى(عنبرشتال) وهناك نوع الصلخي لملأ الفراغات التي لاينمو فيها الزرع لاي سبب من الاسباب وتسمى هذه العملية ب(الترجيع).

التخوفر- عملية ازالة النباتات الضارة والمتطفلة على الواح الشلب مثل (الدنان) و(السجل)..الخ هذه العملية التي اصبحت تنجز بواسطة مادة كيمياوية خاصة تسمى (دوه الدنان) وهي مادة سامه...

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2267   الثلاثاء  6/ 11 / 2012)

في نصوص اليوم