نصوص أدبية

تمــريــن / فرج ياسين

-  ليس قبل أن أراها !

دعك الصبي عينيه، ونشق رشحه، ثم أمال الورقة أمام وجه أبيه، وأشار إلى الكلمة.

قال الرجل: هلا بحثت عن واحدة غيرها،

-    لا..

ولكنها كلمة قاسية، أنظر إلى حروفها؟

غير أن الصبي لم يلتفت، انحنى على دفتره، وأمسك بالقلم ثم فكر الرجل بالانصراف إلى ما كان قد بدأه.

تناول قطعة خبز صغيرة؛ غمسها في قدح الحليب، ثم جعل يزدرد اللقمة مصغياً إلى غمغمة الصبي وهو يحاول بصعوبة اقتياد قلمه عبر الصفحة الخالية. إن على عليِّ أن يختزن هذه الكلمة أيضاً مع بصيص ضئيل من مضمونها. وسكب الشاي في القدح. الريح المعولة في الخارج تقرأ كلمات عنيفة، ترشق بها الأبواب، وزجاج الشبابيك وتدك بها السطوح.

-            هل تأكل شيئاً؟

-            لا..

رفع الصبي رأسه. وأنهض قامته، ثم أمال الورقة فرأى الرجل الكلمة الصغيرة المعقدة. لقد كتبها وملأ بها الصفحة الأولى في دفتره.

-            آه يا لك من شيطان. تعال وكل شيئاً؟

لم يجب بل أطرق، وابتلع لعابه، ثم هرش رأسه ودوّر القلم بين أصابعه.

-            بابا أين علبة الطباشير؟

تشاغل الرجل يرفع القدح إلى فمه ورشف قليلاً من الشاي، ثم أشعل سيكارة، وانتظر أن ينسى قراره الجديد. غير أن الصبي نهض وذهب إلى المطبخ، ثم جال في الحجرات.

بعد ساعة واحدة، كانت الجدران والأبواب والزوايا التي تصل إليها يداه قد اصطبغت كلها بتلك الكلمة. حروف طوال مفلطحة تفتقر إلى الاستقامة. تعرض وتستدّق فوق طلاء الجدران الأخضر.

وكان كلما أتم رسم الكلمة من جديد، نفخ في أصابعه الممسكة بقطعة الطباشير، وأجال نظره في اللوحة الواسعة التي أمامه، كأنه يبحث عن نقطة البداية التي نسيها جزاء إغراقه في المحاولة.

بعد ذلك بقليل. أضاع الرجل أثر الصبي. شغل برفع صينية الفطور والذهاب إلى الحمام، ثم الخروج لدقائق من أجل إلقاء نظرة قصيرة على ما تصنعه الريح في الخارج. فلما عاد لم يجد الصبي. فاضطر إلى البحث عنه مستهدياً بتلك السلسلة الطويلة الملتوية من الكتابة البيضاء. لقد ذهل لما صادفه في الحجرات التي دخلها. وخيل إليه أن فلول الكلمة المتزايدة. أخذت تتسلق أعالي الجدران، وتطبع فوقها ألواحاً متصلة، حتى آلت جميع الجدران والسقوف والأبواب إلى مسطحات شوهاء. فتراجع الضوء أمام دكنة المكان، وأخذ يرف شامتاً عند العتبات، وخلف الشبابيك التي لا تسترها السجف.

لكن الرجل لم يجد سبباً للاستياء. فالأمر لا يعدو عن كونه تمريناً عفوياً يصدر عن صبي تستهويه المحاولة. لعل تنظيف هذه الجدران أكثر يسراً من محو آثار الغصة التي سوف أزرعها في نفس الصبي، إذا ما قمت بزجره، لذلك فأنني سأذهب لإقناعه بضرورة إنهاء التمرين.

وفي غرفة النوم، وجده أخيراً، يقف أمام مرآة الزينة، يراقب مأخوذاً تلاشي جسده شيئاً فشيئاً وراء ذلك المد الأهوج الذي تصنعه يداه !

 

قصة قصيرة

 

..........................

من مجموعة (واجهات براقة )

  

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2268 الاربعاء 07 / 11 / 2012)

في نصوص اليوم