نصوص أدبية

الغائب / موسى غافل الشطري

كان الوقت يميل إلى الظلام، حين فتحت زينب زر النور، و ألحّت أم حسن على كنّتها لكي تتناول عشاءها. أذعنت، وران صمت واستمرتا تثرثران.

قالت ام حسن :

ــ آه يا زينب. ليس لي حظ يديم تلك النعمة فانكفأت.

وقالت الفتاة:

ــ دعي إيمانك قويا بالله ياعمتي، وتضرعي لباب الحوائج أن يشفع لعودته سالما.

قالت الأم بيأس:

ــ لاحيلة لي على قلبي. ولا أنا قادرة على إيقاف وجيبه.

انبعث أنين الفتاة بحرقة، فلاح صوتها مكلوما متهدجا.

كان نشيجها الطفولي يتموج مثل ثوب تعصف به ريح على جسدها. فاهتزت بانفعال غامر. ثم انهد النواح عنيفا. ولم يعد باستطاعة الأب أن يصمد، فبارح البيت. وبعد أن عاد، وجدهما مغمورتين بحديث عام وكان مزاجهما هادئا.

قبيل الهجوع أعلنت الساعة اللحظات الحرجة، فطفقت الفتاة تنجز ما تبقى من واجبات البيت.

انسلّت من غرفتها، ومرّت حذاء سرير الطفل المنتظر الذي ترقبه الغائب طويلا. مسّته بجسدها عفويا، فتأرجح تأرجحات يتيمة، قافزا باتجاه النافذة، بصرير يشبه الأنين.

نشرت عباءتها لتوشح ثيابه تحت دثار واحد. فتضوّعت نفحة عذبة من ثيابه.

امتدت يدها وأطفأت النور. فاجتاح غرفتها شحوب خفيف، ما لبث بعد -إسدال الستارة - أن تحوّل إلى عتمة، استلقت وشبكت ذراعيها على صدرها، مستسلمة لجبل من الكمد والآلام. و تأوّهت بحسرة حرّى وتساءلت :

ــ أين أمسيت؟

راقبت صورته التي توشحت بعتمة ما لبثت أن تبددت. فلاحت الصورة منشدّة بكاملها، وباستدارة تامّة نحوها.

بدا اهتمام العيون الماكرة، والوجه الفتي المبتسم يتركز بكامله لوجهها، تماما كما يفعل أثناء إجازاته، وأثناء عبثه ومداعباته.

هي لم تهمل، في يوم ما، حضور انتظارها الدائب. آنذاك كانت تنقل خطواتها، وسط الليل البهيم، كالقطة ينط جسدها الرهيف، بقفزات رشيقة، إلى أعلى السلّم. وتظل ترقب الطريق في حلكة الظلام، عبر نافذة علوية، حيث تلوح الطريق صاخبة بالعربات المسرعة المذعورة.

تراقب كل ذلك، و تنصت بحدس متحفّز، لكبحات السيارة التي، ربما، يتأنى محرّكها ليتوقف.

في تلك الأيام الهنيئة، طالما أرهفت سمعها، وهي مستلقية على سريرها، إلى تلك الطريق الدؤوبة، الصاخبة باستمرار. لترى أحلامها، حاملة إليها، أعز وأبهى حبيب، على كف عفريت مسالم.

تترصّد عند النافذة العلوية: أن يقترب ضوءٌ متأنيا. فجأة يتأنّى هدير سيارة، يزحف ضوؤها، تلوح لها ملامح هابط، ينحدر من فوق الجادّة، بقفزات مشوّقة. تحدس: إنه هو يتأبّط، ربما، حقيبة ويخطو مسرعا.

 

تقفز بحذر، هابطة بسرعة وهدوء. آملة أن لا ينافسها أحد في لقائه. تمر من الباب الداخلي، تفتحه دون ضجيج، تمرق كالسهم. يركض أمامها قلبها، باتجاه الباب الخارجي، تلحق به لتضع يدها عليه، فتوقف طراده.

تسحب رتاج الباب، وتفتح قليلا، وتظل مختبئة خلفه، بانتظار مكبوح. تقترب خطواته المسموعة العزيزة. تمتد يده العزومة بالشوق لتقرع. ثم.. يفاجأ بانتظارها يلهث ويقفز قلبه في حلقومه، فتضع يدها على فمه، لتكبح صوته، وتندفع بكاملها إلى صدره. فيحتضنها وتغور في قلبه المشوّق ويتعانقان.

تفر من بين ذراعيه، وتخبط بجمع كفيها على الشباك وهي تعلن بهوس عن وصول حسن.

وكان اللقاء حارا كالجمر. فيترطب خدّه بدفق دموع أمه الثر. ويقف الأب أمام هذه اللحظات، منتظرا بشوق.

مرّ كل ذلك ببالها، وهي مستلقية على قفاها. تأوّهت و كفكفت دموعها وقالت في أعماقها:

ــ ما أروع أن تكون الحياة كلّها شوقاً، مختومة باللقاء والفرح؟

 

* * *

تتذكّر أن الأب لاحت له أخيرا فرصة ليطفيء ظمأه، بما تبقّى له من كأس الشوق.

ثم.. أسرع حسن إلى مرجانته القرنفلية يتفقّدها. فبدت له ريّانة، وكم أسف، حين لم يجد لها برعما ناميا.

آنذاك جلسوا جميعا يثرثرون ووقفت صامتة. ثم تجلس وتغور عيناها في عينيه، فيختلس بين حين وحين، نظرات جافلة يبعثها لوجهها الخمري، مذيّلة بابسامة متمسكنة، تطلب الصفح والمغفرة، من هذا الانشغال.

تنتبه زينب لنفسها فتهرع لكي تحضّر ماءا دافئا. تخلع حذاءه وجوربيه، وتغمس قدميه بماء فاتر، ثم تفركهما بحنان وصمت.

تنصرف لغسل الجوربين و تهيئ الحمّام، ثم تعود على عجل لتحضر الغذاء. وتسرع بوضع إبريق الشاي. والحديث يدور وهي تدور. وبين لحظة وأخرى تسرق وقتا لتسمع عن اخباره وحديثه اللذيذ.

وكان حسن يبدو بإجاباته لاهثا، حتى كأنه يريد أن يفرغ من كل شيء.

في تلك اللحظات تظل واقفة خرساء لتوحي بذلك: أن المقابلة قد انتهت وحان وقت الانصراف.

ودون كلام تعلن عيونها الماكرة: من فضلكما انتهت المقابلة. تنظر الأم فتدرك ما يدور بخلد الفتاة، وتفهم أن وقتهما قد ضاق.

تهيّئ ملابسه النظيفة وتدفع به إلى الحمّام دفعا. تأخذ ملابسه المتسخة، فتضوّع رائحتها الحادّة، وتلقي بها فوق حمّالة الحمّام.

يدخل مخدعه.. يسود الصمت أكثر...تسفر الحلكة رويدا رويدا... يكون فارس الساعة الرشيق، منتضيا سهمه ليقنص الدقائق و ينثرها فوّاحة ودودة، قاطعا دورة كاملة. ثم ينسل من سريره خارج الغرفة، ليلقي خارجا فتات وقته.

يعود بعد هنيهة، فتعود هي من خلفه مسرعة، يغمزها بعينه الماكرة ويبتسم. يتلقّفها بين ذراعيه كالطفل. يحاول تطويحها في الهواء وتذعر. تستقر بين ذراعيه وتطوّق عنقه. استنجدت هامسة بأذنه:

ــ دخت.

* * *

تعي إلى نفسها من ذكرياتها لتجد دموعها تخضّل موقع قبلاته وتتساءل بعد حسرة:

ــ كم كنت أحس أن وراء هذا الضحك مالا يحمد عقباه؟

تضطرد ذاكرتها بتلك الذكريات.. إذ يريحها على سريرهما، ويمسك بالوسادة ويحتضنها، يدسها تحت ثيابه، يبدو ببطن امرأة حبلى،. يتمدد على الأرض، يتمخض تضحك بكل جوارحها، يستل الوسادة من تحت ثيابه يضعها في المهد ويؤرجحها مغنيا:

ــ دللول.. دللول.. يالولد يبني...

قالت:

ــ أهذا صوت أم تناغي؟ هذا هدير مدافع...

قال:

ــ إذن.. هيّا افعليها واسمعيه.. صوت السلام والوئام

يتهادى السرير بدلال وخيلاء، ويقذف بحافّته المشنشلة، حتى يكاد يعانق النافذة.

يقف ليرقب كل ذلك بصمت و قدسية. وتبقى زينب تسبح بنهر دافق عميق من الشوق.

يرفع الوسادة داخل الغرفة ويقذف بها نحو السقف. يحتضنها ويناغي. يكرر ذلك عدة مرات. ثم يضعها في كنف زينب ويستلقي جنبها ويسأل:

ــ متى تبرعم المرجانة القرنفلية؟

قالت بغنج:

ــ ألا تراها نضرة وريّانة؟

قال:

ــ وأُريدها مبرعمة مؤرجة. وبرعمها يتسلق نافذتنا ويدوّخ السرير.

بعدئذ زحفت يده إلى وجهها ويدها وجسدها، ثم.. استقرّت وسط خصرها.

قالت زينب برجاء:

ــ ألم يكن الليل قد تطرّف؟

قال مشاكسا:

ــ أتظنين إني أستسلم؟ كلا.. من هناك أحضرت كتبا من الكلام، لا تسعها دنيا بأكملها.

رفع الرتاج و أسرع إلى المطبخ، غاب بعض الوقت، وعاد بإبريق شاي مهيّل.

احتجّت هي:

ــ لماذا أنت ولست أنا؟

قال:

ــ أنا تعوّدت أن أصنع كل شيْ بيدي.

جلسا يحتسيان وواصلا حديثهما:

ــ أقراني يقولون: إني أحسن صنع الشاي.

ثم أضاف:

ــ أتعرفين لماذا أحب الشاي؟

قالت ساخرة:

 ــ لأنك تحب الدبس.

قال:

ــ أحبه، لأنه يشبه صبغ أظفارك.

قالت:

ــ هكذا؟ يا لك من متيّم.

قال بغزل:

ــ كنت ألثم فم القدح، وأصبّه في جوفي، من أجلك، دفعة واحدة، وكنت أنت تمنحيني الدفء بأكمله.

قالت :

ــ زد من فضلك..

قال :

ــ ثم أغفو وأحلم.. أني أتلمس وجهك وأحتضنك بقوّة. وأستيقظ فأجدني حاضنا صاحبي.

تستغرق بالضحك: فيتأنى هو ويقول:

ــ كم لدي كلمات، كنت أود أن أقولها؟

قالت :

ــ وأين هي؟

قال :

ــ ذابت، ولم أعد أعثر عليها.

قالت :

ــ إذن اهجع.

قال، أشبه بالذي يحلم:

ــ ربما أسرني سحرك.

يقترب الغبش..يتكلم شتاتا، ثم يخالط جفنيه الكرى فيلفّه نوم.. أثقله تعب الأيام الطويلة.

* * *

 

كم كانت سعادتها وآمالها كبيرة؟

يوم أن غرس جذور المرجانة القرنفلية، بجانب النافذة، كان يحلم أن يكون بيته أسعد وأجمل بيت.

آنذاك قال الأب مداعبا وغامزا زينب:

ــ كل هذا من أجل زينب؟

قال حسن:

ــ مسافة أحلامي: أن يكون بيتي جنينة وفيه ملائكة.

قال الأب:

ــ ولمن تركت جهنم؟

قال:

ــ لمن يحب أن يكون بيته خاويا أجردا.

ثم رنا إلى زينب، وآنذاك كانت في حلّة العرس فقال باسما:

ــ مرجانة تحت النافذة، وأخرى في غرفتي.

* * *

 

تأوّهت زينب وقالت بحسرة :

ــ ماء وتبدد..ذوّبني في قدحه، مثل سكّرة وتلاشيت.

أزاحت ذراعها عن صدرها، وانقلبت قبالة السرير الصغير يقرص خدّها ما سفحته من دموع على الوسادة. تقلبها، فتصدم يدها كفّة السرير، فيروح يقذف بنفسه نحو حافّة النافذة.

في ليلة مقمرة، يلوح سُويق المرجانة الذي نما قبل حين، من خلف عتمة الستارة، يدبّ ويضغط بنفسه.. برفيف رقيق على وجنة الزجاج. ويطرق ما يتحسسه حسن برفق، مباشرة، فوق كفة السرير.

قالت وقد أعياها أرقها:

ــ ليته يعود، ليرقب ذلك وتقرّ عينه.

طرفت بعينيها الدامعتين. وشيئا فشيئا، زحفت سحابة نوم خجولة، تحتضنها برفق، وتدثّرها بطيف هادئ.

  

1996

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2275   الخميس   15/ 11 / 2012)

في نصوص اليوم