نصوص أدبية

الطفلُ الذي جُنَ عشقاً / زيد العامري الرفاعي

 

نبذة عن حياة الكاتب

ولد في فالبرايسو (شيلي) 25 تشرين الاول عام 1884. في عام 1900 دخل الكلية العسكرية تحت إلحاح أهله ولكنه تركها بعد عامين من الدراسة وقبل تخرجه ضابطا. بعدها طاف نصف أمريكا الجنوبية وامتهن عدة حرف سعيا وراء لقمة العيش إلى أن عمل كاتبا في مناجم ملح البارود (النترات) في شمال شيلي حيث اصدر أول أعماله الأدبية عام 1907. ثم عمل سكرتيرا لمعاون رئيس جامعة شيلي ومن ثم كاتبا في مجلس النواب الشيلي وأمينا للمكتبة الوطنية. وفي عام 1927 عين وزيرا للتربية وبعدها استقال واشتغل في الزراعة والصحافة حتى عام 1953 حين عين مرة اخرى وزيرا للتربية وخلال تلك الفترة اصدر معظم نتاجه الفكري القصصي والمسرحي وحصوله على الجائزة الوطنية الأولى للآداب. توفي عام 1963. نشر روايته القصيرة هذه عام 1915 والتي أكسبته شهرته الأدبية في بلاده وفي أمريكا اللاتينية؛ وقد قرضها شعرا عدد من الشعراء مثل شاعرة شيلي الشهيرة جابريلا مسترال. ولا تزال من الروايات الرائجة حتى يومنا هذا وهي من المصادر المساعدة لمادة القراءة في المدارس الابتدائية في جمهورية شيلي. وفيها يعتمد التحليل النفسي لحالة الحب المبكر لطفل- عمره حوالي بين 9 و12 سنة- يعشق امرأة اكبر منه. وهي،كما يقول أحد النقاد الغربيين، من أوائل الأعمال في أمريكا اللاتينية التي عالجت النفس الداخلية ويعزو نجاحها الى وهم الحقيقة الذي يخلقه الكاتب حيث لا يفهم العقل منطق القلب.

المترجم

 

هل أصغيت إلى طير يشدو في الليل؟

كانت حزمة مذهبة من شعاع القمر تتسلل إلى ذاك الغصن حيث يرقد الطير نائما فتوقظه. انه ليس الفجر ومع ذلك، … يشدو الطير وبعد برهة يكتشف، إن كان من صنف تلك الطيور المجربة، الخدعة فيدس منقاره مرة أخرى في دفء ريشه ويعاود النوم

غير أن هناك طيورا صغيرة لا حول لها بسحر ضوء القمر … فعقب الشدو تقفز وتطير مشدوهة طائشة وسرعان ما تلفها الظلمة أو تغرق في بحيرة يضيئها ضوء القمر الذهبي الشاحب أو يصطدم صدرها بأشواك الورد المتفتح فتصغي بعد ساعات للحن زغردتها الممزوج بأنينها..

فهلا تعرفت على الشعاع القاتل الذي يقض مضاجع بعض الأرواح في الليل فيسرق منها تباشير الصباح ويغرقها في دوامة من الظلمات ؟

سأروى لكم سر طفل جن عشقا

لا أحد سواي - ولا حتى أمه التي يحبها- كان بحوزته سر جنون الطفل. لن أقص عليكم كيف عثرت على دفتر مذكراته الذي انشره ألان. حفظت لسنين طوال سر ذلك الطفل، ذلك الطير الذي غرد في الليل ولم ير الصباح. سلمته لي يد القدر وحفظته بالصون إجلالا لطفل رقيق المشاعر، محزون، ضحية شعاع قاتل يضيء القلوب قبل أوانها ويرميها في دوامة الحب الملتهب الغامض اللذيذ.

***

 

مرة أخرى تناول معنا اليوم العم كارلس رومرال طعام الغذاء. والعم كارلس هو أذكى رجل اعرفه إذ حين يتكلم يصغي له الجميع ويرونه محقا فيما يقول. وأنا بخاصة أجده محقا فيما يقول. يتفوه بأمور لا يلتفت إليها المرء ولكن يستشعرها لأنها الحقيقة المطلقة. قال لي هذه الليلة انه عند ساعة الصلاة، يمر صوت النواقيس طائرا مع طيور السنونو. وحقا ما يقول أنها تمر طائرة. ثم قال لي "هذا يعني إن الأطفال في هذه الساعة عليهم مثل طيور السنونو الذهاب للنوم" وهو أمر لا أعيره أذانا. أه لو عرف - أقول لو عرف- كم يصعب علي النوم.

وتحدث أيضا عن دفتر مذكراته وبعد أن انتهى من الأكل لاطفني كثيرا وسألته ما حكاية هذا الدفتر الذي يلازمه دائما فقال لي" انه دفتر يسطر فيه المرء أحوال حياته وخاصة تلك الأمور التي لا يستطيع البوح بها للأخرين". وقلت له انه أنت محق فيما تقول وبالأخص تلك الأمور التي لا يود الحديث بها مع أخرين. رمقني لبرهة متأملا ثم سألني أسئلة كثيرة تفقد المرء هدوءه … وداخلني خجل… وكنت على وشك أن انفجر باكيا كما لو كانوا قد أزعجوني وضايقوني بقولهم ثم غادرت

وما مضت لحظة حتى بقيت انظر إليه من بعد ومازال في جلسته في البهو متأملا ويدخن.

يحبني كثيرا حتى أكثر من أمي. يأتينا مرات قليلة غير انني أفكر به دائما. احبه كثيرا كثيرا ومن الساعة سأحمل معي كما يحمل هو دفتر مذكرات لأ سطر فيه كل ما يخص أنخليكا.

***

جاءت أنخليكا هذه الظهيرة لبيتنا ويا لحماقتي أضعت اكثر من نصف ساعة من وجودها في البيت… يا الهي يصيبني الشيء نفسه دائما! كم احب أن أراها وأن أسمعها وأن ألمسها وأحس بها قريبة مني ثم أضيع الوقت هكذا! فهذا يحيرني ويؤلمني ! فلم الخجل والاضطراب وفقدان التوازن ؟ إذ ما أن اعلم بخبر وصولها حتى تختلط علي الأمور وأصاب بالحيرة. فما عساي أن افعل ؟ قولوا لي. اشعر بصدري ينقبض ثم يتورد وجهي احمرارا و ترتخي ساقاي وتعتريني موجة برد في جسمي فارتعش وبدلا من أن اهرع لرؤيتها، ارتد مسرعا للوراء دون أن أتمالك نفسي. أقول ماذا سأفعل ؟ سأنتظر… ويتملكني الخوف ولاأتجرئ للقائها ويخطر لي، انهم، إذا ذهبت هكذا، سيكتشفون أنني… أو سيصيبني شر ما. فأظل هكذا أذرع المكان جيئة وذهابا حتى اقترب منها وجلا قليلا فقليلا. يصعب علي الوصول لبهو الجلوس هكذا بمحض الصدفة. ولأنها تحبني كثيرا فما أن تراني حتى تقبلني ثم تحتضنني و حينها اشعر بانفعال لا أطيق تحمله إذ ليس لي شان بذلك، اشعر بكل جسدها ينضغط على جسدي ويداخلني أسى كبير وأكاد أن اختنق واشعر برغبة البكاء صارخا ثم يلتصق جسدي بها و أود أن اضغطها بكامل قواي وان أقول لها كل ما أتعذب من اجلها وبأنني أقدسها وآلاف الأشياء. ولكن في هذه اللحظات يصيبني القنوط ولا أقوى على شيء سوى أن اخرج مهرولا إلى فناء الدار مرة أخرى. اليوم غادرت البهو وكالعادة لم استطع تحمل ذلك ولم اعرف كيف أعود ثانية وحمدا لله أنها نادتني وجلست بجنبها طول وقت الزيارة، ناظرا إليها مستمعا لحديثها مع أمي ومتلذذا بتحسس رائحتها …أحيانا حين أكون جنبها صامتا أتمنى لو كنت مريضا لتشملني بعطفها وتلاطفني وتتكلم عني وحدي… ليس لأنني لم اكن فرحا معها هذه الظهيرة … ولكن أصابني الحزن أيضا …دائما يأتيني الغم. أقول يصيبني هذه الغم ليبين كم احبها بينما هي تعاملني باعتباري طفلا وتحبني كوني طفلا ليس إلا. وهو أمر طبيعي فكيف تريد هي أن تحبني؟ يا لسوء الحظ، يا الهي أي مصيبة؟ ما عساي أن افعل؟

***

الأسى يغمر قلبي و أود منه المزيد. وفي العصر جاءت أنخليكا والتمست أمي أن اصطحبها للسوق وفي الطريق انظم إلينا شاب لم يهتم بوجودي. ولم ندخل أي محل في السوق ومررنا بشوارع عديدة وتركوني أعدو أمامهم إذ تخلو الشوارع من المارة. وكنت أود أن انظر ورائي غير أنني لم أتجرأ. ثم ودعها وانصرف وعدنا للبيت سراعا. كانت هي فرحة جدا. وكلما أسرعنا الخطى للبيت غمرني أسى اكثر فانفجرتُ باكيا عند اقترابنا منعطف البيت ولما رأتني ابكي أصيبت بالذعر وسألتني لم تبكي، فأجبتها إني أغار عليك من ذلك الشاب الذي كنت تتحدثين معه وما كادت تسمع حتى انفجرت ضاحكة " أي طفل رائع أنت". وسألتني أتود أن تصبح خطيبي. بالطبع لم انبس ببنت شفة. ماذا كان علي أن أجيبها؟ تملكتها الجدية لبرهة ثم بدأت تلاطفني وتداعبني. لكن الحسرة كانت تملا قلبي وأود منها المزيد.

***

…………… ويمضي الوقت وبمروره تتفاقم حالتي سوءاً. أهرع إلي فراشي مبكرا وأتظاهر بالنوم حالا كي يطفئوا الضوء سراعا ليتركوني وحيدا حتى ابكي لان البكاء يريح النفس لمن هو في مثل حالتي !أي متعة للبكاء ! وحتى لا يسمع اخوتي نشيجي اجدني مضطرا إلى أن أعض أغطية الفراش. غير انه لا يمكن أن ابكي لفترة أطول. ما علة ذلك ؟ أهدأ شيئا فشيئا دون إرادتي فيثلج صدري وودت أن استمر باكيا إلا أنني لم استطع. أقول لكم الحق انه لا يجب أن أبقى هكذا دون بكاء لان الحسرة تقتلني. ولهذا فأنا أفكر بها، أفكر بأشياء كثيرة تهمها وتهمني. البارحة تذكرت زيارتها الأولى لنا وكانت ترتدي فستانا ورديا ينعكس لونه في وجهها وفي عينيها تلحظ نقطتين لامعتين. كانت جميلة جدا، نعم جميلة جدا وكل يوم تصبح اكثر جمالا! تلك العيون …. القادحة ترمش بطريقة عجيبة نادرة تدخل البهجة والسرور فيمن ينظر إليها، وشعرها المتموج يكتسي لونا أشقرا في نهايات ضفائرها. وكنت انظر إليها ذلك اليوم وإذ تتنبه لي ترمقني بنظراتها، يصيبني شيء غريب فلا استمر في النظر إليها. وأحسست بنظراتها مثل شيء دافئ يدب في جسمي فيشل قواي عن الحركة. وحق الله! كم قاسية ومؤلمة! ويبدو أن أمي لاحظتني لأنني سمعتها تقول لها: انظري يا أنخليكا أن هذا الطفل موله بك عاشق فلا تحرميه نظراتك. قالتها أمي مبتسمة دون قصد، غير أني ما فكرت إلا بها، في أنخليكا،أعني في ما قالته أمي و …. حتى اليوم.

آه وفي يوم اخر سألتني أنخليكا هل تحبني فقلت لها : اكثر من أي شيء أخر في العالم. يا للروعة! غير أنني لم أتمكن من تمالك مشاعري. فرمقتني أمي وكان علي أن أصحح قائلا بالطبع بعد حب أمي و جدتي وأخواني، لكنه ليس حقا، فأنا احبها اكثر منهم جميعا! اكثر منهم جميعا! أي رغبة تتملكني بامتلاكي دفتر المذكرات هذا لاقول لها!

نادوا علي للذهاب للفراش ولم أنته بعد من واجباتي المدرسية. سأعتذر للمعلم قائلا أن صداعا أصابني البارحة وسيصدقوني لانه كل يوم يوجعني رأسي وكل من في المدرسة يعلم ذلك…. وحتى لو عاقبوني، علي أن اكتب يومياتي لأنني لا أستطيع التحدث بهذه الأشياء مع الآخرين بل لا أتجرئ قولها لاخوتي الذين لا يقدرون مشاعري.

***

إخوتي لا يحبوني ولا يريدون أن العب معهم لأنني حسب ما يقولون أنني لا أجيد اللعب. وهم محقين بذلك لأنني لا أجيد أي من ألعابهم لأنها لا تعجبني فضلا عن انه لا استمتع بمصاحبة الأطفال الآخرين لأنهم مختلفين عني تماما. فهم ينسون أنفسهم وأحبائهم وكل الأشياء ويلعبون ما وسعهم اللعب، أما أنا فلا أستطيع نسيان أي شيء وحتى اللاشيء نفسه، ولهذا تجدني شارد الفكر ولهان وكنت الخاسر دائما فاسبب خسارة الفريق الذي العب معه. ولهذا تقول جدتي إنني "مسكين"، نحيف، ونحيل شاحب وساقاي نحيفتان مثل عصاتين ولذلك ترثي لحالي وتشفق علي. وأنا أشفق عليها لان أوردة ساعديها منتفخة ووجهها شاحب كلون الأرض اليباب واسنانها صفراء وشفاهها بيضاء؛ فضلا عن ذلك فهي لا تعرف العزف على البيانو مثل أمي وكل ما تعرفه هو إثارة المشاكل مع الخدم. في المقابل، لو كنت كبيرا، أستطيع القيام بأمور كثيرة واذا كنت مكتئبا، كما تقول جدتي، فما شأن الآخرين بي؟ فضلا عن ذلك أنني كنت دائما هكذا وقبلُ لم اكن مغموما إلا عندما يصيبني الحزن. أما ألان فسبب حزني هو أنخليكا وهو نوع من الحزن الذي احبه ويريحني. فمتى تعودين يا أنخليكا؟ يا مليكة روحي..! اعتقدت انه بإمكاني كتابة، في هذا الدفتر، كل العواطف والمشاعر التي تدور في خلدي؛ ألان ورغم انه لا أحد يطلع على ما اكتب، يصيبني الخجل من أن اسطر هذه الكلمات التي تدور في بالي وتشغله. البارحة سرقت صورتها الموجودة في البهو وأخذتها معي للفراش وقبلتها وقلت لها كل الأشياء التي اخجل من تسطيرها على صفحات دفتري هذا. وودت أن احتفظ بالصورة معي دائما لكنه داخلني خوف من انهم يكتشفون ذلك ولهذا بقيت قلقا فنهضت من فراشي بملابس النوم واعدتها إلى مكانها. بالطبع قد يكتشفون حبي لها لو انهم سألوني عن الصورة لانني حينها أتلعثم ولاأعرف بما أجيب فيظهر على تقاسيم وجهي.

غدا الأحد وعسى أن أراها عند إقامة شعائر الصلوات واذا لم احظ بها سأطلب من أمي أن تسمح لي بالذهاب إلى بيت خالتي. وهناك تمر أنخليكا عصر أيام الآحاد، مرات كثيرة، وبإمكاني أن اقضي العصر معها في الشرفة بصحبة خالتي كارمن التي تحبني كثيرا وتقول عني أنني طفل رقيق المشاعر. خالتي كارمن امرأة عطوفة وجميلة ويداها سميكتان و ناعمتان وتجيد رواية القصص بصوت هادئ مليء بالأحاسيس.

***

 

لم تذهب أنخليكا يوم الأحد إلى كنيسة القديس فرانسسكو بل ذهبت إلى الكاتدراء لكي تمضي الوقت بعد أداء الصلوات في الساحة العامة. غير أنني رايتها العصر ولبرهة في بيت خالتي، إذ مرت مسرعة وقت الغروب. وكنت وقتها مع خالتي في الشرفة انظر إلى ارتعاش مصابيح الشارع عند بدء إضاءتها والى اختفاء قرص الشمس، عندما لمحناها على الرصيف. كيف لم ألحظ قدومها، أسائل نفسي؟ وهي الساكنة قلبي ليل نهار! لم ترغب في الصعود للشرفة متعللة بأنه قد حان وقت رجوعها للبيت، فضلا عن أن صديقتها،التي كانت معها، كانت متضايقة من الحذاء الجديد ولهذا نزلنا أنا وخالتي واصطحبناها من باب البيت حتى منعطف الشارع. كانت فرحة جدا فابتهجت لفرحتها ثم شرعت تتكلم سرا مع خالتي وطفقا يبتسمان وينظران باتجاه الطريق الذي قدمت منه ولم أدرك عما كانا يبحثان بنظراتهما.. تسائلت ما عساه أن يكون؟ وهذا مما لا يعجبني فيها فليس هناك أحد مثلي يؤتمن على الأسرار. وكثيرا ما يحدث هذا إذ لا أحد يحزر أبدا من الذي يريد مصلحته وهو قريب منه و لكن لا يخبره بأسراره لانه لا يجرؤ على ذلك. أقول انه يجب أن يخمن المرء وان يفعله باطمئنان. وهو نفس ما يحدث معي مع العم كارلس، إذ أنني متيقن انه يود لو بحت له بأسراري كلها وأنني لائتمننه عليها أن تطلب الآمر ذلك. ولكن أنخليكا لا تخمن ذلك. وعلى أية حال فأنا مبتهج جذل. قالت أنخليكا لخالتي أنني طفل رائع وتحدثت خيرا عني ثم قبلتني وقبلتها بالمقابل ولأنها كانت تمسك بيدي طول البرهة، فقد ظلت رائحة قفازات يديها في راحة يدي. اشعر بالفرح ألان وأنا سعيد جدا. إذ ألتقيها لبرهة تغمرني الفرحة بينما لا اشعر بتلك السعادة اذا أمضيت معها وقتا اطولا، ما علة ذلك؟

سأذهب للفراش، عسى أن لا يزعجني الجيران بالطرق على الحائط إلا انهم بدئوا وهذا ما يزعجني ويصيبني بالذعر، فلماذا يفعلون ذلك؟انه لامر مقرف ومضجر. كم انتظر ساعة ذهابي للفراش لأكون وحدي في الظلام، فاستشعر هذه النوع من العطش والسعادة، هذا الغم العذب، هذا الحب العظيم فأتنهد وابكي فرحا ذارفا دموعي برغبتي مغطيا وجهي بالمخدة…… وكثير هو الرعب الذي علي أن أواجهه حتى هنا في فراشي، إذ استمع إلى نوع من الضوضاء الذي يجعل قلبي يقفز من مكانه. انه الضوضاء القادم من صرير أثاث أو سقوط أواني في المطبخ أو غلق باب أو طرق الجيران على الحائط. لا يجب أن يصيبني الهلع والذعر لأنني لم افعل شيئا خطأ، غير بقائي مستيقظا ولا يمكنهم التخمين بمن أفكر وبماذا أفكر، غير انه يداخلني خوف رهيب لا أجد ملجأ لعلاجه.

***

بدأت أمي ألان تراقبني.البارحة اقض مضجعي أمر غريب. بعد الأكل بدأ أخوتي يلعبون في باحة البيت بينما بقيت انظر إليهم من المجاز متكئا على الجدار وبينما كنت مستغرقا بالتفكير بأنخليكا، سمعت أمي تقول لجدتي : ما باله هل هو مريض؟ وأدركت انهما يتحدثان عني ولهذا اندهشت وصعقت. لم أتجرئ النظر إليهما غير أنني شعرت انهما ينظران لي. وهكذا كان الآمر، انهما يتحدثان عني لان أمي عاودت القول: منذ عدة ليالي لم يعد يهوى اللعب مثل إخوانه، فأجابتها جدتي أن تتركني وشأني، لانني لاأجيد شيئا، وأنني كنت هكذا خاملا وحزينا وليس نشطا مثل اخوتي؛ غير أن أمي نادتني فتحركت مذعورا مثل تمثال بلا صوت …. والحقيقة اعتقد أنني ألان مريض لأنني أصبحت عصبيا ويتملكني القلق كثيرا…. "جفونك متهدلة، لم لا تلعب مثل إخوانك قليلا؟". سألتني أمي فأجبتها أنني اشعر بالنعاس فتحسست جبهتي ظنا منها أنني محموم ولكنني أكدت لها أنني بخير وليس عندي حمى، وشرعتُ اضحكُ رغما عني تفاديا لظن أمي بأنني مريض، لان مجرد التفكير بنقل فراشي إلى غرفة أمي،جعلني ارتعش. ما كان لي بد سوى أن اضحك، لان نقل فراشي إلى غرفة أمي يعني فقداني لوحدتي في الليل … وهذا ما لا أتمناه ! تحسست جدتي جبهتي ووجدتها باردة وكان طبع جدتي أن تبدي رأيها قبل أن تفحص ولهذا فقبل أن تضع يدها على جبهتي كان قرارها قد صدر. وهو الشيء الوحيد الذي يعجبني فيها.. آه لو كان لامي نفس طبع جدتي، لكنت اكثر استقلالية واكثر سعادة. ولكن أمي تغالي كثيرا في رعايتها لي وعطفها علي. قد يكون لأنها تحبني… وهذا حسن ولكن هذا القلق المفرط أمر مزعج….

 ***

…………….. إن أسوأ ما أعانيه هو انه لا أحد يدافع عني لانه ببساطة لا أحد يعرف أن اهتمام أمي المفرط يؤذيني. نعم يعذبني فمنذ أن لاحظت أنني متوعك الصحة بعض الشيء، و خامل ما كان لي سوى أن العب كل ليلة مع إخوتي. وجسدي اصبح منهكا مضنيا. أليس هذا تعذيب؟ علي أن اقفز واركض واغني فيسخن جسمي اكثر من البقية.. ولو كان اللعب في الأقل يسليني…. و لكن لا،لان قلقي الوحيد كان هو أن ترضى عني أمي واجد ذلك في تقاسيم وجهها السعيد وبهذا أخمن وقتي: عندما اعتقد أنني لعبت بما فيه الكفاية، اقترب من أمي لكي تلحظ تصبب عرقي وبأنني قد ركضت كثيرا وهضمت ما أكلت وأحيانا أناقش معها أنني لعبت اكثر من بقية إخوتي. وعندها تقبلني فرحة راضية أمي المسكينة وبذلك أتنفس الصعداء. يمكنني بعدها الذهاب إلى فراشي دون خوف من شعور أنها قادمة إلى فراشي لتراقب ما إذا كنت نائما. وتلك هي قضية أخرى تعذبني لانه مهما تظاهرت بالنوم مثل صخرة، دائما يداهمني هذا الشعور من أن تأتى أمي لتراني هل مازلت مستيقظا أم لا. وأيقنت انها ستأتي لا محالة وهذا ما يثير غضبي. مسكينة أمي تقوم بذلك بحسن نية لأنني وليدها. ولكن كيف لا يتملكني الغضب؟… كل هذا من اجل أنخليكا، من اجل مليكتي… في هذه الأيام تقول أمي سنذهب لزيارتها. ومضى وقت طويل….

***

وأخيرا ذهبنا لزيارتها، غير أنني ضجرت وتألمت من هذه الزيارة حين وجدت في بيتها ناس كثيرون فضلا عن ذلك الشاب الذي كان ينظر إليها كثيرا. كانت هي معي دائما ولكن أينما كنا نذهب، كان يصحبنا ذلك الشاب. اسمه خورخه ورغم انه وسيم إلا انه ثقيل الدم. اكره طريقته في قول أنسة أنخليكا! أحمق وغبي. اعتقد انه لا يعجبها هذا الشاب، كيف لا ورأسه الصغير وعيناه المدورتين وشاربه كأنه فرشاة أسنان… لا انه ليس قبيح المنظر… ولكن لا يعجبها لأنني سألتها وأجابت أنها لا تحبه ولا أظن أنها تكذب علي و تخدعني؟ سنرى. نعم لا يمكن أن تحبه فضلا عن أن أهلها لا يسمحون لها. وأخيرا ألم تقل لي أنخليكا نفسها انه لا يعجبها؟ فعلام إذن قلقي؟

***

لا ادري ماذا سيكون عليه حالي؛ ففي كل مرة أقرا قصصا أتخيل أمورا كثيرة واراها واضحة جدا كما لو كانت تجري حقيقة وهو مالا الحظه عندما لا أقرا. فمثلا هذا اليوم كنت أفكر في ذلك الشاب الفظ التافه المولع بأنخليكا وكنت أود لو أنها طردته من بيتها وعندها سينتحر. حسنا لم استطع تصوره وتخيله بوضوح تامين. ثم عاودت القراءة وفي منتصفها وجدت نفسي دون إرادة مني أفكر بذلك الأحمق المغرور مرة أخرى و حينها! نعم! حينها رأيت كل شيء بوضوح. رايتها تسخر منه بتلك الابتسامة الجميلة التي تنسكب من فمها مثلما ينسكب الماء من قنينة بلور…. وفجاة تغضب منه أنخليكا فتشتمه وحينها يمتلئ صدري انشراحا وسرورا، فيذهب هو حالا وفجاة نرى مجموعة من الناس تركض في الشارع وبينهم رجال شرطة وركضت لأرى…. وأخيرا علمنا انه قد انتحر. بعد ذلك أتشجع لأقول لها كل ما أفكر به وتشرع بالبكاء مثلي أنا، بكاء الفرح والجذل فرحا بتلك السعادة الكبيرة التي تنطلق من هنا، نعم من داخلي وتنفجر عند المآقي فتجعل المرء يبكي أولا لتغمره السعادة بعدئذ. وبعد لحظة تقول لي نعم لكل ما قلت لها، وان لا أحدا يحبها ويودها مثلما أودها أنا وستنتظرني إلى أن اصبح شابا يافعا. ولا أجد من جهتي ما يمنع أن يحدث هذا الأمر. فهي ستكبرني دائما، نعم صحيح! ولكن أليس هناك نساء متقدمات في العمر متزوجات من شباب؟ ففي مثل هذه الزيجات أتسائل كم قصة تشبه قصتي مع أنخليكا! سأقول لها ذلك في اقرب وقت ممكن. نعم أمامها لا يخطر لي كيف ومن اين ابتدأ الحديث. وحين أكون بعيدا عنها يبدو لي أننا كل يثق بصاحبه ولكن حين أكون قربها، اشعر أنني مثل دمية.

***

إخوتي حقا غير مهذبين معي فاليوم طلع علينا أخي ( بدرو) بأنني مخبول لأنني ارمش كثيرا أما أخي (انريك) قال "إن تلك هي عادة أنخليكا وهو يقلدها في ذلك وعلى ما يبدو انه مولعا بها عاشق". غضبت وضربته فاشتكاني لجدتي التي وبختني قائلة أنني مثل بعوضة ميتة وأنني صبي أتكابر فقرصتني في ذراعي. جدتي لا تحبني وسخرت مني إذ اخبروها أنني ارمش مثلما تفعل أنخليكا. لا يزال رأسي يؤلمني بسبب الإزعاج الذي سببوه لي. والان أتفهم معنى ما يقال أن الإنسان قد يموت من الغضب. والأسوأ هو لن أستطيع أن ارمش بعيني. لان العيون حين ترمش تمتلئ بالحياة مثل عيونها التي عندما ترمش يبدو أن شعاعا ينطلق من كل جسمها. لا أستطيع أن انتقم لنفسي من جدتي التي تبغضني اكثر من بقية إخوتي. ولكنني ثأرتُ لنفسي عندما أعطتني بعد أن قسمت على بقية اخوتي، بعضا من الحلوى فرفضتها ولذلك أعطت حصتي إلى انريك الذي حصل الضعف وفاز بها. آه منك ياانريك انك سبب كل المصائب فهو مدلل جدتي وأنا كما تقول أمي لا يجب أن أكون مثله هو لانني الصغير.

***

أن كل ما يقوله العم كارلس ينفعني دائما. حقا هذا الرجل مدهش فكل ما يقوله يجعلني اشعر بالسعادة فاليوم بعد وصوله إلى بيتنا حدثنا أن ذلك المدعو خورخه قد رحل للريف ليعمل في إحدى البساتين فهناك يجب أن يبقى ذلك المتطفل والى الأبد. كل يوم اشعر أن العم كارلس يحبني اكثر فاكثر كما لو كنت ابنه. وماذا أود اكثر من أن أكون ابنه. لأنني لم أدرك رؤية والدي الذي مات وأنا لم أولد بعد. لا اعلم ماإذا كان بدرو مولودا آنذاك أم لا، غير أنني اعتقد انه لم يولد بعد لأنني سمعته أحد المرات يقول لجدتي انه ولد خدجا بسبب الحزن الذي ألم بأمي عقب وفاة أبي. نعم هذا ما سمعته، أتذكر أنني ظلت وقتها مشغول البال متسائلا ما علاقة هذا بذاك… المسألة أن العم كارلس يحبني وهو بمقام أبي وهو دائما يهديني ملابس ويأخذني معه للنزهة.. ولكن منذ مدة لم يعد يصطحبني معه لان زوجه كما يقولون يزعجها ذلك كثيرا. وتحدثا عن ذلك أمي وجدتي ذات ليلة وبكت أمي كثيرا وجدتي كانت تزيد النار حطبا. تلك الليلة قد يكون حدث أمر جلل ووقتها ضربتني جدتي لان حشرت نفسي بينهما.أنى لي أن أخمن انه ما كان علي أن احشر نفسي بين الكبار. وقد أزعج ذلك أمي كثيرا فحضنتني وقبلتني قائلة: أي ذنب اقترفت يا طفلي الوديع؟ حقا أي ذنب لي في الأمر؟ أن جدتي تكرهني. فأنا مدلل أمي لأنني اخر العنقود فضلا عن العم كارلس يحبني وحدي.

 

***

مرت خمسة عشرا يوما دون أن تأتي أنخليكا. وانه لأمر عجب فلم يعد لي مزاج حتى لكتابة مذكراتي. لا أستطيع النوم ولا الدراسة ولا عمل أي شيء بهدوء. قبل ذلك، كنت اسهر الليالي فقط عندما كانت تأتي لزيارتنا وتحتضنني، أو عندما اسمع أخبارا عنها لا تسر، أما ألان فالنوم قد جفاني كل هذه الليالي ؛ ففقدت حتى القدرة على أن اسطر شيئا ما على الورق. ولانه لا أنام فقد اصبح رأسي ثقيلا ولا يخطر لي سوى أن أكون حزينا. أنخليكا … مليكتي تعال تعال تعال…!

وهكذا كان علي أن العب والعب كل ليلة مع إخوتي المزعجين… انه لامر مزعج ولكن ماذا افعل لامي….

 ***

……………. نعم ما كنت أنام هذه الأيام. خلال النهار اشعر بالنعاس.ولكن في الليل يجافيني النوم فلا يغمض لي جفن حتى ساعة متأخرة. هل كنت مجنونا، أقول لنفسي؟ كيف لم يخطر ببالي من قبل؟ أمر في غاية البساطة، قليل من الارتباك ثم ينتهي الامر. في الخامسة عصرا حين خرجت من المدرسة مررت على بيتها. كانت جالسة في شرفة غرفتها. آه! وحين لمحتها من منعطف الطريق الشارع، شعرت بضربات على رأسي، من داخله، وتقطعت أنفاسي ثم شعرت ببرد و بدى لي أنني كنت أطير في الهواء ثم اضطربت ساقاي. وأمام بيتها خلعت قبعتي بجدية. ونسيت نفسي أأبله أنا؟ ولولا أن أمرا غريب يشدني ويجذبني مثل نابض لنسيتُ نفسي… كيف حدث لا أتذكر…؟ لا أتذكر تقريبا كلمتني من شرفتها اعتقد ذلك. نعم هكذا كان الأمر. كنت وقتها ارتعش مرتجفا من ذلك البرد الذي داخلني وما سمعت سوى ضوضاء وطنين في آذاني الذي هزني وكان على وشك أن يجعلني اصرخ من مجرد الإحساس. وهكذا يبدو لي أنني اقتربت منها وسألتني ما الذي جاء بك وماذا إذا كنت متغيبا عن المدرسة وأنا صامت ما نبست ببنت شفة. دخلت بيتها راكضا دون أن اعرف كيف حدث ذلك. ماذا سيقول الاخرون عني إلا أنني لم استطع وقتها تمالك نفسي وما عارضت أن تحضنني. نعم هذا لا. نعم هذا مالا أستطيع مقاومته. كيف كنت تلك اللحظة!. أعطتني قطعة حلوى ولكني رفضتها وطلبت عوضها وردة حمراء كانت معلقة في صدرها. بالطبع ما طلبتها منها ذلك بصراحة في البداية. نعم كنت ذكيا جدا قلت لها أولا أن أمي تحب هذه الورود القانية اللون. فقالت لي خذها وأعطها لامك وجلبتها لامي وغدا قبل أن ترميها في سلة النفايات سألتقطها وسأحتفظ بها. ثم اسررتها سبب مجييء لرؤيتها بان أمي تنتظر قدومك منذ فترة وهي تحن لرؤيتك ووعدتني أن تأتي غدا. وسألتني أن كان غيابها قد أوحشني وأنني احن لرؤيتها وأنني احبها: فما قلت اكثر من نعم.

 كان عندها ضيوف وإذ لم استطع هذه المرة أن… سأقول لها ذلك في يوم اخر لانه يجب أن أقول لها كل ما أفكر به، وأنني سأموت أن لم تنتظرني، كل شيء كل شئ …في النهاية استمتعتُ كثيرا ورجعتُ للبيت وكان قد حل الظلام. كيف لم يخطر لي ذلك من قبل؟ أعاني أعاني أياما وليالي...

***

لقد وفت بوعدها وجاءت لزيارتنا. نعم قصت على أمي كل شيء، وضحكت أمي كثيرا إذ اعتبرت الأمر على انه مجاملة من طرفي وقالت" انك حقا تعرف الأصول". ولكن عجبا تجاوزت حرجي الشديد. كان علي أن أقول لامي أنني نسيت أن أقص عليك ما دار بيني وبين أنخليكا.. وان الأمر لم يتعد اكثر من ذلك. ثم كنت على ما يرام مع أنخليكا. فقلت لها وأنا اجتاز باحة البيت المشجرة بعض أمور لم تكن واضحة ولكن اعتقد انه بعد ذلك بإمكاني أن اتجرئ وأبوح لها بالأمر العظيم. وهذا يستدعي مني أن احلف على….

حسنا لا داعي أن اكتب اليوم أي شيء. اليوم سأركض واقفز برغبة وسرور بعد العشاء.

***

لم تدم الفرحة. ارحمني يا الهي! فلم تعد تأتي بعد كثيرا. بالطبع لم يمض وقت طويل على اخر زيارة لها ولكن داخلني مرة اخرى القلق لرؤيتها. وخلال ثلاثة أيام حاولت المرور ببيتها ولكن من دون جدوى، لانه ما أن اصل إلى منعطف الشارع المؤدي لبيتها أتوقف هناك.لا ادري، يتصور لي هذه المرة أن أمي ستشك بأمري وفي الختام أقول مع نفسي أليس من الأفضل أن اروي لامي كل القصة! فكرتُ بالأمر؛ ولكن مهلا يجب التفكير بعواقبه جديا وبالأخص هذه المرة.

!آه مما ستقوله جدتي عني! بأنني مخلوق مسكين مجنون اجلب لهم المشاكل ليس إلا وان على الأطفال أن لا يفكروا بأي أمر عدا الدراسة. كما لو أنني لا ادرس في هذه الحال بحماس اكثر. ادرس ألان وعلي أن أنهي الدراسة سريعا حتى اصبح رجلا… غدا سأذهب لرؤيتها. انه أمر بسيط… نعم، يبدو لي ألان في هذا المكان الأمر هين جدا، ولكن الخوف بعدها يتركني مثل دمية لا تقوى على الحراك. لا افعل اكثر من الاقتراب من زاوية البيت وأنا كلي ارتعاش. الارتعاش ليس مشكلة ولكن المشكلة هي قلبي الذي تزداد دقاته كأنه يريد أن ينخلع من مكانه وكل من يمر بالطريق ينظر إلي فيخيل لي انهم سيكتشفون مقاصدي وان لم يكن الأمر كذلك يتصورون أنني حرامي نشال. والحق أقول انني لا أتجرئ ألان أن أتجاوز ركن البيت. وفي الختام انظر من خلال أبواب هذا المخزن ولانه لا يمكن رؤية كل شبابيك بيت أنخليكا، مرات كثيرة أظل دون أن اعرف هل هو هذا بيتها أم لا. ومن ثم يمر الوقت سراعا مثل السحاب. ولانتظر يوما أخرا، واذا لا…..

***

انظر كيف تتغير الأحوال! ألان بدأت تزورنا تباعا إذ تذهب لمركز المدينة كل صباح وبعدها تأتي لبيتنا وحين اصل من المدرسة لتناول الغذاء أجدها امرأة بكل معنى الكلمة تتحدث وتتحدث بينما أمي منشغلة برفأ ملابسنا. ما تمكنت حتى ألان أن أحدثها عن أي شيء، لكن لا يهم: فعلام العجلة؟افليست أموري معها على ما يرام؟ أنني سعيد وسعيد جدا. وإذ يأتي وقت العصر اصعد إلى غرفة الخدم لانه يعجبني هذا الممر المؤدي إلى سقوف القرميد والى الغروب ومن هناك أرى وانظر إلى قمم الأشجار التي تطل على فناءات البيوت واطرب لسماع أجراس كنيسة القديس فرانسسكو وكنائس أخرى بعيدة ويبدو لي أن قمم الأشجار وأجراس الكنائس تطفو عائمة في الهواء. من جهة أخرى يخيل لي أن السماء تتزحزح ومعها تهبط أو تنحدر نازلة صفوف الألوان التي بعضها كلون النار والذهب والورد والأخضر ومن جانب سلسلة الجبال يتحول لون التلال إلى لون يشبه أحجار البناء أولا ثم يصبح بعد ذلك بنفسجيا وتكتسي السماء بلون الحزن الشاحب. و حينها أفكر بأنخليكا، وتغمرني أحيانا بهجة لا حدود لها واحيانا أخرى يتملكني حزن مثل حزن السماء الشاحب. وفي الصباحات يعجبني أن اقضي الوقت في فناء الحديقة إذ تأتي الطيور حتى شباك المطعم. ولا تخافني الطيور إذ أبقي انظرهن وهن لا يطرن، أيعرفن أنني احبهن؟ تقول الخادمة كيف يعرفن انك تحبهن وما يجلبهن سوى فتات الطعام المتبقي على خوام منضدة الطعام. وفي هذه الساعة يبدو لي أيضا الماء المتدفق من بركة الماء مثل طير في هذه الساعة، ولا ادري لماذا؟ هل لان الماء ينبثق قافزا أم بسبب صوت تدفقه. كل شيء في هذه الساعة منعش كما لو أن الفناء مثل البشر يغتسل ويسرح شعره في الصباحات

***

يقول الكبار أن كل ما يفعلونه هو لصالحنا بينما لا يعرفون سوى حرماننا مما نهوى ونحب. تقول أمي أن الكبار يفعلون ذلك من اجل أن نكون سعداء عندما نكبر ؛ واحيانا تقول أن الكبار لا يعرفون أبدا طعم السعادة التي ينعم بها الأطفال. فبالله عليك، ما معنى ذلك؟

 كم كنتُ سعيدا و لكن اليوم غضبت أمي مني بسبب هبوط مستوى تحصيلي الدراسي وأنني عدت اخرق ولهذا لن أتمكن أبدا من اجتياز سنتي الأولى. وتقول جدتي بما أنني اقضي الوقت في مطالعة القصص ومشغول الذهن، فأنني لا اهتم بدروسي ولهذا مزقت أمي كل قصصي وقالت أنها لن تشتر لي مطلقا حتى لو توسلت لها باسم كل قديسي السماء ما لم تكون وقت العطلة. تعجبني القصص لأنها تساعدني على التفكير بوضوح مثلما لو كنت حالما وأتفوه بشيء ما وهي تجيبني وأتصور حالي أنني كبير وقد تزوجت من أنخليكا فضلا عن أنني أتعلم منها كلمات كثيرة وقواعد الإملاء التي لا أستطيع استيعابها في المدرسة لان المعلم يستخدم طرقا لا أقوى على حفظها. أي حزن ينتابني من فقدان قصصي التي تنفعني وتساعدني كثيرا في كتابة يومياتي. جدتي كما هو معروف عنها لا يخطر في بالها دائما سوى الأمور المقرفة. مثلا إنها تكرهني … لأنها بحاجة إلى هذا البغض حتى تبرر ما تفعله معي. وأخيرا أدركتُ انه في كل مرة تتذكر فيها أمي يوم ولادتي، يعتلي وجهها الغضب وتنظر إلى بحقد كما لو أن مجييء لهذا العالم جلب لها ضررا وألما كبيرا. فهم أتوا بي لهذا العالم فأي ذنب أتحمله أنا؟هكذا قال العم كارلس مرة وهو أمر ما كان له علاج. ولكن جدتي فظة لا تفهم.

***

كما تعلمون لم اعد امتلك قصصي، ذهبت اليوم الأحد مبكرا لفراشي متظاهرا بأنني ذاهب للدراسة ومن جهة أخرى لكي احتوي غضب أمي، حملت كتبي غير أنني لم افعل سوى التفكير بالجنيات و بأنخليكا التي كانت هي الأميرة وأنا هو ذلك الطفل الذي بدلا من أن يختار طريق الزهور مشى طريق الأشواك وهكذا تزوجت في النهاية من بنت الملك اعني انخليكا. تعبت من التفكير غير أنني بقيت في غرفتي حتى حل الظلام. واتخذت لي مجلسا بين المنضدة القديمة المرصعة بالصدف والجدار المؤدي للصالة لان هذا المكان محبب لي اكثر من أي مكان اخر في بيتنا. فهنا اخبأ دفتر مذكراتي تحت السجادة واحب أن أمكث هنا رغم أنني لا افعل سوى عد خطوط ورق الجدار وارمش مثل انخليكا واضحك مثلها واجيب نفسي عن كل ما أود أن تجيبني هي عنه حين سأروي لها خططي. لا اعرف لم احب كل شيء هنا في ركني واحفظه عن ظهر قلب: في أحد جوانب خزانة الملابس المرصعة باللؤلؤ، والتي ينتصب في قمتها طاووس، فقدت قطعة لؤلؤ وبقيت ثلاث وعشرون قطعة فقط. ومما لا يعجبني هو عين الطاووس التي تبدو كأنها عين إنسان تفزعني ولهذا تجدني دائما أسويها بقلمي.

***

كم يؤلمني ما فعلت، نعم كم يؤلمني ذلك! كنت ابله غبي فأضعت كل شيء وربما للابد. لا اعرف ماذا سأفعله ألان! يا الهي أعني! ولكنه لم يعد ممكنا. فلن تحبني حتى باعتباري طفلا… أي قنوط. لا يمكن ابدا. عذرا يامليكتي، ارحميني فما أنا سوى منحوس الحظ. لن أكون أبدا غير مهذب. غاية الأمر أنني غيور وعدت مجنونا! ماذا دهاني؟ ألا لعنة الله على الشيطان.. تعودت أن اذهب كل ساعات الغروب. لم أتشجع أبدا على أن أتجاوز ركن البيت ولكن من أبواب المخزن استرق النظر إليها وحتى لو كنت ارتجف من الاضطراب، فأنني استمتع بالبرهة وأعود مقتنعا بما غنمت. إلا انه أمس، أمس فقط أطللت برأسي ورايتها في الشرفة مع ذلك المعتوه خورخه. فلو كان الجميع معها باستثناء ذلك الطفيلي لهان الأمر ولكن كانا وحدهما في الشرفة قريبا منها يحدثها وهي تبتسم له. نعم كيف كان لي أن احقن غضبي؟ فما أن رأيتهم حتى اظلم بوجهي الشارع وصُمت أذناي فركضتُ مسرعا إلى بيتها.. "سأقتله، سأقتله كنت أقول مع نفسي في الطريق، أتذكر ذلك، ولكن عندما وجدت نفسي قرب الباب الرئيسي وسألوني من هذا؟ ولم اعرف بما أجيب، فقدت شجاعتي وبقيت مثل معتوه وشعرت بألم يسري في قفاي. فتحت لي الخادمة الباب ودخلتُ الشرفة وكانت أنخليكا مبتهجة فقبلتني وسألتني أمورا عديدة وما استطعتُ جوابا لأسئلتها. ثم قال لي خورخه بصوت علته الجدية: كيف حالك يا طفل؟ ولم اجبه بل نظرت له بحنق شديد. وكانا مندهشين ووضع يده على رأسي فجذبتها بعنف. وهو يقول لي، لا ادري أية أشياء كأنه يمزح معي. ولم اجبه حتى ألان وحين سألني لم أنت غاضب جدا، أجبته( سد فمك، اسكت يا طفيلي يا بهيمة ألم يرسلوك للعمل في الريف؟) وهي…، لم تفعله كرها لي…، ولكنها وبختني قائلة هذا قلة أدب، فقبيح ما فعلت ومنذ متى عدت طفلا سيئ الخلق. لم تفعله حقدا علي ولكن…، الأسوأ من هذا- تسائلت مع نفسي لماذا تغضب مني،والامر واضح على وجهها- انني أجبتها أن القبيح هو ما تفعلينه مع هذا المعتوه ولهذا غضبت اكثر حين ذكرتُ الآخر بالمعتوه…، جدا لدرجة أنها أفزعتني ثم أجهشتُ بالبكاء وخرجتُ راكضا. تبعتني ضاحكة وكلمتني بعطف مرة أخرى وقبلتني وأخذتني بأحضانها غير أنني لم اكن ابله فمسحتُ وجهي حين قبلتني وما سمحتُ لها أن تلمسني: أي طفل غيور رائع تقولها بفرح. أولم ترغب هي في أن اعتذر منه لانه يحبها كثيرا؟. لا،أبدا لن اعتذر قلتُ لها. وهنا حدث الأمر الجلل: كانت جدية وحازمة جدا نظرت لي لبرهة صامتة ثم قالت : لا تكن فضا كريها، اعتذر منه. داخلني الحنق والغضب… ولأنني قلتُ لها أن الفظ هو أنت( لأنني كرهتها من كل قلبي في تلك اللحظة)، صرخت بي "اذهب إلى الجحيم أيها الطفل المجنون، غدا سأشتكيك لامك لما فعلت وسنرى". فذهبت هي ولم تعد. ماذا حدث اكثر من هذا، لا ادري سوى أنني رجعت للبيت مريضا باكيا صارخا. سألتني أمي ما بك ما يؤلمك فقلت لها معدتي. فأرقدوني في الفراش واعطوني ادوية كثيرة ومسهلا للمعدة، وفوق هذا كله كان علي أن اتجرع زيت الخروع ولانني قلت لهم تؤلمني معدتي، فكلهم قالوا انه مغص في القولون. وهكذا استطعت أن ابكي لان عندي ما يبرر البكاء. قاومت أن لاابكي حتى لا أوذي أمي اكثر من هذا فهي اصلا تعبى ولكن لم اتمالك نفسي من البكاء لان ذلك مستحيلا. والغريب في الامر هو انني نمت مبكرا ولم اسهر ولااعرف علة ذلك. استيقظت اليوم التالي متاخرا وكان اخوتي قد غادروا للمدرسة. ولن اغادر طيلة يومي هذا لأنني اشعر كأنني فاقد الوعي، فضلا عن انني اود أن اكون موجودا هنا حين تاتي أنخليكا واعتذر منها فلا تشتكيني لامي.

***

لم تأت. قضيت اليوم كله ارتجف مرتعشا خائفا من انها ستأتي في أي لحظة ووددت لو أنها تأتى لأرى ما اذا كنت ساتكلم معها. لكنها لم تات ماالامر؟ يؤلمني الان عدم ذهابي للمدرسة لانه يمكن أن امر عليها واعتذر منها بينما يطاردني الان الخوف والذعر….

***

أمي: وددتُ لو قلتُ لك كل شيء ! ولكن أنى لي أن اعرف انك لن تغضبين؟ لانه ليس خوفا من أن تشتكيني أنخليكا لها، فهي لم تشتكيني، وهو واقع ولو ارادت لما دعت يمر اسبوعان، كما يبدو لي، دون أن تزورنا. والان انام اقل من ذي قبل وهو امر طبيعي لأنني ايضا اكثر حزنا من ذي قبل ولكن هذا لايعني انني لااستطيع او لااقوى على الاستيقاظ صباحا ثملا من النعاس حيث راسي ثقيل مثل صخرة، يقع على المخدة ولااقوى على رفعه وتحمله ولاحتى على إستماع صياح جدتي لأنني نائم بكل جسمي وليس بفكري وحده كما كنت سابقا انام. حسنا أن جدتي لاتكف حتي اجلس معتدلا في فراشي وارتدي ملابسي واصحو على مصيبتي فيداخلني من جديد هذا الالم الذي يضرب دماغي مثل سوط. أي قنوط يصيبني من هذه الامور! كما لو انه لاشيء عندي سوى أن اتلقى عبء وحزن جديدين الى احزاني. وهو كثير كثير جدا. هذا الصباح بللت جدتي وجهي حين ادركت انني لااقوى على النهوض من فراشي، قائلة أن الماء خير علاج للكسل ولو يمكنني الاستيقاظ مبكرا فستكون صحتي على مايرام مثل اخوتي وهكذا لن اجعل أمي المنحوسة الحظ تعاني اكثر مما يجب. ثم بدأت الموال نفسه من انني سبب كل البلايا ولو متُ بدل تلك الطفلة التي ماتت في الرضاعة لكان افضل لأنني اتحمل مصائب كل مامر باسرتي. وانا،كما نصحني العم كارلس، لم انبس باي كلمة ولكن جدتي ما أثقلها تعيد وتصقل.! أهي شريرة! فضلا عن أن سلوكها هذا يبدو لي انها متوحشة.... ولكن افكر احيانا انها اذ تعيد وتصقل ماتقول، لا يكون ذلك دون سبب او باعث، و…، ماذا بيدي أن افعله؟…، يصيبني غم اكثر لانه أنى لي أن أرضى بهذا الوضع؟… رغم انني الان مقتنع بان الامر قد حدث بهذه الصورة. وان أمي تشارك في تعذيبي. وهذا غريب عجيب. ويبدو أن هذا يحملها على التفكير بامور سيئة عني. كيف يمكن أن يكون الامر هكذا، لااقوى على فهمه؛ ولكنه الانطباع الذي يتركه مراقبتها لي وانشغالها بي والحاحها على أن العب حتى دون رغبة مني. ومنذ أن خطر على بال العم كارلس أن يقول أن على الاطفال أن يذهبوا للفراش متعبين، لم ترحمني من اللعب ولا ليلة واحدة. وانها تراقبني على مدار الساعة لان العم كارلس قال أيضا لا يصح أن يبقى الطفل وحيدا لساعات وساعات بمفرده. ألا يكونا أمي والعم كارلس مشمئزين مني وكارهين لي؟ ولهذا اقول أن جدتي لاينقصها البواعث لكرهي…امر اخر: انه امس ناداني العم كارلس وامي، اقول، وتبعتهم وهما يذرعان البيت و كنت اقول لنفسي:ماالمناسبة و ماسر ذلك؟ هل اشتكتني أنخليكا؟وحينما عدنا للصالة وجلسا، امطرتني أمي بسيل اسئلة غريبة: لم انت خامل وشارد الفكر، ومع من التقي في المدرسة وان احدا لم يعلمني الشيطنة والخبث وحين رأوني قد تملكتني العصبية، ادخلوا الرعب في روعي: انهم إن يعلموا شيئا عني فانهم سيحرقون يدي ويرسلوني للسجن. الست محقا بما اقول ؟ المعاناة ليست هينة.لانه كما توضح هذه الاحداث انه اذ يحلم المرء يقوم الاخرون بافزاعه رغم انهم لايعون ذلك

***

…………………..أتساءل لم لم تاتي أنخليكا لزيارتنا؟ هل مرضت؟ واذا ماتت… نعم، نعم؛ أيكون التفكير بذلك ذنب عظيم؛ ولكن من الاولى أن تموت، من يدري، لانه ساموت أنا ايضا وتنتهي قصة حبنا. وما ينقصني ليس انها قررت عدم النكاية بي بل عدم المجيء لزيارتنا. فماذا عساي أن افعل اذن؟ يفزعني مجرد التفكير بالذهاب الى بيتها وعلام اذهب؟ لكي اجدني مرة اخرى مع المشهد ذاته في الحالة التي حدثت لي المرة الاخرى وافعل مافعلتُ؟ لاادري ماذا سافعل؟ يقال أن العم كارلس سيسافر وسياخذني معه. بحق الله أن لايسافر! فماذا سيكون رد فعلي، دون امل حتى لرؤيتها وطلب العفو منها ؟ لانه مازال، يبدو لي، هناك أمل لاصلاح كل شيء. ولكنها لاتاتي، ياالهي، لا تاتي وساموت. اليوم، من شدة تذكري لها، اجهشت بالبكاء اثناء تناول الغذاء، ولانه كان بحضور الكل، فقد كانت فضيحة لان أمي اصابها القلق والغم وعلقت جدتي انه باستخدام السوط والاستحمام بالماء البارد سيترك هذه العادات وانفجر اخوتي ضاحكين وانتهوا يتشاجرون مع بعضهم البعض. لم لم استطع احتواء نفسي والسيطرة على انفعالاتي؟ ياالهي! انني لااشعر ولا ادرك بما افعله. لاادري اين سينتهي هذا. اشعر انني مريض.

***

هذا ماكان ينقصني! ارسل مدير المدرسة مستدعيا أمي قائلا لها أن ادارة المدرسة قررت الاستفسار عن سبب هدوئي. يقولون انني جدي اكثر من المعتاد وهذا ليس بالامر الحسن، افلا يكونون مجانين؟ فالاولى أن يحمدوني على سلوكي هذا. قالوا ايضا لامي أن ناظر المدرسة كان يتجسس علي كل الاسبوع ولم يلحظ أن لعبت ولو لمرة واحدة. انظروا متى ادرك انني لا العب... والطبع قلقت أمي اكثر من اللازم وعادت من المدرسة باكية وحين وصلت البيتُ اعادت علي الاسئلة، وهي تبكي وتبكي، ثم أجلستني في حضنها وداعبتني ولاطفتني واسدت لي نصائح لاتمت للموضوع بصلة. كنتُ احاول أن اروي لها اخيرا كل شيء، لاننا سواء في المصائب والهموم فوجودنا معا يشعر كل منا بالرغبة بان يروي احزانه للاخر. ولكن لم اتجرأ. فمتى تجرأت انا على شئ؟ فما أنا سوى كائن صغير…. وهذا ليس بالامر السئ مقارنة بالقول أن حياتي عذاب … ثم حضر العم كارلس بصحبة الطبيب الذي استمع الى دقات قلبي وفحص ظهري، وطرق بطني باصابعه التي بدت كأنها مطرقة ونظر الى عيوني وجس كل جزء في جسمي ليرى اذا ماكان عندي التهاب … في الوقت الذي كانت فيه أمي تقص عليه انني في منتصف الليل أئن نائما احيانا واحيانا اخرى اقفز في فراشي واحيانا اخرى اتكلم … ماذا كنتُ اتكلم ياالهي؟ لم تقل أمي للطبيب وهو لم يسالها ولكنني دائما كنت فزعا. اه وسالني الطبيب تلك الاسئلة التي تفقد الصواب وحرتُ جوابا لها. وامي تقول: "اجبه يا ولدي" واذ كنت لاافهم اسئلة الطبيب فأنى لي أن اجيب عنها. أصابني الخجل لأنني اعتقدتُ انهما يسعيان لان يمسكوا شيئا ما علي ولهذا يداخل المرء الاضطراب رغم انه ليس مسؤولا عما حدث. واخيرا قال الطبيب :" ليست حالته جدية لاتهتمي فكل ما في الامر انه قليل النشاط وخامل وعلى مايبدو انه سيصل البلوغ مبكرا جدا "أيعجبك أن تكون رجلا قبل الأوان؟ آه، قفز مني القلب أجبته حالا نعم. ولقد افرحني قوله انه ينبغي النهوض الساعة السادسة… ماذا يعرف هو!… وان استحم وان يفركوا جسمي بماء القولونيا فضلا عن تناول الأقراص التي وصفها. وان امكن أن ياخذوني للريف للنزهة حتى وان اضعتُ الفصل الدراسي. وعندما كان الطبيب قد غادر، قال العم كارلس: حسنا. قررتُ أن اصطحبه معي". يريد أن يشرع سفرته ويأخذني معه. ولهذا فأموري تسير من سئ الى اسوء. حسنا لان كل هذا هو عذاب لااجد سببا لان أتحمله. وعقب عدم رؤيتي لمليكتي وقضائي وقتي وحيدا مهموما وعقب قلة شهيتي اذ لا اكل إلا لتجنب إلحاح جدتي ولكي لا تتعذب أمي التي تطعمني الحساء بنفسها وتقطع لي وذر( قطع) اللحم، علي أن اكون متنبها ويقظا لرغبات الجميع وهذا أمر لا أطيقه. فاحيانا عندما افقد وعيي، بعد طول معاناة، يبدو لي انني سأظل نائما حيث أنا. لو عرفت كل هذا يامليكتي، إلا تريدنني وتحبيني؟ والى اين يريد العم كارلس أن يصطحبني؟ لن اذهب وساعترف له بسبب بلواي. نعم، هو انسان طيب القلب وذكي ويحببني كثيرا، يجدر به أن يعرف مامعنى الهم والغم والحزن لسبب بسيط انه يحتفظ بدفتر يوميات حياته؛ ومن يعرف لعله يتكلم مع أنخليكا ويرجوها أن لاتدعني اموت وان لاتعير اهتماما الى ذلك المتوحش وان تنتظرني قليلا ليس إلا، حسنا لان الطبيب قالها وسابلغ مبلغ الرجال قريبا…. ساقول ذلك الى أنخليكا وان لم استطع علي أن اتسلح بالشجاعة واكلمها أنا شخصيا حتى لو اصابتني سكتة عند رؤيتها.

***

………………….. ماعدت احفل بان ابتهج وافرح، لانه في كل مرة انتظر فيها شيئا يفرحني، ينقلب غما. ولهذا اصبح الحزن أنيسي. وفي الختام ساراها فقط. اه ‍! أي غم وكبد اعاني! فمنذ أن قالت أمي بعد رجوعها من الكنيسة أن يوم السبت يصادف يوم القديس الذي تحمل أنخليكا اسمه، ورجوتها أن تاخذني معها ووافقت لكي تروح قليلا عني، لا اعرف ولاادري ماذا اصابني. سنرى

***

 

لاادري لماذا الان، اذ تزداد عذاباتي اود منها المزيد وان تدهمني النوائب التي تهد الجبال وان أتوفى في النهاية … وان تعرف هي ذلك، نعم….لانه ليس هناك مخرج، فقد سُدت كل الابواب: فقد اخبروها انني عليل ولم تتكرم بالمجئ ولو لبرهة. وهذا لايعني سوى انها قاسية القلب، اقول. ويجدر بي أن اكرهها ولكن احبها الان اكثر من أي وقت مضى. وانه لحق انني بوضع خطير. لو مت واخبروها انني مت لأجلها ! … أن ما يفزعني هو تلك الحالة اتي تصيبني دون سابق انذار. أهو هذيان وتخريف؟ قالوا إنني امضي الليل اهذي. رغم انني لااتذكر ماحدث البارحة، الى أن اتوا بي للبيت، واقول لو كان هذا الذي ينتابني الان هو الهذيان، لتذكرت ما مر بي البارحة. فما هو هذا الشئ الغريب الذي ياتيني؟ يداخلني الخوف. فلولا الرغبة العارمة لتسلية نفسي وتعزيتها بقراءة يومياتي، لكنت قد أيقظت جدتي التي تنام الى جانبي ترعاني بينما ترتاح أمي لانها سهرت طول الليل ترعاني. فما هو هذا الشيء ؟لا أتجرؤ النظر للنافذة لأنني في الحال انسى نفسي عندما انظر الى سلسلة الجبال اذ تندلع السنة النيران من تلك التلال وتكتسي السماء بالوان عدة ثم يخرج من بين شعلة النار شيء كبير ويهجم علي ليسحقني فاشرع بالصراخ فزعا ساعيا للهروب ركضا؛ وحينها لااقوى على الحراك وتشل حركتي، مستمرا بالصراخ وبعدها…. اغط في نوم عميق ناسيا كل شيء. اقول انه ليس الهذيان لأنني اتذكره بيما لااتذكر تلك الامور التي ذكرها اخوتي. اتذكر فقط اللحظة التي اتوني بها للبيت، فهذا لايمسح من الذاكرة.

 اصطحبتني أمي الى بيت انخليكا، وكان هناك جمع من البشر في بهو الضيوف وحين وصلنا كانوا قد انتهوا من تناول الطعام ولكن ظلت المائدة منصوبة وعليها قطع الحلوى والمثلجات والمشروبات حيث اخذتني الخادمة الى هناك. وبعد قليل اخذتني أمي للسلام على انخليكا وتهنئتها بيوم قديسها ووقتها شعرت بالعذاب اكثر من ذي قبل. استقبلتني ببرود وقالت لي أمي قبلها غير انني لم أتجرئ اذ زاد انفعالي واضطرابي فبدأت ارتجف وارتعش. ولم تجب سوى بأهلا، "هل جئت انت ايضا للسلام علي. حسنا فعلت". ولكن لم تطبع قبلتها كالمعتاد. فقالت أمي "ولاحتى مجاملة ياولدي، قبلها، افلست تحبها كثيرا". ثم شرعت أمي تقص عليها اسباب مرضي وخمولي وان مغصا اصابني وامورا اخرى. وازداد انفعالي اكثر عندما روت لها أمي عن حالتي ولكني فرحتُ في الوقت ذاته حتى تعرف انني كنتُ مريضا لأرى هل ستتألم لحالي وستعود لي من جديد فضلا عن انه ليست لدي الشجاعة لاروي لها بنفسي. حسنا، بالكاد تحدثت، لاادري عن المغص. ووقتها داخلني هم عظيم... رغم أن أمي شرحت لها بالتفصيل كل شيء وفهمت انه ليس المغص الذي يقض مضجعي وانما حبها وحادثة ذلك اليوم. لم تنطق باي شيء حتى على سبيل المواساة لي سوى "اذهب يا مسكين بينما هي تنظر للمراة التي خلفها كما لو انها لاتسمع او كما لو انها كانت تفكر بشيء اخر. واستمرت أمي توضح لها اكثر فاكثر تدهور حالتي وهي لاتجيب سوى نعم، صحيح مسكين تقولها بلا مبالاة. ولهذا أغضيتُ طرفي عنها ايضا لانها تجاهلت وجودي الملآن بالحزن وماكانت تنظر لي ولو انها كانت تفعل ذلك لتوردت خدودي وهو مايصيبني حين ينظر لي احد وانا لاانظر اليه. اتستحق المسامحة؟

مرت بي لحظة خفت فيها أن تشتكيني لامي غير انني فهمت انها لن تفعلها بل على العكس كانت مضطربة كما لو كانت تود الذهاب الى مكان اخر للتخلص من هذا الموقف الحرج بسبب انزعاجها من وجودنا. لكن أمي سامحها الله استمرت بالحديث وعادت تقول قبلها ياولدي. طرقتُ ببصري الارض والحسرات تملاني والخجل وانتظرتُ مثل ابله لاارى أن كانت ستطلب هي ذلك مني. لم يحدث شيء. ابتسمت ابتسامة مصطنعة وعادت تنظر ثانية للمرآة وسرعان ما نادت على الخادمة لتأخذني لغرفة الطعام بينما هي ذهبت مع أمي ولااعلم الى اين. واجتاحتني رغبة للبكاء لأنني ادركت انني بقيت وحيدا وان حياتي اصبحت بلا معنى للابد ودون شعور مني اخذتني الخادمة من يدي.

قدمت لي بعض الحلوى وطلبتُ أن تسقيني عصير الليمون. نعم اتذكر ذلك واتذكر ايضا انه كان هناك بعض الرجال في غرفة الطعام يتهامسون الحديث منتشين ويتراقصون على ايقاع لحن خفيف ويتوسطهم عجوز يرتدي نظارة صفراء اللون ووقتها كنت انظر متسمرا الى لوحة على الجدار مطرزة يدويا وفيها يبدو رجلان شبه عاريان يسعيان في اثر خنزير بري شرس... وبدى لي هذا الخنزير كانه كائن خرافي يخرج من بين التلال او قمم الجبال... لاادري بالضبط. حسنا.. مر طيف وشبح... واعلمني به قلبي لأنني قفزت وانا جالس في الكرسي... ورأيته يجتاز الباب الاخر لغرفة الطعام وكان ذلك الشبح المريع هو خورخه.

لاادري ماذا فعلت انذاك وما كنت اتذكره هو انني وصلت البهو وحدي واذ دخلته خرج خورخه وانخليكا من الرواق. ظننت انني سأسقط ميتا. ارتخت عضلات ساقيي وداهمني ذلك الالم الذي يطرق دماغي فامسكت بستائر النوافذ الى أن استعدت شيئا من قواي المنهوكة ثم اطللتُ براسي على الرواق ورأيتهما ممسكين بايدي بعضهما ‚ يذرعان الرواق جيئة وذهوبا.. حينها تملكني الغضب والقنوط وضاق صدري. ثم اتذكر لأنني كنت مركزا في خورخه كيف يحرك ذراعيه وانا لااعرف عمل ذلك لأنني مازلت طفلا. فجأة وقفت هي امامه واخذت تعدل له ربطة العنق وهو يمسكها من ذراعيها فتتملص منه متراجعة للوراء إلا انه ينحني ويقبلها في وجهها.

عندها لم اتحمل المزيد إذ دار بي البيت ثم انفجرتُ باكيا وخرجتُ راكضا لا الوي على شيء ووصلت غرفة الطعام دون أن اعرف لماذا واختبأتُ تحت المنضدة. كنت وقتها ابكي صراخا فاجتمع الكل من رجال ونساء على صوت صراخي يريدون أن يعرف ماذا دهاني، يتساءلون ماذا حدث. وأمي كانت مثل مجنونة لا تعرف ماذا تفعل. كنت ادفن رأسي بين ذراعي وابكي بحرقة متمنيا الموت. ولما كان يسعى احدهم لاخراجي من تحت المنضدة كنت أقاومه رفسا بقدمي. إلى أن تقدم رجل وانحنى متناولا قدحا من على الارض وشمها وجعل الاخرين يشمونها ثم قال " هذا هو الدليل. لقد اعجبه طعمها". فانفجر الجميع ضاحكين واخرون يقولون لان طعمها حلو اعجبتني واخرون يقولون أن دموع السكارى هي أسوأ الدموع و انه مخلوق مسكين وانه لأمر مسلي ومضحك وملايين التفاهات بينما لم اتمالك نفسي من البكاء فاشعر بنوبات من البكاء ثم نوبات مثل فواق يغرقني ويحطم مني مكامن العاطفة. اخيرا فقدت أمي صوابها فقرصتني وأخرجتني بالقوة وقفلت بي راجعة للبيت. ثم… لاادري اكثر من هذا سوى انني محموم فقضيت الليل انطق بتلك الكلمات التي يتحدث عنها اخوتي.

***

عند هذه المرحلة تفقد اليوميات سياقها وتبدو متناقضة للحد الذي تصبح غير مفهومة فيما تبقى من سطورها. اجهل كم يوم مر بعد كتابة اخر نص فيها، إذ ألقت لي الصدفة هذه المذكرات المؤلمة والشيقة. بامكاني القول أن عصر احد الايام رأيت صديقي كارلس رومرال تعلو وجهه الكأبة فاصطحبته لعيادة المريض. كانت لحظة من أشد اللحظات مرارة في حياتي.

في ردهات المرضى، كل اوقات العصر حزينة غير أن ذاكرتي تختزن عصر ذلك اليوم مثل جرح طري غائر في جسد حي متقيح وينزف باستمرار. وحتى الان يعتصر قلبي كرب وهم لايطاق عند تذكر الظل الذي نتلاشى فيه جميعا باعتبارنا متفرجين، وتلك الكوة في السقف التي ترى من خلالها السماء الزرقاء الكئيبة ويطل منها من وقت لوقت طيارة ورقية صامتة، ولون الفراش الازرق الغامق المخطط الذي ينتصب فيه منسيا جسد المجنون الذي لا يتوقف عن الكلام متمتما منولوجا حانقا. وجنبي كانت جدته التي تدمدم عندما تبكي، متحركة بجد ونشاط مرتبة قناني الادوية؛ اما صديقي كارلس رومرال الذي كان جالسا على كرسي، كان يقضم شاربه بعصبية و قنوط وعناد وانا استمع الى القصة التي ترويها أمه عن مرضه.

كانت تتكلم بصوت خفيض كئيب ولكن محموم وبحرقة، تسوقها تلك الرغبة اللامنطقية، التي تسكن المنكوبين، في تذكر وبتفصيل مؤلم مراحل مرض ابنها حتى بلوغه الازمة التي قادته للمستشفى. قد بكته أمه كثيرا والان يجذبها ويجرجرها، سر غامض من اللامبالاة والشرود وربما امل ضائع تحتمي به،لان تروي تلك الأيام المرة التي عاناها اخر العنقود المنكود الحظ. كنت اصغي لها باهتمام وما ادري لماذا؟ هل كان تأدبا من طرفي او لكي اريح اذناي من منولوج المجنون المزعج. وللحظات، أحسسنا همس الأطباء في الغرفة المجاورة؛ فتوقفت الام عن الكلام واستطعت أن أقرأ في نظراتها التائهة امل أولئك الضعفاء الحزانى. وما أن تلاشت الضجة حتى عاودت من جديد روايتها.

 في بداية مرضه اصابه هذيان الخوف والرعب الذي ينتهي بتقلصات ومن ثم تختفي الحمى ويعود الى رشده للحظات ليس إلا؛ ثم يصبح هذيانه رتيبا مستمرا. كان رعبه يبتدئه رؤية خنزير بري ذي عيون مدورة وشاربان كشاربي انسان، ثم ينقلب الى نزاعات سخيفة عن نظارات صفراء وحوارات عن اجراس تمضي طائرة عائمة في الهواء والتي تهوى بعدها مثل قطرات المطر في بحيرة خيالية.

واختتمت الام حديثها قائلة: اليوم كان موضوعه الوحيد عن النواقيس. فلم يذكر اسم احد ولاحتى اسمي. لايعاني كما ترى،على العكس، يبدو انه كان يتلذذ بهذيانه. فسروره هذا اللامنقطع يفزعني ويروعني.

 ثم سكتت غارقة في دموعها.

مرت لحظة صمت مطبق رهيب وثقيل. وفجاة استأنف المجنون مواله. ذلك الصوت الحزين الساحر كان يسائل تلك النواقيس الخيالية معنى إيقاعها. وللحظة التقت نظراته بنظراتي، واذا بذلك اللمعان المعدني المشع من عينيه يطعن أحشائي مثل خنجر مسموم. استجمعتُ قواي وابتسمتُ له واجابني بقهقهة المجانين المؤلمة و بضحكاتهم المتشنجة ثم تمدد في فراشه ودفن وجهه في أغطية فراشه.

وفي تلك اللحظة سقط دفتر يومياته، الذي ربما كان تحت وسادته، قربنا وبصورة آلية تعجلتُ لالتقاطه فقرأتُ على غلافه: التاريخ والجغرافية للصفوف الاولى ولانه في تلك اللحظة عاد الأطباء، تغافلتُ وخبأتهُ خلفي ودون أن اشك بالسر الذي يطويه الدفتر، طوتهُ أصابعي بحنان بينما كان انتباهي مشدودا إلى ما يشرحه الاطباء عن " الاثار الضارة للكحول على دماغ الأطفال".

فهمت من تلك المحاضرة أن لاشفاء له.

دقائق بعد ذلك كنت اجتاز الميدان الرئيسي في طريقي لبيتي فتذكرت فجأة انني أحمل دفترا معي وبحركة آلية شرعت بقراءته..

 وما أن انتهيت منه، واذا بنواقيس الكنيسة قد بدأت عزفها الليلي الحزين وبينا أنا شبه مصاب بموضوع الجنون، شعرت بالنواقيس تتهاوى واحدة إثر أخرى مثل دموع إنهمرت بغزارة، على قلبي.

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2278   الاحد    18/ 11 / 2012)

في نصوص اليوم