نصوص أدبية

رحيل خريفي / موسى غافل الشطري

لبيوت واطئة كأن فرامل العربة، أيقظت أبوابها، من قيلولة. فأصيبت بدهشة، ذات ذعر. كأنها هرعت لتلوذ بعضها ببعض. وتطل ببلادة الى الوجوه الوافدة.

تثاءبت ألأبواب. . ساكبة زفيرها مع تلك النسمات الفاترة. الزقاق خلولم تن حماوة ظهاريه الشائخة، تتوكأ. جاهدة نفسها، لكي تجتاز رمضاءها. وتحذف هجيرها المحرق.

كانوا توّاً يهبطون، فتتابع الوافدون: ألأبن يجرجر طفليه بصمت. وتحفز فيه وجل. ووالدته: في دأبها تثاقل، وإرهاف شديد، متوجس. والكنة: تتأبط حاجياتهم.

إجتازوا فناء الحوش. فبدت بوابة الغرفة منفرجة قليلا. دلفوا تباعا، ليباغتوا بالمريض وحيدا. جسده في سكينة. كأنه يكابد إهمالا مزمنا. فلم تشرّع منافذ مأواه، فلاحت عتمته موحشة. وهواؤه. . عتيقا فاسدا.

أسجي المريض، مستلقيا على قفاه، وقد دثر بغطاء خلق عتيق. فلاحت أجواء المجتمعين. . يكلكل عليها الصمت. وقبل أن تأخذ الزوجة الكبيرة، وقتا تخلد فيه للراحة، من سفر مضن، هرعت الى مصاريع النافذة وشرعتها.

كان واضحا : أنها ضاقت ذرعا بما هوواقع. وبدا إبنها يرقب ذلك بطول بال: لكون والده قد أهمل على نحوقاس.

حضرت الزوجة الصغيرة بخطى متباطئة. وحيّت الجميع ببرود. . مراقبة على مهل. . ما تفعله ضرّتها، فإتجهت الى غرفتها بصمت.

حقا. . بات من اللازم أن يتجدد الهواء، حتى يتسرب العفن خارجا ويكون الهواء رائقا. لكن. . هناك ما ينبغي عمله. منها مثلا: تغيير الفراش والشراشف. وبالذات شرشف الوسادة، الذي بدا داكنا. كذلك الغطاء وخلع ملابسه بكاملها، وغسلها جيدا وتهيئة إناء كبير من الماء الدافيءلأستحمامه رغم إن هذا قد يغيظ الزوجة الصغيرة. لكن. . هذه أمور. . لا بد أن تتريث وتنجزها دون إبطاء.

كان الراقد بالكاد يجهد نفسه، لملاحظة ما يجري. متطلعا لولده بذاكرة خائنة. إذ لم تساعده على معرفة الكل. في حين جلس الولد الى جانبه، متحسسا عصب يده الضامرة. وألأوردة الذاوية.

فعل ذلك قائلا. . بصوت واطيء، كأنه يتحاشى. . أن يؤلمه بكلامه:ــ

كيف حالك يا أبي؟

قال ألأب مكابرا:

- العافية بيده.

قال ألأبن :

- هوالمعافي. . هل تعرفت علينا يا أبي؟

إكتفى ألأب ببسط يده. . . مظهرا جهله.

قال ألأبن:

- هذا أنا ولدك. وهذه أمي وزوجتي.

بكت ألأم فقال الأبن:

- ستغيّر أمي وزوجتي كل هذه ألأشياء.

أجهد ألأب نفسه ليقول:

- ألحّت زوجة أبيك. . لكن. . لآ أقدر

قال ألأبن:

- حسنا يا أبي. . هي طيبة. لكن. . لاوقت لديها.

ظل ألأب ينتكس، فيغط بغفوة طويلة.

أشارت الزوجة الكبيرة الى الكنة، لتسرع بغلي الماء، وإبدال ملابسه.

قالت الزوجة الصغيرة للكنة:

- أرأيت؟ إنها توحي بحرصها أكثر مني. لماذا لا تأخذه معها؟

قالت الكنة التي تحظى بعلاقة طيبة مع الضرتين:

- ولكن حالته متردية، وملابسه بحالة سيئة.

قالت الزوجة الصغيرة:

- إذا كان ألأبن حريصا، فليصحبه معه. فأنا أمرأة وحيدة، ولا أدبّر أمري.

قالت ألكنّة:

- دعي الهذر وإعطني اشياءه.

هتفت الزوجة الكبيرة بكنّتها

- أين سرحت أيتها الثولاء؟

جمعت زوجة ألأبن أشياءه. هيّأت القدر. ووضعته على الموقد. وطفقت تسرع الى المريض.

قالت العمّة:

- إ سرعي وأطلبي من الثولاء الثانية، قليلا من الحليب والرز، وهيّئي حساء. قال المريض بصوت مُجهدّ:

- لم. . تكن ثولاء. . لم تقصر.

 قال ألأبن بصوت رقيق:

- يا أبي. . هي لم تقصر. ولكن عليك أن تضع شيئا في أمعائك.

قالت الزوجة الصغيرة - أمام غرفتها- للكنة:

- ويأكل؟!

وبّختها الكنّة:

- أو. . . . . ه ما أقساك!

بعد أن هيّأت الكنة الحساء: أسرعت بالماء الدافيء.

قال المريض بكلمات واهنة متقطعة للكبيرة:

ماالذي. . تفعليه. . أيتها المرأة؟

قالت:

ــ لا عليك ــ أيها المسعد ــ ساعدني فقط على خلع ملابسك.

قال:

ــ هي. . أيضا. . الحّت. . لاأستطيع.

قالت :

ــ حسنا. . إتّكيء عليّ.

اومأت أن يغادروا. خرج الولد والكنة وألأطفال.

أغلقت الكنة مصاريع النافذة، ومن ثم الباب. وشرعت الكبيرة تخلع ملابسه. وتدفع بهن من خلف الباب.

أول ما لاح لها: ذلك الجرح، الغائرخلف كشحه. كان أثرا لخنجر أخيها: بسبب هيامه بها. إستمات لكي يفوز بها.

كان يتجاوزها بفارق زمني واضح. جازف بحياته مرات عديدة ولم يفض ألأمر. إلاّ بزواجه منها. فزوّجوها لقاء ما يملك. من ماشية وحصان وغير ذلك. لم يبق لديه: سوى عباءة ليس غير. يتدثران بها شتاءا. وفي الصباح يرتديها ويمضي للحقل.

كم من زمن إقتضى ليشفى؟ مررت يدها هناك فتحسر. كأن أيّامه قد إستيقظت. لاحظت إن الجرح كامن. . تحت رهال إهابه لاحظت أيضا. . ضمورا ما إلفته من قبل، لتينك المنكبين العريضين. وأردافه. . نا تئة العضام وضامرة.

قالت :

ــ إتّكيء عليّ.

أخرجت قدميها وحررتهما من ثوبها، لكي توسع مساحة لأسناده. وزحفت بالطست بينهما. وأنعمت نظرها بالجسد الذي لم يعد تربطه صلة بتلك المتانة. ولا حتى للأيام التي تزوج بها الصبية، التي ما أتاح لها أن تتبحر بخفايا جسده. أخفى عنها ملامح هرمه.

وحتى في أهماله الكبيرة، ظلّت هي البادئة، على خفاياه لوحدها. مراقبة ــ آنذاك ــ عن كثب: كيف يذوي ذلك الجسد. وكيف تبصمه تلك السنون، ببصماتها القاسية. وكان ركونه إليها يسرّها. فهويقر ّ، رغما عنه بأنها رفيقة دربه. لإي شبابه شيبه وضنكه.

ومنذ أن تلفعا بعباءة واحدة، وحتى هذا اليوم، لاحظت برؤية دقيقة تفاصيله

دعمت بذراعها اليسرى كل اضلاعه، من اليسار الى اليمين. وأمعنت بتدليك جسده. . كأنها سيدته. كأنها تجلوه، لكي تعثر على عمرهما وغبرته، مثل طريق شائكة، تعرف مسالكها شبرا. . شبرا.

ضغطت بيسارها، كي تسنده أكثر الى صدرها، بينما تسربت حرارته، عبر ثوبها المخضل، بنداوة جسده. وتذكرت تلك ألأيام القريرة، وجسداهما يتلفعان بعباءة واحدة. وتحت دثارها. . ألفت رفقة صادقة، وحنانا صادقا. وذلك ألأنثيال، لنثار الحب الذي ما كفرت به. وما وهنت قناعتها: بأن قصور الدنيا لا تضاهي لياليه.

كم تغيرت ألأشياء ؟؟ كانت ــ حينذاك ــ فتاة رقيقة، ناعمة. هادئة الطبع. مطيعة. وكانت. . تستلقي على ذراعه، أيام الدفء. وتتلفع بدفئه أيام البرد.

دلقت على رأسه كاسة من ماء دافيء. دلكته، صانعة من رغوة بيضاء. إنداحت رائحتها طيّبة.

سكبت أخرى دافئة. تسرب دفؤها الى جسدها، بحيث أحسّته يهبط، جاريا بحرارته، وسط برودة الماء السابق. . . وينحدر ممعنا بين ردفيها.

قال المريض بصوت أنعشه الماء الدافيء:

ــ دلّكي ظهري. . كم قسوت. . عليك؟

قالت:

ــ لاعليك. إترك تلك ألأمور. .

قال:

ــ برّئي ذمّتي.

قالت :

ــ برّأتك. . .

قال:

ــ وأنت كذلك.

واصلت الذراع اليسرى إحتضانه، وأحكمت ساقيها، متلافية إنبعاج الطست. وأحاطت بهما جسده. أمعنت بتدليك الصدر. والبطن، والذراعين. ومناطق أخرى. ثم أبرت الوجه برغوة لكي تزيل تلك الغمّة.

كانت فرعتا ظهره، يتقوسان إلى أمام. والخندقان يغوران على نحومحزن. ورغم هذا لم يتغربا عنها. بل عادت إلفتهما. وأحست إن دموعها همت. وتلاشت مع إنزلاق الرغوة. وإقتربت شفتاها : من منخفض الترقوة، لتحسس المريض. . بحضور عاطفي كامل. قال:

 ــ أحس بإرتياح.

لم تجب. . . بل أعطت حيزا، لكي تنحرف بالطست، على نحومغاير. وتُمعن بتدليك الظهر، والمناطق الخلفية السفلى.

أراح حنكه على كتفها ألأيسر ــ عند الترقوة ــ بحيث. . دعمت خدّه الملتحي بحنكها. . مقتربة لقذاله، بشفتيها. مسوّرة جسده بركبتيها، ثم قالت:

 ــ هل أنت متضايق؟ أأترك حيّزا تأخذ نفسا؟

قال بصوته الواهن :

 ــ إستمرّي.

لاذت ملابسه النظيفة ــ التي استحضرت ــ خلفها.

 نادت الكنّة على العمّة، من خلف الباب:

 ــ هل تحتاجين شيئا أيتها العمّة؟

قالت :

 ــ لا أحتاج.

كانت ذراعا المريض، تزحفان بعناء لكي تستلقيا على عطفيها، وبدا جسده على نحو واضح، مدعوما بزندين سافرين، يستلقي رهال لحمتهما اللدنة على جسده، بشكل يوحي اليه، بإلفة مفتقدة، ونسمة شفيفة من إثارة لمشاعره الكابية.

قالت:

 ــ كيف أصل الى أسفل جسدك؟

عَبَرَت بساقيها. وسط الطست. حاوية إيّاه، بكلتا ذراعيها، لاصقة قدميها بالتعاقب. متّكئة الى الخلف، بحيث : أمسى بإمكانها، أن تمرر يديها بالصابون الى أسفل. وخرطت بعناية دائبة، تلك الظُلمة، وعلى نحوسريع. مارّة، بإمعان حتى طرفيه.

قالت الكنة من خلف الباب:

ــ أتحتاجين ماءأ دافئا أيتها العمّة؟

قالت:

ــ لست بحاجة.

 سكبت الماء على قمّة الرأس والوجه. سكبت على الصدر. سكبت على الظهر. مُتيحة للماء أن يندلق، من صدرها على الثديين، الى حوضها وبين الردفين.

رفعته بنصف إستلقاءة. منحرفة عن الطست. دافعة إيّاه الى أمام. وشرعت يداها تمّرّان بالمنشاف: من قمّة رأسه حتى قدميه. ثم إمتدت يمناها، لاقطة ملابسه قطعة قطعة. متيحة لنفسها :أن تتريّث، وتأخذ نفسا هادئا، يفعمها. . ذلك العطر المنبعث من جسده، وفروة رأسه.

إكتست الوسادة، بشرشف نظيف. الفراش والغطاء كذلك. . أراحته على فراشه وغطّته. طلبت مشطا لتسرّح شعر لحيته، وفروة رأسه، فبدا بوضع أفضل.

نادت على الكنّة ثانية:

 

 ــ إسرعي يا بنيّة.

فتحت الباب. . وقبل أن توصده. . لاح الفيء وقد زحف في فناء الدار، ناءت الكنّة بثقل الطست.

قالت العمّة :

ــ ناوليني مكنسة أيتها النادرة.

قالت الكنّة :

ــ خذي راحتك، وإستبدلي ثيابك بهذه.

قالت العمّة :

ــ فدتك عمّتك أيتها النادرة.

عادت الكنّة بالمكنسة. كنست بخفّة، وعلى نحوهاديء وسريع. ثم دفعت بنار متوقدة. أوصدت الباب. ونثرت الحرمل والبخور، لكي يكون الملاذ عبقا ومنعشا. رتّبت ما تبعثر من محتويات الغرفة. ساعدت عمّتها على خلع ملابسها وإستبدالها بغيرها. اُعيد فتح الباب والنافذة.

كانت عينا المريض تتفرّس بالوجوه. زوجته الكبيرة وإبنه والصغار.

قال ألأبن مخاطبا أباه:

ــ أمرأة أبي تنتظر هناك، حتى ينجز الطبخ.

قال ألأب أنا جائع.

هرعت الكنة، لكي تنبيء الزوجة الصغيرة

قالت الصغيرة :

ــ وطلب أكلا؟!!

قالت الكنّة:

ــ يالك من قاسية!. . أتعلمين إنك غائبة عنه؟

تذوّقت الكنة ألحساء وصاحت :

ــ ملح. . قليلا من الملح.

 رشّت الملح وخاطت بالحساء فصار جاهزا. أحضرت الضرّة الصغيرة. . إناءا وملعقة.

قالت الكنّة:

ــ يحتاج لفترة حتى يبرد. لاتجعلي الناس يغتابونك يا أُخيّة. إ حمليه بنفسك.

 أعان الولدأباه. لكن ألأم : طلبت أن يسنده الى حضنها. وبدأت تنفخ بالملعقة. كان المريض ينصرف بعينيه الى الصغيرة. والتي أقعت عند الباب، حاشرة ذراعيها تحت شالها. مُتّكئةعلى كفّيها، المنكفِئتين على ركبتيها. الواحدة فوق ألأُخرى.

قال ألإبن:

ــ لا تجلسي هكذا يا زوجة ابي. . تعالي هنا.

تململت، وظلّت مقرفصة. بقيت عيناه،مشبوحتين الى إقعائها. وهباء الشمس يربض أمامهما. إستمرّت الكبيرة تطعمه، فأشار بيده معلنا كفايته.

قالت الضرة الكبيرة:

ــ هل تحلق وجهك؟

هزّ رأسه رافضا. أسجته على فراشه. بدا وجهه نظيفا وممتقعا. ظلّت عيناه تبحثان.

قال ألأبن:

ــ إقتربي منه يا زوجة أبي.

زحفت بإتجاهه. جاعلة هباء الشمس يسقط على كتفها.

قال ألأبن:

ــ إنه يبحث عنك.

إقتربت. . سقطت يده الى جانبها. تحاشت أن تمحي المسافة مع اليد، التي بدت خابية الحركة. عزفت إرادتها أن تعود الى جانبه.

قالت الكنّة :

ــ إ نه راغب. . أن يمسك بيدك. إقتربي أكثر.

 طرأت على الكنّة تلك الذكريات الطفولية. فقد تزوجته الصغيرة، بعمر مبكر. قبلها كان ذا لحية مضمخة بالحناء. تذكرت الكنة أيضا: كم هي صاخبة وعنود، كيف تستأثر بالدمى الجميلة؟

 دائما. . تبحث عن العروس والعريس ألأجمل. كم حطمت من عرائس لغيرها ؟ كأن الكنّة، ترى ذلك بوضوح. إذ. . تلوح لها العرائس مستلقية بكاسة، تنزلق على أمواج النهرالمتدفقة. والصبايا والصبية يزغردون.

ألأولاد على الضفة اليمنى. والصبايا الى الشمال. وفي النهاية يقفز ألأولاد بجانبهن. حاملين العرائس، داخلين بهن على البيوت التي هيّؤوها على جرف النهير.

 كم أبكتها. . ودافت دماها بالتراب؟ وكم هي ألآن متضائلة وبائسة؟ كأنها غلبت في نهاية المطاف؟

كان الهباء ينزلق من كتفيها. وينسكب شيؤه. زاحفا بين المجتمعين. . بفيض من الحزن.

إنتبهت الكنة الى حركة مريبة، صدرت عن العمّة. لاحت شفة المريض تقصر. ومنخراه. . يرتجفان. ووجهه مائل الى الشحوب.

 أشارت الزوجة الكبيرة الى إبنها :

ــ ساعدني. . على أن نُقبّل رأسه، في الجهة الصحيحة وإجلس خلفه.

 همت عيناها وأنّت بصوت خفيض، سرعان ما تعالى. وإنتحب الباقون. دأبت يده الراجفة، باحثة عن شيء. إ ستمرّت الظلال. . زاحفة على الجدار المقابل. أوحت ملامح الفيء. . أن الشمس الغاربة،ماضية في ألأفول. والظلال. . يهبط بدثاره. . على رحبة المكان. والملامح. . توشك. . أن تندرس.

19/7/2000

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2286   الاثنين   26/ 11 / 2012)

في نصوص اليوم