نصوص أدبية

خروج / محسن العوني

"وقال لي: سمّيت وليّي وليّي ..لأنّ قلبه يليني دون كلّ شيء..فهو بيتي الذي فيه أتكلّم"

النفري "المواقف والمخاطبات"

 

خرج من مقام اختبارهم خروج إبراهيم من نار النمرود وهو يجد في خاطره  "من لم يأنس باللّه قضّى حياته في وحشة" ..استوقف التاكسي الجماعي ..صوت المغنّي ينبعث من المذياع " البارح البارح كان في عمري عشرين عشرين " ..انتبه من شروده على صوت السائق يسأله : إلى أين يا أستاذ ؟..لم يجد إجابة..فقد كان يسير سائحا إلى غير غاية محدّدة..وجد نفسه يقول للسّائق الذي كان يحاصره بنظراته : إلى نهاية الخطّ ..من هناك ستبدأ رحلتي!!..

 

دنيـــا

رجل طويل مهيب لافت للانتباه ..قد نما شعر ذقنه ..في عينيه عزم وتصميم ..ظاهر القوّة رغم شحوب وجهه وتواضع مظهره ..يلبس قميصا أبيض وسروالا أزرق .. يضع في فمه صفارة  قد شدّت بخيط إلى عنقه ويمسك بيده اليمنى لافتة ..رآه وقت الظهيرة عندما يغادر الموظفون في الأرض مكاتبهم ..والمسؤولون بلا  مسؤولية مقرّاتهم ..والعمّال الكادحون مصانعهم وورشاتهم ..والطلاّب مدارسهم وجامعاتهم..وقد اشتدّ الحرّ واكتظّت المحطّات والمواقف بالمسافرين العائدين إلى بيوتهم وكأنهم محاربون يبحثون عن استراحة في عاصمة لا تعصم  المهمّشين والمشرّدين الظامئين الباحثين عن ظلّ عمود يحمي رؤوسهم المصطلية من لظى الشمس والحرمان..رآه يتقدّم من الكتل البشريّة الواقفة على جادة الطريق بصبر نافد ..بعضهم يرفع يده مستظلاّ بصحيفة أصدق ما فيها تاريخ  صدورها ..والآخر يضع فوق رأسه محفظة أو حاملة  أوراق ..وآخر يضع منديلا ليخفف  من  وقع  شمس لا ترحم .. وآخر يمسح العرق المتصبب من جبينه أو رقبته.. فيعمد إلى إطلاق صوت صفارته بطريقة فيها الكثير من الحرفيّة والمهارة والطرافة  أيضا ..وبمجرّد أن تلتفت نحوه العيون الفضولية وتتركّز عليه الأنظار المتطلّعة ..يرفع نحوها صدر لافتته التي كتبت عليها عبارات بخطّ واضح سهل القراءة ولو من بعيد..وقد جاءت العبارات على ثلاثة أسطر :أنا لا أطلب حسنة / أنا أطلب حقي / دنيا فظيعة ..!؟؟ كان يكرّر هذا الصنيع كلّما رأى كتلة بشرية كبيرة .. فجأة توقفت سيّارة بيضاء نزل منها رجلان بسرعة وتصميم وهما يحملان أجهزة اللاسلكي..وظلّ ثالثهما في السيّارة أمام المقود .. توجّه أحدهما نحوه مباشرة وكأنه كان يبحث عنه ..وبحركة عنيفة مدروسة افتكّ منه اللافتة وسلّمها لزميله الذي وضعها على المقعد الأمامي بجانب مقعد السائق وكأنها مجرم خطير لا مجرّد لافتة ..وأمره أن يركب السيارة وهو يلوي ذراعه ويدفعه دفعا نحو المقاعد الخلفيّة ..ولمّا أظهر مقاومة.. قال له بنبرة حازمة مهدّدا متوعّدا: ويلك اصعد وإلاّ صفعتك صفعة تعميك!!؟..وهو يصرخ فيهم: أتركوني  أتركوني..أعيدوا لي لافتتي ..من سلّطكم عليّ !؟..وفي الأثناء ..تقدّم منهم شيخ كبير بلحية بيضاء ..قائلا: أتركوه يا جماعة الخير ..إنه رجل درويش على باب الله لا يعي ما يفعل!!؟..فأجابه أحدهما والشرر يتطاير من عينيه: أنت هو الدرويش.. هذا أعقل مني ومنك ..هيّا اذهب في حال سبيلك وإلاّ حملناك معه !!؟..من يومها صار الناس يبحثون عنه كلّما لفحتهم شمس الحرمان .. بعد أن كرهوا الانتظار وملّوا دورهم الذي اقتصر على الفرجة  حتى وجدوه أقرب إليهم مما كانوا يظنون ..وجدوه داخلهم ..كما وجدوا لافتته التي غدت لافتتهم وقد كتبت بأحرف من نور ..أنا لا أطلب حسنة / أنا أطلب حقي / دنيا فظيعة..

 

جوهرة

كانت رفيقتها في الجامعة وكانت أجمل الطالبات وأكثرهن أناقة وأوفرهنّ حظوظا في السعادة والنجاح..التقتها مصادفة أمام مركز تجاريّ بعد انقطاع دام عقدين من الزمن ..دعتها إلى فنجان قهوة بمقهى جميل قبالة المركز التجاريّ بعد أن أحسّت في نظرتها ونبرة صوتها ما كان لديها من فضول لمعرفة ما فعلت الأيام برفيقة الأمس وسماع أخبارها بعد كلّ هذه السنوات ..بعد تبادل كلمات المجاملة واستعادة بعض المواقف والذكريات من أيام الجامعة ..بادرتها رفيقتها وهي تستنشق البخار المتصاعد من فنجان القهوة..

- أكيد أنك تزوّجت وأنجبت وصرت أمّا ؟!..

- تزوّجت بعد سنة من التخرّج وصرت أمّا لصبيّين وبنت..سرقتنا الأيام..

- لم تضيعي وقتك في مطاردة خيط دخان !!..

- وماذا عنك ..لعلّك تزوّجت  بدورك وأنجبت..

- لم أتزوّج ولم أنجب ولم أصبح أمّا ..!

- لماذا ..ألم يتقدّم لك أحد !!؟..

- آخر رجل تقدّم لي ورفضته ..لم أكن أحسب أنه سيكون الأخير.. وبعده لم يتقدّم لي أحد!..

- ألم تحبّي !؟..

- الحبّ جوهرة نادرة قد نبحث عنها طويلا ولا نجدها ..ولعلّنا  نجدها ونفقدها قبل أن نصدّق أننا وجدناها !!؟..

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2292   الاحد  02/ 12 / 2012)

في نصوص اليوم