نصوص أدبية

مذكرات صداع! / إيناس عبدالله

أحتسي قهوتي كمن يتجرع السم في طقس تطهيري ويواسي نفسه بفلسفات واهية، وأُنصت لطنين اذني اليسار، لا شيء غير الطنين في دغل الظلام والعجائب المسمى رأسي!

وأفكر في البلجيكي الذي بدأت أحس تجاهه، باليتم، نعم، فأنا حين أقترب عاطفياً من رجل ولو قليلاً أحس بأني يتيمته إن ذهب، وأمارس مع نفسي ما يمارسه الأيتام مع أنفسهم عادة، اجترار الفقدان بلا رحمة، حد الإغماء!

صارت بروكسل مسرحاً للرعب كلما توجه اليها مارك الملعون، أنا لا أحبه بمفهومي البغيض عن الحب المصاحب للعلاقات الشبحية التي تنشأ إثر صدف لا وجود لها سوى في الخيالات الضالة للنساء على أعتاب الثلاثين، بل أحس تجاهه بحالة من التعلق اليتمي، لم أجد لها مسوغاً يقنعني!

 

ولا بد أن المسيو مارك والسيد صداع هما كل ما أملك من حطام العاطفة البليغ في الإسهاب!.

 

مارك لأنه انتشلني من بطالة محتومة، وقدم لي الطرف المجهول، على الطريقة الأوروبية وأدخلني عالمه، عالم المستشرق الذي لا يبحث عن الكنز هذه المرة بل عن العدالة، أو ربما هو من القلائل الذين توصلوا للمعادلة القائلة :

 لا يمحي المأساة إلا مأساة أعتى وأشد منها!

 فلا شيء سينسيه كورالي حبيبته الساخطة على الرجال والطبيعة غير المظلومين الساخطين على صمت ستين عاماً من الظلم!

الجلاد سرق حتى أنين الضحية ونسبه لنفسه يا ماركي، يشعلون الحرائق ويتأوهون من المحرقة.

مدهش، أليس كذلك أيها البطل، ألهذا أتيت؟!

 

يتخيل مارك لو أن بروكسل مقطّعة الأوصال بالحواجز العسكرية، وأن البروكسليين الظرفاء عليهم أن يخضعوا لتفتيش نفسي معنوي جسدي وهم في طريقهم للأوبرا مثلا، وإن أبطأوا المسير فإن جندياً ما سيطلق على أرجلهم عيارات ناريةً لزيادة سرعتهم!

أوه، كم سيكون ذلك فظيعاً يا مادموزيل !

اكتشفت أن الصداعَ بشريٌ مثلنا مثله، وليس كياناً مزعجاً منزوياً كما نتوهمه، نتعلم احترامه رغم النفور منه حد السقم لأن له سطوة اللذة علينا، يكتسحنا بالكامل، مثل ليلة خريف في أحضان متخيلة، بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً حين يكون العالم كله قد أبيد واختفى، ولم يتبقَ غير نحن وهو غارقين في الحميمية البغيضة حتى الصباح!

 

حسناً، وجع الرأس قاس مثل قاتل متسلسل، وأحياناً يتعلم التهذيب في حضرة الضيوف، فيخف لهيب عناده وفحيح سطوته قليلاً، وهو في الليل شبِق ومستأذب كما كل السكان في البنايات المرقمة من 1 الى 19!

 

تجده قد كون فلسفتَه الخاصة القائمة على أنه عرَض وليس مرضاً بحد ذاته، أي انه صورة مقلوبة لما هو أخطر وأقبح واكثر ترويعاً وقلقاً ومهانة!

تتجلى صفاته الأكثر بشرية حين لا يتنازل لك عنك إلاّ بفدية، من حبة دواء صغيرة تستطيع تصبيرك حتى موعد النوبة القادمة، إلى رؤية وجه جميل يستطيع الهائك مؤقتاً عن موعدك القادم مع الجلاد الخفي!

الغزل يخفف أعراضَ الصداع، هذا ما قادت إليه دراسة جامعية أميركية حديثة، نُشرت في مجلة "الأميركان سايكولوجي"، لكنها ليست الحقيقة، الجمال صداع مهذب، وغالباً ما يسبب التوتر الهرموني لفترات طويلة !

 

قررت أن أمنح وجعَ الرأس فرصةً وغزلاً حتى يشبع، وقررت أن أضع اللومَ من اليوم فصاعداً على أشياء محسوسة صادمة ومقبولة، إذ إنه من اللاعدل أن أحمّل وجع الرأس، كل تلك الآثام دون أن يتمكن من الحصول على صك غفران واحد بسبب غيبيته واستحالة تجسّده، في حالتي هذه نمت في تلك الآلة التي تشبه الكفنَ المتحرك، حيث تم قصفي بكل أنواع الأشعة السينية لتحديد موضع الألم، ولم يجدوا فيَّ غير العبث والعبث وحده، وربما سأصدق عمتي التي همست بأذني، بأن هناك جنياًّ عاشقاً يستوطن جسدي ويرفض أن يتركني بسلام، ولذلك يسبب لي صداعاً غيبياً مستحيلاً يدفع بالأطباء إلى الجنون غالباً!.

فانفجرت من الضحك، وقلت لعمتي، إنني عشيقة سيئة حتى لجنيّ غريب الأطوار يريد أن يستعذبَ حُب البشر فلم تفهم شيئاً وأدارت لي ظهرَها الهرِم ونامت، وأنا أحسدها على رأسها الذي يسبح في فلك الخرافات والـماوراء!

بحق الجحيم الذي يغلي في رأسي يا دكتور هل وجدت شيئاً؟

يُطرق الطبيبُ رأسه أسفاً: لا، لم أجد شيئاً !

وتنتابني حالةُ بكاء هستيرية لم تسلَم من رفسات قدمي حتى حجارة الأرصفة، وفي غرفتي ضربتُ رأسي بالحائط وكأنني أحطم مزهريةَ الصداع الكريستالية في رأسي الجاف والعنيد، والذي لم تسلم منه نقطة دم واحدة، وكأن صداعي امتص كلَ دمي مثل مصاص دماء تحت قمر مكتمل !

لطالما شككتُ في القمر، فتأثيره في الجسد، أكبر وأعقد مما نتصور، وقد كان شكّي في محله!!

القمر يؤثر في حركة الموج مداً وجزراً، وفي موعد الدورة الشهرية والحمل، وقد يحمل بعض المرضى النفسيين على الانتحار أو اقتراف جرائم ترتعد لها الفرائص، تماماً كما يحمل بعض العشاق على الغزل والتقدم بطلبات خطوبة وزواج أو حتى رقصات slow dance طويلة دون أن يكونوا قد تهيؤوا لذلك تماماً، وأخيراً مسبب منطقي لحالات التقلقل العاطفي والصداع الناجم عن الخيبة الخبيثة المستشرية في حياتي الأكثر بؤساً من جارتنا العاقر!

 - جربي التنويم المغناطيسي، قال الطبيب المسكين جراح المخ والأعصاب الذي فتح جماجم أناس عديدين قبلي، لكنه لم يحتر معهم بقدر حيرته معي!

جلست أمام الطبيب الذي سينومني مغناطيساً، وكاد يقفز من النافذة بعد ثلاث ساعات من الغيظ، فأنا من الحالات النادرة التي لا تنام مغناطيسياً أبداً، والتي يكون فيها المخ من العناد بحيث لا يستسلم إلا بطلقة أو مطرقة أو شظية خارقة، ربما لا أيضاً!

رام الله مدينة مصابة بوجع الرأس أيضاً، أحس بذلك وأنا في عملي أتناول قهوتي، وبعض أخبار زميلات العمل اللواتي يحاولن الانضمام للفصيل السياسي، الذي سيقبض راتبه هذا الشهر أولاً من اليد اليسوعية للاتحاد الاوروبي ليس لأنهن لسن وطنيات بالعكس فهن أخوات شهداء وجرحى ومعتقلين وزوجات لعاطلين عن العمل بسبب الاحتلال أو الكسل الذي يبرر بالاحتلال، ولكن لأن الجوع كافر بلا مبادئ راسخة، يمكنه تحويل الإنسان الى مطية سياسية يركبها صاحب الصوت الأعلى للخطبة السياسية، ولأن قادتنا الشرفاء من كافة الفصائل يحاولون ترقيع عذريتهم الوطنية بمساعدة عذراوات مسكينات يعملن لإعالة أسرهنّ وأطفالهنّ المصابين دوماً بالزكام وأزواجهنّ الذين تحوّلوا إلى وجع رأس بامتياز!

كنت أتمنى أن اقول ذلك دون أن أتقيأ، لكنها الحقيقة الساطعة كصداع صباح الأحد، حين تكون أجراس كنيسة اللاتين القريبة، تقرع بلا تقوى في رأسي الفاجر بصدى عالٍ يجبرني على تغطية أذني، ولا علاقة لي بالمؤمنين الافاضل الذين يتدفقون لقداس الأحد ورؤوسهم صافية كليلة صيف ناعمة!

مقهى أوروبا الجميل مصاب أيضا بالصداع الكلاسيكي، لكل المقاهي التي تستقبل مؤخرات الزبائن طوال العام دون ان يكون هناك زبون مميز يحفر اسمه ربما أسفل الكرسي بمفك صغير، أو يلصق علكةً خضراء تحت الطاولة لمجرد المشاكسة، أو يترك بقشيشاً مناسباً أو حتى يجلب معه آلةً موسيقية عاهرة ليعزف للمقهى الذي يكاد ينهار من ملل زواجه الشرعي بزبائنه البليدين، أحدق في مرايا المقهى طويلاً وفي عيني لمعة نجوم مطفأة وخوف وقلق دائمين من كل أحد، ولا شيء تحديداً، ذلك لأنني من البشر الذين يعيشون على الهامش من أمراء الظل الذين يراقبون في الخفاء بُقعَ الشمس المتناثرون تحتها الناجحون والمهمون والمتنفذون، وأضحك عليهم مِلءَ فمي، لأنهم أغبياء، ولا يستحقون وغالباً ما وصلوا الى ما وصلوا اليه بالكذب والنفاق والفضائح ونصب الفخاخ والتشدق والتسول والعصيان، ففي المدن المسمومة بالكبت يقسم الناس إلى قسمين: مربي ذئاب ورعاة حملان!

والهدف من الحياة في مدن واهمة بالتمدن مثل الجميلة والمدللة رام الله، هو أن يحوز الإنسان على الإعجاب لكونه مربي ذئاب بهيبة وأنياب، أو يأكل تبناً كحملانه ويحمد الرب على فقر الدم ويسكت!

أمثالي ممن لا تروق لهم الذئاب، ويجدون في الحملان ضعفاً مؤلماً، يصبحون مسوخاً لا مرئية ومدهشة في الوقت عينه مسوخاً من نوع:

 شعراء، فنانين، عاهرات، قوادين، لصوص ظرفاء، وقتلة يائسين.

 كل هؤلاء يشعرون دائماً بالصداع!

 -الشعراء: لأن اليوتوبيا التي بنوها على عجالة بانت تضاريسها غريبة، وكانوا أول المطرودين منها وكأنهم وجع رأسها المعتاد ووساوسها القاتلة، حيث يكتشفون أن الشعر أو هذيانات العقلاء المكلفة، لا يمكنها الانتصار على هيبة الجهل العتيدة!

- الفنانون: لأنهم فشلوا في تجسيد المطلق وفي القبض على الكينونة الهاربة من عبث المدن التي كبرت مثل قزم ظل كل شيء فيه صغيراً رغم رجولته الظاهرة.

- العاهرات!!!!!!!! لأنهن ظنن لوهلة، أنهن أميرات العالم ما دام الندم لا يهزمهن، وهو الذي أطاح بعروش ملوك وسلاطين يهزمهنّ في النهاية شبح العمر الكئيب!

-القوادون: لأن الذي يتاجر بامرأة هو حتماً سيتاجر بوطن، وبأرواح، وحتى بنفسه وكل ما يمكن أن تطوله يداه منتهياً بتاء التأنيث، وكلمة الشرف في صفقات كمثل الرقيق الأبيض، محزنة، فيتحولون غالباً الى تجارة الأسلحة ما دامت النساء والأسلحة حلم الرجال وصداعهم المرير في كل العصور!

-اللصوص: لأن السرقات لم تعد تحتمل، فالناس فقراء حتى في غناهم، وحتى السطو على بنك لن يذهب بهم لابعد من مليون دولار !

فتتحول أوهام اللصوصية وفرضيات إيجاد الكنوز الى ما يشبه الصفعة، المؤدية للارتجاج الدماغي.

 -أما القتلة.. فلأن الذنب صداعهم الأبدي حتى وهم يهمون بارتكاب جرائم جديدة!

يهاجمهم الصداع من كثرة الإحراج(الذنب) لا غير!

عدا عن هؤلاء لا يصاب الناس هنا بالصداع، بل بالخدر الموجع الطويل، نوم الضمائر الذي كنوم أهل الكهف

حين تحرسه الضباع ويتكفل بإيقاظه، رصاص الخمسمائة!

لا شيء حقيقي عندنا ولا شيء مدروس سوى الحب، نعم، الصورة الأكثر رحمة وألفة وجمالا من أوجه الصداع البشري الخالد!

البلجيكي المتطوع في المسيرة الأسبوعية، ضد جدار الفصل العنصري، أيضا مصاب بالصداع!

فمارك نبت له ضمير مفاجئ مثل حبة لوبياء نضرة في حديقة جدته بياتريس، حيث لم ينجح في أي شيء ينجح فيه الاوروبي النموذجي عادة!.

بعد علاقة حب بكورالي ذات النمش، اكتشف أنها فتاة شاذة وانها اتخذته كستار تغطية، لعلاقاتها التي كعلاقات حبار في حقل بلح بحر!

لم تعجبه ربطة العنق ولا المكتب ولا العمل في شركة، وقد نفد صبره من التسليات والبارات والعلاقات ووجد ضالته في مناصرة الشعوب، فطار إلى الأرض المحتلة ليتنشق الغاز المسيل للدموع، وليربي برعم ضميره الجميل الجديد، وليكره إسرائيل لأنها المسؤولة عن عذابات يمكن تفاديها بإحلال السلام.

يخيل لي بأن السلام هذا يا ماركي اللطيف، كلب أليف من سلالة الجيرمن شيبرد، يمكننا اقتسام حمل رسنه مع جيراننا اليهود، فالكلب هو الصديق الوفي حتى للأعداء !

وكذلك السلام، خصوصا السلام من فصيلة الراعي الألماني الأبيض المخطط بالرمادي ذي الوبر الطويل والعيون العسليةّ الذي يحرس الغنم، ويحضر الكرات، ويهاجم الافاعي، ويعمل ايضا كقطعة اكسسوار رائعة لفناء البيت!

والكلب الذي يمكنه ايضا جمع باقي الكلاب، في اتفاقات سرية للسلام، هذه الكلاب المطلوبة هنا يا روحي!

لا أدري كيف ومتى وأين صرت مترجمة (مارك)؟

فالصداع يسبب لي بعض الغيبوبات التي من غير الممكن، أن يلاحظها أحد تتسع فجوة ما في ذاكرتي فلا اعود أتذكر بدايات ما اقترفته من أعمال وأقوال وجرائم صغيرة، وحتى سخريات مرة! فما بالي بالبحث عن عمل كمترجمة!

مارك لطيف، ومثقف، وموهوب موسيقياً، لكنه لا يحسسني بأنوثتي، أو بالافتتان الأوروبي المعهود بالعيون الشرقية، اكتفى بطلب صغير، أن تكون ملابسي عملية وأنيقة، لأن القناة الفرنسية الرابعة، ستقابلنا للحديث عن مضمون المسيرة وأهدافها !

أنا من سلالة برابرة لطفاء، رغم وحشيتهم الظاهرة إلا أنهم أرانب أمام اللمسة الحانية، رغم ذلك أنا جميلة وأتعرض للتحرش دائما، ويقال من وراء ظهري، إنني السبب في الحروب الزوجية بين جارنا وزوجته، وأبن عمي وطليقته السابقة !

ويقال أيضاً أنني بنت مؤدبة، ولا اتكلم كثيراً، وانني أعمل مع الأجانب، وأعود لأمي بعطايا أوروبية وقصص لألف سهرة وسهرة شتوية، عن جمال باريس المجنون، والتي سردها علي (مارك) ذات صداع!

وكذلك قبل ألفي عام، كدت ان أكون البنت التي سيرمونها في النيل، أو يقدمونها عروساً للآلهة، أو أي شيء من هذا القبيل المزعج والغبي، يعني باختصار إنني مميزة حتى الموت!

لكن (مارك) رآني المترجمة المصابة بالصداع لا غير، الشرقية التي سيغويها بتفاح الديموقراطية الأوروبي رغم أنه يعرف أنها فقدت حاسة ذوقها منذ زمن بعيد!!

مارك يسكن الآن، عند عائلة فلسطينية، تجيد فيها ربة البيت الطبخ بطريقة طيرت عقله الذي عاش المجاعات الأوروبية كلها، فأمه لم تكن طباخة ماهرة، ومنذ نعومة أظفاره يأكل في المطاعم أو عربات الأكل الجاهز، وما رآه من ولائم هارون الرشيد، في هذه المدينة التي لا تنزل قدورها عن الأفران أبداً، جعله يداوي جوعه السرمدي بالارتواء من النكهات والمذاقات حتى التخمة لكنه لا يهضمني كامرأة بتاتا، تصوروا ذلك!

تعلم العربية بطريقة أذهلتني، فيما زلت أتأتئ بالفرنسية كدجاجة، الصداع يؤخرني عن التعلم، ولا أستسيغ الطعم الأوروبي لأية مادة تؤكل، لأنهم لا يعترفون بالبهارات، النكهة التي تلون الدم وتهب للجوع شبهات جرائمها اللذيذة!

وصل بي مركب اليأس العظيم إلى الحائط الأخير من المقبرة، حاولت أن أكون في صدارة المسيرة لعل رصاصة تطيح بهذا الرأس المقزز الموبوء بالألم والعشاق من الجن الذين علي أن اتعذب بنزواتهم الضبابية دون ذنب!

الجن يا لهم من هوس جميل، يافعون متوهجون، ما الذي يدفعهم لعبور كتلة اللحم المقززة فينا لا أدري؟

يشبه مارك طارد الأرواح من العصور الوسطى، عيناه الزرقاوان وبشرته المشققة، وشعره الذي يصففه كغجري مقيم في المدينة منذ مدة، جعلني أشك في كونه رجلاً عاقلاً عادياً، يعيش على البطولات وعلى أمل إدراك إسرائيل للسلام ولأهمية العناية بالكلاب!

لم أعد احتمل برودته، القادمة من القطب الشمالي مع منخفضات كانون الرهيبة، وحين كنا نمشي وحيدين يوم خميس بارد، فجأة، دفعته نحو السور، حائط برليننا المحلي الذي يشطرنا نصفين، وصلبته على الجدار كمسيح مدهش!

هيكل سليمان الذي بنوه بالعرض لا بالطول حتى يصد غزوات متخيلة، وليقيم بالروح الواحدة ما أقامه سور برلين ذات جنون. هل يستوي الألماني الشرقي والغربي! لا أعتقد!

حدقت في عينيه المرتعبتين وقلت له:

قَبّلني يا مارك، عانقني أيها البلجيكي، وقبل أن تقفل فمك من الدهشة ومن القبلة التي كالطعنة في عز الظهيرة سوف تعرف انني لم أُجن، ولم أشتهكَ بعد، بل إنني فقط أريد أن أشم فيك عبقَ أوروبا التي أحلم بها ليلَ نهار حتى أمشي في شوارعها، لعلني أبتعد عن الرصاص والحياة التي تبدأ بالفوهة المصوبة بإتقان وتنتهي بالقبر المحفور بعجلة قوارض مذعورة!

قبلني أيها المسخوط لكي استعذبَ ثلجها وبعدها، وخضرتها وسكينتها ودانوبها العظيم يتماثل وشرياني الأوروطي لكي يغذي قلبي المتصحر بعداً وجنوناً ونسياناً!

يقال إن القبلةَ شأن خاص بالبشر، لأن الحيوانات لا تقبل، هل يمكننا أن نفهم ذلك لمن يطلق النار على أرجلنا، كمن يطلق النار على قطيع كلاب مسعورة؟ هل يرى الفرق، أم يتعامى؟ ولا داعي لأن تشعر بالعار، فنحن كما بلجيكا تماماً، نستقبل بعضنا بالأحضان والقبل على الجبين والخدين والأيادي، ربما تكون الشفاه من المناطق الملغومة عموما في ثقافة قبلنا العربية الغريبة، لكنها ستتساوى وباقي القبل أمام الرصاص ولن يلاحظ احد الفرق!

بعد نصف دقيقة من القبلة المجنونة في يوم العطلة الأسبوعي، كدت من على ميناء شفاهك أن أصل مطار بلجيكا العامر بالضجيج، حينما أصل، أعدك بأنني لن اتصرف كلاجئة سياسية ابداً، بل كلاجئة عاطفية، نعم اللجوء العاطفي الى أحد أجمل العواصم الأوروبية، قد يكون الصرعةَ الجديدة التالية للجوء السياسي!

سأصادق فوراً شبان بروكسيل وفتياتها، وبعض اللاجئين فيها، خصوصاً أولئك المستعدين لتعلم العزف على البيانو والعمل في العلاقات العامة بربطات عنق وكعوب عالية، اما الحثالات التي همها الحفاظ على إرث الوضاعة كما كانت في بلدانها الأصلية، فلا يهمني أمرهم وسأشي بهم للشرطة قدر استطاعتي!

قبلني أيها البلجيكي، لكي أعي مدى عمق النهر الذي يترقرق مخترقاً مدينتك، النهر الوحيد الذي أعرفه هو السيل الشتوي الذي يجرف امامه كل شيء، أنا لا أقول أن بلادي ليست جميلة كبلادك، أنا اقول إنها فقط لم تعد تعرف ملامحها أبداً، أهي لهم أم لنا أم لمن؟

صداعها حاد ومجرد من العدالة، كصداعي تماماً، حين تريد أن تعرف مدينة على حقيقتها اجعلْ إحدى نسائها تعترف أمامك بكل شيء؛

ستقول المرأة المدينة: إننا لن نعرفَ السلام حتى في القبر

ستقول المرأة المدينة: إننا رغم كآبة العالم الثالث المهيبة إلا أننا نحتاج لألف سنة ضوئية حتى نصنف ثالثيين.

ستولول المرأة المدينة وتبكي فضيحة أننا ضحايا آخر احتلال في العالم، فأصغر وأحقر جزيرة غبية تائهة في عرض البحر قد نالت استقلالها ورفعت علمها هنا وهناك، ونحن ما زلنا نتلقى رصاصةً كلما حاولنا رفع علم على عامود كهرباء.

ستبكي امرأة المدينة... العشاق الأميين في العشق؛ الرجل الذي أحبني تزوجني ومل، يعيش حياته خارج التغطية، خارج مدار الكرة الارضية، رغم انني ضبطته ملتصقاً تماماً بالجارة المطلقة!

المرأة العاشقة رخيصة والمصابة ببرود جنسي هي ست الكل الشريفة التي يجب على كل النساء ان تحذوَ حذوها !

لذا تتحول النساء هنا إلى روبوتات آلية قديمة، يمكنها أن تتعطل في منتصف المهمة الطبيعية لستة مليارات بشري غيرنا!

قبلني أيها البلجيكي فشفاهي أكثر برودة من وجنة القطب وشمسي غاربة منذ انتحبت براءتي مختبئة في دغل شوك من رصاص لا يفرق بين المرء وظله، لا أملك فلسفات صينية تساعدني لأملك هدوءك القاتل، إنما أعيش بين المرتدين عن دين الغرام، المجاهرين بعدواتهم للقبل!

لعل الله يعاقب هذه الأرض بسبب ندرة الحب بأن يسلط عليها الحروب والخونة والأسوار تعانقها، كما تعانق أفعى الأناكوندا فريستها وتعتصرها حتى الموت!

قبلني كي أغمض عينيّ كما يفعل الحالمون في أفلام السينما والتي هي اختراع اليائسين من الحقيقة، قلتَ لي بأنك تحضر لفيلم وثائقي عن الصلب الجديد لفلسطين على جدران الكونكريت الآثمة، لا، لا تفعل يا ماركي اللطيف، لا تخلد كونكريتهم وتنسى قبلتنا، أرجوك !

قبلني سريعاً، لأعرف سكينة المقاهي وهدوء الإنصات لعزف الكونسرتو لبرامز وباخ، ولأقص عليك حكاية شهرزاد التي طلبت مني النسخةَ الأصلية لها والتي لن تحتاج ابداً الى ترجمة، فهي الحكاية المكررة والمبتذلة عن العلاقة الدهرية بين المرأة والسيف!

لم يقبلني مارك مطلقاً، ولا أنا كذلك، بل قبِل اعتذاري وأعطاني راتبي بمهنية وحيادية وزف لي خبرَ عدم قبول طلبات لجوئي إلى بروكسل! التي وضعتها بين أوراقه خفيةً لعله يفهم الرسالةَ دون اضطراري للشرح!

لكنه قال لموظف الهجرة بصفاقة اجنبية باردة، إنني أجمل وأهم من أن اصبح لاجئة سياسية، وبأني مترجمة جادة ومجتهدة في خدمة قضيتي، ولكنني اعاني من الملل القومي فقط! ووعدني بأن يجد حلا لمشكلة الصداع حين يعلمني تمارين اليوغا والفونغ شوي والتي تحث على الاسترخاء والعبور زحفاً نحو الذات وفتح بوابات العقل لاستشراف مستقبل النفس المحجوب!

الاسترخاء أيها الاوروبي التعس! هذه أكبر شتيمة ومهانة يمكنك توجيهها الى امرأة مثلي، كيف أسترخي، وأنا اجدل أعصابي كل ليلة على هيأة حبل مشنقة أبدي، وتقول لي استرخاء!

ما أتفهك!

كأنما تُعلّم أفعى كوبرا مثابرة أن لا تعض غير لسانها.

كأنك تدرب التماسيح على بلع دموع غدرها بالفرائس أوتقول لمجرم شق حلق ضحيته للتو أن يتروى ويحنو !

استرخاء! كم ضحكت وما زلت اضحك!

آه يا صداعي، أعتذر منك عن جهل هذا الأحمق، فضمير الأمم مضحك ولا تؤاخذه، فهو بريء ومثابر ويحلم بعالم أفضل وبالتغيير وبالليبرالية، وقوة الفرد والأيادي البيضاء للحرية، وكل الترهات التي لا نعرفها نحن ونظن بأننا لا نستحقها!

صداعي المقدس المبجل الجميل والأكثر رجولة من كل من عرفت لأنك الوحيد الذي يرفض أن يتركني مهما فعلت وحاولت وجاهدت وقاومت وعاندت، كنت معي في أحلك لحظات وحدتي، وحتى في جنون مراهقتي الآثم، كبرت معي كأطفال الحي، وجرحتني كرجاله وذممتني كنسائه، لكنك كنت الأكثر حناناً ممن طعنوني بمحبتهم الفاجرة!

أذكر انك اجبرتني على السهر إبان قساوة الامتحانات النهائية في الجامعة، إنجازاتي مجتمعة أدينُ لك بها، وإخفاقاتي ايضا، كنت تتواطأ معي وتنام في أحضان الفتى المراهق الذي عشقني دهراً وما زال لا يستطيع أن ينظر مباشرة في عيني حتى الأن!

واسيتني كما لم يفعل أحد قبلك، صداعي المقدس أنا وحيدة وكالقمر في وحدتي التي يملؤها الجن بتوسلاتهم !

يشير إليه الكل بأصابعهم مفجوعون ببهائه، لكن هل يقترب منه أحد كفاية ليسمع أنينه البغيض؟ ضمة الوحدة في الليالي البلا حب يا صداعي مثل ضمة القبر خبيثة، معدية، وأبدية!

فإياك أن تتركني وحيدة، إياك أن تترك مارك لأنك الوحيد الذي تذكره بي وهو يفقد الثقة بالبشر والعالم، ويحاول الانتحار بعد زيارته الأخيرة للشرق الأوسط، ولا يفلح سوى بتضخيمك الى سرطان في الدماغ يشبه كثيرا كتلة الكونكريت المقززة !

صداعي، لم أعد اريد مقاومتك، أو مداراتك، بل سأجعلك مركز قوتي وروعتي ما دام علاجك فقط شفتان دافئتان ليستا من هذا العالم، فصدقني، لو كنت رجلاً حقاً.....لقبّلتك.

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2302   الاربعاء   12/ 12 / 2012)

في نصوص اليوم