نصوص أدبية

امتياز / مسلم السرداح

جسد نادر الجمال لم يخلق منه الكثير لغاية الان، وكأن الفتاة الواقفة الان، قد خلقت من تناسل كائنات جميلة مفرطة التطور ربما لم تولد على الارض بعد بل ربما جاءت من مكان اخر،وان ماوجد منها،على الارض ، قليل جدا، حد الندرة.

ومع ذلك فقد نظرت إلى جسدها نظرة جحود زاهدة بقيمة ما تملك، ان نظرتها هي نظرة النفوس العالية التي تطمح للمزيد. و بعد قليل عادت وجلست على الأريكة التي غادرتها قبل قليل، ألقت نظرة أخرى على جسدها النحيل إلا من بقايا لحم طري كسا جسدها الأبيض خلسة دون أن ينتبه له احد مما جعله يشبه اجساد الملائكة الذين يقتاتون على قوت السماء. لقد ترشقت تماما حتى صارت تضاهي الانبياء الذين يعتبرون المشي على الماء احدى معجزاتهم .

حركت كتفيها يمنة ويسرة، وهي تنظر إلى نفسها، شعرت بعدم الرضا من هذا الثوب الذي ترتديه . كان ثوبا ابيضا فضفاضا، يشبه تماما ما كانت ترتديه عذارى البابليات عند المعابد في الأيام الموعودة بانتظار آلهة الخصب. ثم انزوت بنفسها إلى الداخل، وكأنها تعلم إن عيونا ما تترصد حركات جسدها الفاتن الذي لم يخلق ليراه احد. خرجت بعد قليل وقد ارتدت ثوبا آخر احمر شد على جسدها شدا محكما ، انتصبت معه جميع مفاتن جسدها وكانها تريد القتال، فتحولت معه ملاكا لا وجود له في هذا العالم المرهق العنيف. لقد توهجت بهذا الثوب، مثل جمرة ملتهبة في ليل شتائي بهيم ،غامق.ثم عادت الى المرآة ومضت تحدق في صورتها وهي شهية تشبه خمرة معتقة من مئتي عام وراحت تزم شفتيها وكانها ازدادت عدم رضا عما هي فيه من نعمة. لقد فاقت بذلك حمق أي مجنون... ذلك إن جسدا مثل جسدها ووجها مثل وجهها كفيلان بان تتنازل إمبراطورات أرقى الممالك عن عروشهن لقاءهما لو كان يعقل الاستبدال. إنها آلهة بلا سماء او أميرة بلا منصب ورثت عرشا يسيل له لعاب الجبابرة وتخضع لجبروته جنيات البحر الخالدات. انها أقدار عجائبية تماما، لا احد يمتلك تفسيرا لها مع إن حيوات كاملة مهددة بالخطر تستمد وجودها الواهي المندحر من جزء يسيرمن نعمة وافرة يمتلكها اخرون حرموا هم منها ،كما هذه الجالسة أمام المرآة، الآن، والتي تمتلك كل شيء والتي تمتعض الآن أمام فكرة هشة عن جسدها المستند إلى عمق لو نطقت عنه السنوات لوجدت انه يتصل باعمق أعماق الحياة. إنها مثل جميع من يمتلكون المواهب النادرة لا يدركون الخطر الذي يتهددهم بدونها في هذا العالم الغريب، غرابة السعادة والألم لانهم ولدوا مع هذه المواهب وويلهم لو ولدوا فاقدين تلك النعم متحسرين عليها وهم ينظرون بعيون جائعة الى مالكي تلك الامتيازات.

لذلك لم تدرك هذه المرتكنة أمام مرآتها إن لأولئك المنزوين خلف كواليسهم المقفلة بإحكام حقوقا حرمتهم الحياة منها، لم ولن يكفلها لهم احد. إن انفا صغيرا جديرا بالرؤى الجميلة يتحول إلى مأساة لو انه اصيب بعاهة ليست بذات بال. انه عالم يتفوق بغرابته على كل الكوابيس والا فما المعنى من إن فاقدي الأشياء الحقيقية يشعرون بأهميتها أكثر من مالكيها الذين يعتبرون إن وجودها ترفا؟ ولذلك فان كل الدلائل تشير إلى أن هذه الفتاة وأمام كل نظرات الإعجاب الموجهة لها سوف لن تعرف سوى الأجزاء الخاصة بالرغبة والود الموجه لها من قبل الآخرين، لكنها وعما قليل وحين تبدأ مواطن الفتنة في جسدها بالانزواء خلف قطار الوقت ستتمنى لو إنها نزلت عند المحطات الأولى مبكرة وهي تحمل ذكرياتها وصورا خالدة عن نفسها وستروح تروي للآخرين ماكان عنها أيام زمانها الذي مر ولن يعود مثل مدينة غادرها الركاب. وستحيرها فكرة إنها استنفذت تاريخا لم يكن حافلا وستندم كثيرا لأنها لم تفهم هذه الفكرة إلا بعد فوات الأوان. ذلك الندم الكبير الذي سيلاحقها ليخبرها في الأوقات الشاذة كيف إنها كانت ظالمة للحقيقة التي مرت وقد اخترقت شبابيك عمرها كما تمر شمس ليست ببال احد مع ان الجميع كانوا بانتظارها لحين آخر ضوء نهار. وعند ذلك سوف تتساءل وهي حائرة وستطيل التساؤل عما حدث لها حول ما اذا كانت تستحق دون غيرها ذلك الامتياز من بين الاخرين. عند ذلك ستزداد حسرة اكثر من اولئك الفاقدين الذين تساوت مصائرهم الان مع غيرهم من اصحاب الامتيازات الزائلة مع فارق انهم ستظل تؤلمهم ذكرياتهم عن حسرة الحرمان حتى اخر قطرة من الحياة.

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2305   السبت   15/ 12 / 2012)

في نصوص اليوم