نصوص أدبية

انكسر سحر الحياة / سنية عبد عون رشو

                                             

كان الدرب موحشا 

تأكل بعضها ....أسماك القرش  

ضباب يملأ الذاكرة

من قفص سجنها ...تهرب كلماتي   

من نسيج  أميته  تبدأ مفارقة  قصته   ... (فوق الفنتازيا)  

....... ومن المؤكد ان قريته وعائلته كذلك ......قرويته  حرمته  فرصة التعليم...   بجهود متواضعة كان  يتعلم ان (يفك الخط) أيام صباه ....

يحمل سره وحيدا مع أول صرخة أطلقها  .........فوق جمر  يتقلب في  سجن أوهامه  المضاعة بين الحلم والحقيقة .... عليه ان يكسب الجولة ....مع نفسه على الاقل

دعوه يلتمس طريقه  في  بيت الطين والعشب ....تحتضنه ضفاف السواقي في أماسيه الحزينة .....دعوه يغني لسرب القطا   .... لأمانيه ....لغرابة قصته ....وان تحدث فلا أحد يصدقه.... خفت صوته وهو يحدق في المسافة الممتدة بين فجوة احدثتها نخلتان متعانقتان....غفت جفونه مثل طفل وليد ....

في الجانب الآخر كان هو رجل مضايف حنكته الاحداث وصقلته  بيئة مجتمعه القروي..... في قرية نائية منسية في أعماق حدود دولة مجاورة  ....  تتباهى قريته  بتشابك  اشجارها ونخيلها وتشتهر بزراعة الأصناف العديدة من  الفاكهة ....

اجتمع قومه  وتشاوروا بينهم ليصبح شيخهم وكبيرهم ....بعد شعور أبيه  بحاجته  للراحة كما نصحه الاطباء ....وكما ورثها الاب  عن جده  ...  رغم صغر سنه  ينعتونه برجاحة العقل وامتلاك الحكمة  والتريث في اتخاذ القرار .....لكنه لا يرغب بهذا المنصب ولا يشعر بغبطة أو سعادة حين أبلغ بذلك ......

كان  الذكر الوحيد لأبويه بين سبعة إناث  ....وكان خامسا في سلسلة المواليد القادمة الى الوجود ..... لم يستقبل كما يجب كأي مولود جديد.. غموض يكتنف ليلة ميلاده... ولكنه .... لايشعر ولحد لحظته هذه بشعورالضغينة لأبويه  بل بحب جارف , لانه يعرف ان لا ذنب لهما....   هو الجهل والأمية  والعرف والحاجة الى وريث .....

بحرص كبير  كان يحافظ على سمعة شقيقاته   ومكانة أسرته  بين أبناء قريته   ..... نجح بتزويجهن  بعد رحيل أمه وأبيه  الى فردوسهما  الموعود  ....

دعوني أحدثكم عن (هلال) الرجل الذي يحمل قلبين وروحين ونصفين من المشاعر الهائمة  بين واقعه  ودوره الذي أسند اليه  فتلبسه بعقله وكل ذرة في جسده .... 

كانت  تعتريه  هواجس الخوف والكآبة....  وفي الجانب الآخر هناك مشاعر أخرى  تغمره  سعادة ورضا .....احساسان  يتعاقبان على روحه  كتعاقب الليل والنهار..... يموت ويحيا في كل يوم .....ولا يعرف أهو عذاب أم  سعادة ....انه يقف حائرا بينهما ....!!

ففي أول يوم رأي فيه الدنيا  قالت أمه انه ... (هلال)  ....لقد هلّ على حياتها وملء قلبها بهجة  مثل البدر المضيء ....... وأصحابه في طفولته   ينادونه  (هليل) ....

اما  حمدان .... رفيقه ونده في المبارزة وسباق الخيل ....فكان يتفوق عليه وهذا ما كان يحز في نفسه  ....لكنه يبقى صديقه الذي يشاركه همومه وأعباء المهمة التي أنيطت به .وتفوقه عليه يمنحه شعورا غريبا نحوه.. شعور هو مزيج من الاعجاب والتعلق والغيرة  (وحمدان هذا رجل غريب عن العشيرة. قدم اليها في ظروف غامضة وهو يافع..)..

 لا يخفي عنه أسرار أهل القرية وخصوماتهم   ....إلا أسراره  الخاصة  فقد  دفنها  في اعماق ذاته  وعقله  ....وبالأخص  سره الذي يعذبه ويجهض  أحلامه وطموحاته وأمانيه ....ليجعله فريسة للصمت  والاقتراب من ضفة الجنون  .... حاول صديقه  حمدان  ان يغوص في  بحر صمته  بطريقة ذكية  .....لكنه  اندهش لبراعة صاحبه  وهو يتظاهر باللامبالاة   وينقل  دائرة حديثهما لأمور السياسة وأخبار الساعة ....أولمطالب أهل  القرية ومشاكلهم ...

لكن.... حمدان   هو الاخر حزنه مالئ دنياه ....فقد قتل أخوه رجلا  من قبيلة أخرى ثم اختفى عن الانظار وليس هناك من يعرف له طريقا ....لجأ   لهذه القرية ولا أحد يعرف قصته سوى الشيخ هلال  الذي يرفض لجوء أي غريب  الى القرية ان لم يعرف سبب هروبه من قومه  .....مقابل ذلك أعطاه  الامان الذي يمنحه حق اللجوء اليهم ..... 

ظل حمدان يتخفى  بعدما وصلته رسائلهم   تنبئ  بقتله (لعدم ظهور أخيه) فكان يقضي  معظم أيامه  في بيته    ولا يبرحه إلا للضرورة ....  

صار الشيخ  هلال   مثله يكره جلوس المضايف  وثرثرة الرجال  وتكرار أخبار السياسة والنساء والقيل والقال ....فيهرب الى متابعة  زراعة الاصناف العديدة   من الخضر والفواكه والأشجار المثمرة حتى غدت أرضه  كأنها جنة مورقة  .....تروق لكل شباب القرية .....فكانت ملجأهم في الامسيات الربيعية ....وهذا ما زاد في تأزم شعوره  بكآبة دائمة .....  

بدأ  يهرب منهم .....ومن حمدان  بالذات  ....فيميل للعزلة والوحدة ....ولا يعرف لماذا يشعر برغبة شديدة في الموت حين يقابل صديقه حمدان وجها لوجه ......فيلوذ بصمته.....  .....

قفز هلال مرعوبا ....وقف أمام المرآة محدثا نفسه وموصيا اياها بعدم استسلامه  للضعف أمام هذا الرجل الغريب الذي لايعرف عنه  الكثير من تفاصيل حياته ولكن أعجبته شيمته  وتفانيه في خدمة أهل القرية فأحبه كل الناس   .... ليبقى نده وصديقه الى الابد ....

في ذات الوقت  لا يبخل الشيخ  على قومه   بمشورة أو حل معضلة تقع بين طرفين متخاصمين ......وكثيرة هي  نزاعات القبيلة  وأبنائها.... يتدخل بحماس وحكمة ورثها  أو تعلمها  من أبيه  وجده ...وخصوصا حين تقع الخصومة بين شقيقاته وأزواجهن ... .لا يجيد الاطالة وكثرة الكلام  لكنه  يقدم الحلول الناجعة  التي ترضي جميع الاطراف دون ان يظلم أحدا منهم ....لا ينتصر لشقيقاته بل للحقيقة  ...

صعود النخيل وتنظيفها من أجزائها الميتة ....هي  الطريقة الوحيدة لشعوره بسعادة وراحة للنفس .....هناك في قلب النخلة يجد ضالته حيث يتنفس الهواء النقي لوحده مع حزنه  ودموعه  الغزيرة التي تسقي لب النخلة .... ويشعر ان النخلة  تشاركه همومه ....

أزفت سنوات عمره.... وهذا  يدعوه  للتفكير الجاد  بالزواج والاستقرار بعد وقوفه على عتبة الثلاثين .....لكنه سيدفع ثمن ذلك  من مكانته الاجتماعية وإثارة السخرية من قبل أهل القرية  ......ولا يهمه سوى الحزن الذي سيجلبه لشقيقاته  ... واثارة سخرية أزواجهن  كذلك 

ويهمه  جدا  رأي حمدان   اذا انكشف أمره .....؟؟.... وهذا وحده معضلة تهز بدنه .... هلال . رغم مشيخته رجل مسالم وديع .... وأجمل ما فيه نقاء سريرته وصدقه .....لكن اخفاء  سره قد أتعب  قواه العقلية والبدنية ....لكنه يحاول ان تبقى ارادته   حازمة   وعقله يرفض ضعفه ....ومازال يكابر ....

..

حسنا ....سأبذل جهدا استثنائيا في ايصال معاناته   لكم....   وعرض مشكلته التي  تؤرقه  دون استطاعته  ان يبوح بها لأي كائن مهما كانت صلة قرابته . انا ايضا اجد صعوبة بالغة في استكناه المرارة التي تكتنف حياته....

 كارثة  صنعتها أمه  يوم  مولده .....وهي المرأة الولاّدة للإناث وهذا كان يحز في نفسها  ....  لكنه يثير السعادة والرضا في نفوس الاخريات (برأيها)  على وجه الخصوص من  شقيقات  زوجها  وأقاربه  اللائي يلدن ذكورا وكانت تسمع تهامس بعضهن لتزويجه  ليحافظن على منصب الشيخ ضمن هذه الأسرة وخاصة ان أعمامه  يسكنون المدينة ويرفضون هذا المنصب .....وفي ذلك اليوم النحس  (برأيه) يوم ولادته .... اتلفت حياته  أمه  دون قصد منها ....

 (بطريقة ما ...) ادعت أمام الجميع انها ولدت ذكرا .....وأخفت حقيقة كونها  أنثى وليست الذكر المنتظر .....وافقها زوجها   الرأي نزولا عند رغبتها .... كان يحبها ولا يتمنى ان يرى وميض حزن في عينيها....  

ألبستها   ملابس الذكور وكانت  تخرج مع أبيها  في جلسات العشائر وتخدم عائلتها كأنها الذكر الذي وهبه الله لهذه الأسرة  .....كانت (هلال) سعيدة  في مرحلة صباها  وتشعر بأنها  الرابحة والمنتصرة على بنات جيلها   لما تتمتع  به من حرية  تختلف عن الاخريات ....

خضعت لتدريبات  قاسية  على  ركوب الخيل والمبارزة  وحمل السلاح وطريقة استخدامه .....ومرت  بتمرينات عدة  لعدم الخوف من ظلمة الليل والسير في المقابر....دربها  أبوها    على كيفية  المجادلة والمناقشة في المضايف بطريقة عقلانية مهذبة ....وكيفية  اختيار الموضوع المناسب في الوقت المناسب ....ليكون لحديثها  وقعه المؤثر في النفوس .....وفي مرحلة صباها كانت تسقيها أمها بعضا من الاعشاب البرية التي تجعل من صوتها يمتلك بحة وخشونة ....

 وكانت ترتدي العباءة الفاخرة والعقال والدشداشة ....وتفتخر بطول قامتها  التي   منحتها هيبة خاصة ....وكانت تخفي ملامح أنوثتها  بطرق بارعة وعجيبة  بمساعدة أمها ....  

ولكن ... مراقبة أبيها   تثيرها ....فقد تلبست دورها بقناعة تامة حتى مع نفسها .... لكنه يصر على تذكيره اياها   بكونها أنثى  فأضاف لها   دروسا يومية في حسن التصرف والالتزام بالأخلاق التي تناسب مركز العائلة .... وهكذا بدأ  الحزن يتسرب الى روحها شيئا فشيئا ...اجبرت على تحمل مسؤولية كبيرة تفوق طاقتها  كأنثى ......  

تتهيب أمها من الناس في معرفة حقيقة ابنتها  بما فيهم أخوالها  وأعمامها  وحتى  شقيقاتها   .....فهذا السر لا يعرفه سوى ثلاثة .....لكنها  بقيت وحيدة  تحمل سرها  بعد رحيل الابوين....

كانت دموعها  تسبق لسانها وهي تتحدث عن صديقها  حمدان ...كانت تشعر تجاهه بشعور يختلف عن الاخرين   ....وهذا  يعذب روحها  ويقلق مضجعها    .....إذن عليها  ان تدفع الكثير من المعاناة والألم ....فكانت تقاوم مشاعرها بقوة وتحاول ان تقتل صرخة  الانثى وبالأخص أمامه هو بالذات ....فهي تأنف ان تبوح بما ابتليت به وبقصتها الغريبة  ....حتى للرجل الذي خفق له قلبها ... .والأشد قسوة على روحها هو  الحاح شقيقاتها  لمشروع الزواج  وعرضهن لمجموعة من أسماء النساء ....

(لم تخف  مشاعر غبطتها ..حين طلق حمدان  زوجه  بسبب عدم الانجاب  ....زوجة حمدان  هي من بادرت بطلبها هذا لكن (الشيخ)  هلال كان قد شجع وبحماس أن يطلقها .!!!!..).

حاولت ان  تصارح حمدان  بحقيقتها وانها ترضاه زوجا وان كان عقيما لا ينجب ....لكنها تتألم لضعفها وتوبخ نفسها حين تضع رأسها فوق وسادتها ...... تكره  الضعف الذي اعتراها   ..... وتتساءل مع نفسها

لماذا هو بالذات .....؟؟ هل هي مسألة التعاطف مع قصته....؟؟...

ولكن .....لماذا  أنتفض بكل جوارحي حين يذكرون أسمه.....؟  

يبقى السؤال الذي يعذبني  .....كيف أتحمل رؤية  السخرية والدهشة في عينيه عندما يعرف حقيقتي كأنثى.... وهل يتقبل كلام الناس ومزاحهم  ......؟؟؟

اذن يتوجب ان أقطع شريان  الانثى الذي أحمل وأعيش بقلب رجل كما تعودت ....فالمجتمع تقاليده قاسية ...

بدأت مرحلة صمت(ها) وبدأت معها  .... كوابيس الموتى تهاجم(ها)  في كل ليلة في الحلم والحقيقة  وأسئلة كثيرة ليس لها اجابات مقنعة ....فعرفت انه خيط  بداية   لجنون(ها) ....فقد كانت ترى أمها وأبيها يتخاصمان   بطريقة  غريبة ....يصرخان ويبكيان  فتبكي وتصرخ معهما  ....تستيقظ بحالة من الهلع والخوف وتسمع وتتحسس ضربات قلب(ها) وتجد دموع(ها) تبلل وسادة(ها) ....

وأكمل الشيخ هلال قصته :

وفي يوم شتائي شديد البرودة  اتخذت قراري الذي لا رجعة فيه ....حزمت أمتعتي  ..... وقررت الرحيل على  ان أمرّ بدار حمدان  .... وأسرد له قصتي منذ الولادة  وحتى آخر قراري ....  وما يعتمل في   قلبي تجاهه وما يتوجب من قتل(كارزما) الشيخ التي زرعوها بداخلي  .... يتوجب ان أحدثه بصراحة تامة قبل ان تتسرب سنوات عمري ....

ستهطل دموعي بالتأكيد ففيها  تكمن حسرتي  ولهفتي   للحياة وللسعادة وللأمومة التي تصرخ بداخلي  .....لكني بعد ذلك  سأرحل بعيدا عن قريتي  في أرض الله الواسعة .....فان وافقني هواه ....سنرحل سوية دون حاجته للتخفي والخوف من طلّاب الثأر    ...أو أرحل  وحيدة ان استخف بما أرويه....  أو ربما لن يصدق  ....سأرحل باحثة عن راحتي واستقرار سريرتي ....

مع خيط الفجر الاول ......تحملني قدماي   ....أسابق الريح

عواء الذئاب ونباح الكلاب  تدفعني  للعجلة من أمري ....

لا تتراجعي  يا قدمي ....فكل ما خلفك عذاب ....

أحث الخطى فوق رابية قريبة من دار  حمدان  ....

ما أدهشني وأثار فضولي ....هو  تجمع أهل القرية قرب داره ....وبين الجموع المحتشدة كنت  أبحث عنه  .....قاربت الخطى منهم ...ناديت باسمه  بصوت عال عدة مرات ....أجابتني  بعض الاصوات التي أعرفها  بنبرة  مرتعشة ....لكني لا أتبين وجوههم في العتمة وضباب الفجر  ....

يا شيخ هلال   ....ياشيخ .....أما سمعت بهذا الخبر ....؟؟

أي خبر.....؟؟؟ لم أسمع شيئا ....

ان جثة حمدان  ما تزال  مسجاة  وفيها  طعنات عدة .....   هناك في أعماق  حفرة  خلف داره  .....!  وها نحن في انتظار حضور شرطة المدينة .....

سقط متاعي ....تناهشته  كلاب جائعة ....كانت  ترافقني .... وتلهث خلف رائحة  متاعي 

مددت يدي نحو السماء ....فكان ملء كفي  مطر ......

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2305   السبت   15/ 12 / 2012)

في نصوص اليوم