نصوص أدبية

بصوة أرض الجن / حامد فاضل

انتصب شعر يدي، وانزلقت برغم شد الحر قطعة ثلج على طول ظهري، وأنا أرى ذلك البدوي واقفاً وسط الطريق الغائر في عتمة المدى الصحراوي، والحيتان ملتفتان حول ذراعيه. اختفى لحظة أطفأت مصابيح (التنكر1) وظهر لحظة أضأتها. ألقيت كل ما تبقى لي من حرارة دم في قدمي، وضغطت على الكابح، تمايل (التنكر) بفعل ما يحمله من وقود سائل، واندفع عدة أمتار قبل أن يتوقف. خفقت فروة البدوي كجناح حدأة وركض باتجاهي. تسلق (البنيـد) وتشبث بماسحات المطر ملتصقاً بالزجاجة الأمامية.. فرت آخر قطرة دمٍ مِنْ وجهي، وأنا أرى وجهه بسحنته الترابية قريباً جداً لا يفصله عن وجهي غير سمك زجاجة.. عيناه الغاطستان في محجريهما تحت حاجبيه المقوسين كنعلي فرس، تتحركان يميناً ويساراً، وقد انفرش أنفه، واستمر منخراه المشعران ينفثان زفيراً ضبب مساحة الرؤيا في الزجاجة الفاصلة بين وجهينا.. فتح فمه ليقول شيئناً. صرخت في وجهه فزعاً، وسحبت عتلة تبديل الاتجاه الى الخلف، فتفاجأ برجوع (التنكر) وانزلق ساقطاً متدحرجاً على الطريق.. رفعت كوفيتي وتلمست شعر رأسي، كان خشناً كنبتة عاقول. لعنت تلك الساعة التي مررتُ فيها على الشيخ الأصلب لأرى ذلك البدوي وأحشو راسي بحكايات جعلتني أنظر بريبة الى كل حصاة، أو حجر، أو شجيرة، أو كثيب رمل.. فتحت باب القمرة ألقيت نفسي في حضن العتمة، أنهى الهواء الصحراوي التصاق الدشداشة بظهري، واستقبلني الخلاء بصمت موحش..اقتلعتني الدهشة من خوفي وأنا أرى الطريق خالية إلا من لون الليل. سلطت ضوء المصباح اليدوي في كل الاتجاهات.. الآماد هناك نائية نابتة في بؤر الظلام لا شيء غير همس الليل وأشباح المخيلة، كل ما حولي مطفأ برغم اشتعال النجوم. عاد الدم يتدفق حاراً في عروقي. درت حول (التنكر) تفحصت الإطارات، فتحت خزان الماء، رشقت وجهي وبللت صدري، ثم عدت الى القمرة.. أدرت المحرك وضغطت دواسة الوقود، فاندفع (التنكر) سائراً من جديد. نظرت مرة أخرى الى ساعتي، ومن معرفتي بالصحراء قدّرت أنني على مشارف(بصوة2) أرض الجن.. مؤشر السرعة يشير الى الرقم(120) الطريق النابت في عمق الصحراء يتوسع كلما توغلت فيه. يتمزق ثوب العتمة بنصال ضوء مصابيح(التنكر) فيتعرى الطريق كاشفاً عن جلده الرملي بزواحفه ، وحشراته، ومطباته. وينطرح أمامي لتطأه إطارات (التنكر) وتتجاوزه ليعاود ارتداء ثوبه.. أشعلت آخر سيجارة في العلبة، وفتحت ثالث زجاجة بيرة، بانتصافهما بدا في رأسي نثيث دقائق الزمن الذي قضيته في ضيافة الشيخ الآصلب:(ياهلا.. يا هلا ..) تلقاني مرحباً: (وبالمهلي) أجبته وأنا أوقف (التنكر) الذي استفز صوت محركه بعض الجمال فأطلقت رغاء احتجاج.. الشمس النازلة غرباً فرشت إزاراً من الوبر الأحمر فوق (الكارات3) أنزلت ما ابتعته من المدينة، ثم ألقيت بنفسي بين ذراعي الشيخ الآصلب شاعراً بوخز لحيته المصبوغة بالوسمة قبل أن يسلمني الى البدوي الذي يليه. وهكذا درت على بقية البدو تاركاً خدي لوخز شواربهم ولعاب شفاههم.. صاح الشيخ على أحد الرجال، فانقض على كبش طرحه أرضاً وحز رقبته بخنجره.. لم ينقطع الشيخ الآصلب عن ترديد: (يا هلا ورحب) حتى جلسنا على (الغلايج4) التي فرشت أمام بيت الشعر.. تبادلت كلمة (بالخير5) مع الجميع وشربت بضعة فناجين من القهوة المرة المهيلة، ثم فتحت صرة الهدايا وقدمت الى الشيخ مشلحاً جلدياً وغمد خنجر من العاج المكسو بجلد الغزال.. فرح الشيخ واستمر يضرب صدره بكفه معبراً عن امتنانه.. وفجأة قدم علينا بدوي خطريف يسير كأنه يركض، وفي رمشة عين وصل وجلس دون أن يُلقي السلام.. تكوم قبالتي بفروته الصوفية الكالحة برغم قيظ ذلك المساء الحزيراني، كانت عيناه قلقتين لا تستقران على شىء، تقوس فوقهما حاجبان كثيفان بينما تشبثت بحنكه لحية بنية منتصبة كذنب(صكير الفار6) وقد تلون وجهه بلون الصحراء، وتبقع مثل ريش القطا.. كل ما في هيئة الرجل لم يدهشني مثلما أدهشتني جديلتان غليظتان تدلتا من فوق أذنيه كأنهما حيتان خبأتا رأسيهما تحت كوفيته المتسخة، وتركتا ذيليهما في حجره: (انه من بدونا) قال الشيخ الآصلب مجيباً على السؤال المُحوّم في عينيَّ: (مسكين به جنة) قلت: (ما هي حكايته؟) مشط الشيخ لحيته بأصابعه: (خليها تولي ففيها شواف7) قلت: (استحلفك بمن أنبت العود لما قصصتها عليَّ يا شيخ) أخرج الشيخ كيس التبغ، قبض بسبابته وإبهامه على قليل منه، وفرشه في الورقة الرقيقة، ثم قرضها بأسنانه المتآكلة، وبلل طرفها بلسانه، وبعد أن برم لفافته ألصقها ووضعها في سبيله. ثم ناولني كيس التبغ وقال: (كان هذا الذي تراه أمامك، رجلاً (زين)، كريماً، شجاعاً، له كبد بعير، وعين صقر، وأذن قطاة، يشم رائحة الخوف، ويسمع حفيف عباءة اللص من على بعد رصاصة، يعدو مع (الوضحة8) رأساً برأس.. إذا كلكل الليل. أغار على كهوف الذئاب وأجبرها على الفرار.. يُكَلِمُ الأرول، والضب، والعقارب، ويناغي الخيول، والأباعر.. يعاشر الجِنَّ، ويعرف حصاه من بين حصى الصحراء.. أتدري بما يفعله الذئب حين يبصر أحد الجِنِ ليلاً؟.. سحب نفساً عميقاً من لفافته، وزفر دخانها في وجهي.. يظل يطارده حتى يدركه التعب فينقلب الى حصاة، فيسرع الذئب، يرفع رجله ويبول على تلك الحصاة. فلا يستطيع ذلك الجني العودة الى هيئته الأولى، ويبقى حبيس تلك الحصاة حتى يُقتل الذئب أو يموت.. لقد قتل هذا البدوي الكثير من الذئاب وحرر الكثير من الجِنِ حتى عشقته تلك الجنية التي قتل ذئبها وأخذته معها الى (بصوة) ــ أرض الجن ــ وتزوجته على شرط أن لا يسألها أين تختفي في كل ليلة جمعه.. عاش معها وأنجبت منه، لكن حبه لها أجبره يتبعا في إحدى الليالي، فغضبت منه وجننته بعد أن عصرت كومة من الأفاعي ودهنت شعره بدهانها فنمت له هاتان الجديلتان اللتان تراهما، واللتان تنقلبان الى حيتين بعد انتصاف الليل، وتزحفان على جسده فلا يستطيع النوم ويظل هائماً يطوي الصحراء حتى تبزغ شمس الصباح.. لقد قصصناهما(بالزو9 ) فنمتا بأسرع مما نظن وأصبحتا أطول من ذي قبل.. قلت: (هل يسمح لي بلمسهما؟) حدقت بي العينان القلقتان بنظرة غاضبة، وارتفع الحاجبان المقوسان، ثم نهض ذلك البدوي فلاحظت عمق الفطور في كعبي قدميه الحافيتين قبل أن يغادر مثلما حضر.. قال الشيخ الأصلب: (لقد شمَّ رائحة خوف فيك) قلت: (أتدري أن بصوة تقع في طريقي) .. أطرق الشيخ الأصلب ثم قال: (لا تذهب.. بت عندي هذه الليلة والصباح رباح)  فكرت في المكائن والآلات التي تنتظر ما أحمله من وقود كي تستمر بعملها هناك في مشروع إضاءة البادية ومجمع إسكان البدو لذلك صممت على الذهاب صاح الشيخ: (ولدي صايل) نهض بدوي شاب دخل الشك وعاد بمسدس جديد لامع، قدمه الشيخ لي.. تمنطقت بالسلاح، وانطلقت بعد العشاء يلاحقني نباح كلب أشعث ظل يركض مكشراً عن أنيابه محاولاً عض إطارات(التنكر).. انتبهت الى أنني دخلت (بصوة) أرض الجن، شربت آخر قطرة بيرة في الزجاجة ورميتها،  ثم تناولت أخرى فتحت سدادتها بأسناني وأشعلت سيجارة من العلبة الثانية التي كنت قد فتحتها.. كان الشريط في آلة التسجيل قد صمت، فقلبته على الوجه الثاني وضغطت زر التسجيل أنت الربابة، وصدح صوت بدوي: (عكاب ذيب الخيل لوجن مراويس.) شعرت بالانتشاء فأطلقت صوت المنبه وانضممت الى صوت المغني: (وآنه عنان الخيل لوجن عزومي.. أوه.. و.. وه ) بانتهاء زجاجة البيرة بدأت مثانتي تضغط عليَّ.. أوقفت (التنكر) ونزلت.. إنني الآن في أرض الجن.. عليَّ التحسب لكل احتمال. نظرت فيما حولي.. (كارات)، وكهوف، وصخور، وشجيرات برية متناثرة. التحفت جميعها بفروة الليل.. في السماء نجوم تشهد وحدتي وانعزالي كل شىء طبيعي: (أيعقل أن يكون كل هذا الحصى من الجن؟) سمعت عواءً بعيداً تحسست المسدس فشعرت بألامان.. تناولت الإبريق ملأته من خزان الماء وانحدرت الى جانب الطريق وأنا أتلفت الى كل الجهات..(العرفج10 ) الذي جففته شمس حزيران يتكسر تحت نعلي، وقرب إحدى الحفر سقطت بقعة ضوء المصباح الذي أحمله على ثلاث حصيات ملساء.. لا يمكن أن أخطئ بمعرفة هذه الحصيات، إنها حصيات الضب يخرجها ليلاً ليجتمع عليها الندى ثم يسحبها نهاراً ويلحسها ليطفئ عطشه.. حين اقتربت منها قفز الضب وتسمَّر للحظات في منتصف الطريق بعدما أعشت عينيه مصابيح (التنكر) ثم زحف عابراً الى الجهة الأخرى.. قرفصت قرب حفرته، سحبت لباسي ورفعت دشداشتي. أفرغت ما في مثانتي وانتهيت، شعرت بالراحة بعد قضاء الحاجة واستدرت لأعود.. لكني لم أجرؤ على أن أخطو خطوة واحدة، لقد انطلق (التنكر) بسرعة مذهلة مثيراً زوبعةً من الرمال، ناثراً الحصى من تحت إطاراته وغاب عني وأنا أتتبع ببلاهة الضوء الأحمر المنبثق من مصابيحه الخلفية.. لحظات، وتخلّصت من دهشتي، استدعيت رجولتي وأنا أضغط بشدة على قبضة المسدس.. ندمت لأنني لم أستمع الى نصيحة الشيخ الأصلب.. فأبيت عنده حتى الصباح. لقد خاطرت بمروري في هذه المنطقة المسكونة بالجن وبمثل هذا الليل الموحش.. كنت أقف حائراً مستنفراً كل حواسي.. عيناي تحفران في الظلام، أذناي تلتقطان همس النسمة، قلبي يقرع طبوله في صدغي، وأصبعي يلامس الزناد.. كنت مستعداً لإطلاق النار على أي نأمة أو حركة.. ومن عمق الطريق الأسود المدلهم.. برزت عينان متوهجتان لكائن خرافي. اخترقتا صدر الليل برمحين من ضوء وهاج.. تلاهما زئير متصل اخترق سكون أرض الجن.. انه (التنكر) عاد بسرعته الجنونية نفسها وهو يتقدم باتجاهي.. لم أر أحداً وراء المقود بسبب الضوء الذي هاجم عيني.. كنت فزعاً، مذهولاً ، مرعوباً.. أدركت أنني مسحوق تحت إطاراته لا محالة، صوبت المسدس نحو القمرة وأطلقت النار.. انحرف (التنكر) عني ومرّ بجانبي، فرني هواءه فدرت في دوامته وسقطت فغاب عني كل شىء.. ولم أفق حتى وخزّ عيني ضوء الفجر.. كانت عينا الضب تنظران الى جسدي الممدد بفضول، ولعله كان يتساءل عما أفعله هنا في مملكته.. نهضت، فتراجع الضب الى الداخل وهو ينفخ مدافعاً عن حفرته.. كان المسدس لا يزال في يدي، وقد نفدت بطاريات المصباح الذي بقي مفتوحاً طوال الليل.. وبوسع الصحراء كانت دهشتي وأنا أرى ( التنكر) واقفاً في مكانه ومازال محركه يدور.. اتجهت إليه غير مصدق. بحثت عن أثر لحركته في الليلة الماضية فلم أجد.. صعدت الى القمرة وقبل أن أنطلق، انتبهت الى ثقب صغير منتظم في الزجاجة الأمامية للقمرة.. عند عودتي بعد بضعة أيام لم أجد ذلك البدوي أخبرني الشيخ الأصلب أنهم وجدوه مقتولاً برصاصة تائهة.

 

...................

(1 ) التنكر: سيارة حوضية.

(2 ) بصوة: منطقة في بادية السماوة يعتقد البدو انها مسكونة بالجن.

(3 ) الكارات: أماكن مرتفعة.

(4 ) الغلايج: البسط.

(5 ) بالخير: اختصاراً لعبارة ( الله بالخير)

(6 ) صكير الفار: صقر من نوع ردىء يتغذى على الفئران.

(7 ) شواف: نحس وسوء طالع.

(8 ) الوضحة: ناقة أصيلة بيضاء اللون.

(9 ) الزو: مقص كبير يستخدم لقص الصوف والوبر.

(10 ) العرفج: نبات صحراوي.

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2305   السبت   15/ 12 / 2012)

في نصوص اليوم