نصوص أدبية

في قاع النيجر / بان ضياء حبيب الخيالي

متلويا بين الصخور، راقصا بطرب على طرقات طبول الغابات مستنفذا كل نغمة وجوم في الصحاري الكئيبه، في ضجيج المدينة العابث، في صفاء عيون العائدين الى قراهم بعد غلة يوم متعب لتصبح لونا لامواجه المقدسة

في بقعه صغيرة خضراء قبل دخوله العاصمة نيامي حيث حشود أشجار الاكاسيا والكابوك النابتة بانتظام جوقة موسيقية حافة المجرى الوعر الشديد الانحدار، مرددة همسات الريح راسمة أشكال هبوبها، كانت الحكاية تنتظر في كوخ خشبي صغير مسقوف بالاغصان والاعشاب المجدوله الطويله ضمن مجموعة اكواخ متناثرة تشراب بشموخ الرماح محتضنة بداخلها عوائل الصيادين الفقيرة التي خرجت من المدينة بحثاً عن الرزق فعاشت جنباً إلى جنب في أشبه ما يكون بقرية صغيره وادعه تنام بسكينة في أحضان الشاطئ الاسمر.... جلست هانا تفترش حشية من صوف ملون تتناثر حولها مجموعة من فساتين وحلى نحاسية وفي يدها مرآة صغيرة تتطلع اليها وتبتسم لإنعكاس صورتها التي تشبه افريقيا بالقها وغموضها وسحرها وقوتها.

في السماء غيمة رقيقة مرت الان حجبت ضياء الشمس المزمجرة عن الشباك المحتشد بالاشعة فبدت الصورة المشوشة بالوهج اكثر وضوحا وقوة

سمراء داكنة اللون يميزها صفاء بشرة الزنوج الذي لا يتهيأ لبشرة أفتح يتربع انفها الأفريقي في مساحة من وجهها العريض، خداها الممتلئان صحة وعافية مزينان بغمازتين تغوصان في الحمرة اللاهبة التي غزت اللون البني عيناها اللامعتان بوهج عسلي تتألقان كنجمتين مؤطرتين بكحل أسود لم تصنعه يد إنسان تحفه رموش معقوفة مسنونة كرماح قتل همجية خصصت لتمزق الأفئدة وفمها الممتلئ الذي تكور الآن غيضا يزهو بحمل أجمل شفتين أفريقيتين في نيامي....

أشرقت شمس اليوم كما لم تشرق منذ ولادتها تحمل إليها فرحاً دام كل صباحها الذي قضته في تجديل شعرها الأجعد الطويل صانعة منه عشرات الجدائل التي أحاطت كإطار صورة خرافية بوجهها الجميل مذّيلة إياها بخرزات ملونة صغيرة ابتاعتها من بائعة عجوز تديم التجوال في قرى الصيادين، تخلصت من الثوب الضيق الذي أثار حنقها منذ لحظات وارتدت آخر تطلعت لصورتها بحيرة ثم ابتسمت متلمسة قلادتها الغريبة مستذكرة جلوس البائعة العجوز أمام باب الكوخ يوم أمس وهي تفترش الأرض الطينية القاسية واضعة أمامها قفتها المصنوعة من الياف الكاسافا والممتلئة بالحلي والأساور والتمائم وجمهور فتيات الأكواخ يتحلقن حولها فرحات بمرورها في قريتهن. تحتفظ صبايا القرية بكيس صغير تجمع فيه ما استطاعت من حبوب الذرة و الدخن واحيانا كنّ يحتفظن بقطعة مطواة من انية معدنية قديمة او عتلة عاطله ليقايضنها بالحلي عند مرور البائعة كل شهرين او ثلاثة من قريتهم، تذكرت وهي تتحسس النقوش الغريبة التي تزين القلادة ـ التميمة التي ابتاعتها أمس شرح العجوز لتلك النقوش السحرية الجالبة للحظ، لمعت القلادة في جيدها واحست وكأن سحرا يموج حولها فعلا يرفعها عن الأرض ويدسها في الغيوم واحتارت كثيراً وهي تستعرض فساتينها وفساتين أخواتها وصديقاتها حتى وقع اختيارها أخيرا على تلك التنورة الليمونيه المخرمة والمخططة بالوان الطيف كل الألوان أفضل فمشاعرها اليوم تضم كل الألوان..الفرح... الترقب.... الخوف ايضا ثم ستلبس فوقها السترة الحمراء القصيرة تلك فهذا اللون يناسبها جدا وشرعت سريعا في التنفيذ لبست تميمتها وأنسدلت الثياب مرسلة هالة من الألق حولها محيلة إياها لتحفة غالية تمثال آلهة أفريقية ربة النماء والخصب فتبسمت راضية عن منظرها وانسحبت متلصصةً من مكمنها نحو فناء الكوخ المسور بسياج من السافانا المضفورة بين اوتاد الاكاسيا بحذق ثعلبة صغيرة ليفاجئها منظر والدتها المقرفصة حول إناء الطحن الذي لايفارق يديها، رفعت الأم عيونها مبتسمة لمنظر غزالتها الجميلة متسائلة : ـ

ـ الى اين؟

ـ سأذهب ورفيقاتي بنزهة على ضفاف النهر(كانت تحاول كبت أنفاسها التي تلاحقت الآن بسبب تلك الكذبة التي تدربت على إلقائها بلا خوف كل الأمس).

هنيهة شطرت العالم إلى نصفين اتسعت بعدها ابتسامة الأم وهي تهمس كتائهة في ذكرى عزيزة:

ـ لا تتأخري.

واقتفت عيون الأم صورة الصبية التي تخطو برشاقة وسرعة نحو الشباب بفخر وسعادة وتاهت في ذكريات ماض ٍ سعيد كانت فيه نسخة مما تراه.... رمت النسخة الحديثة لتلك المبتسمة الدائمة الطحن قبلة سريعة وركضت نحو النيجر حاملة أحلام طفولة مضت وضحكات شباب يتفجر قلبها يزيل ما أحسته من ضيق لكذبتها الأولى.

كانت هي التي اختارت مكان اللقاء به، هو رفيق طفولتها حلم صباها وقصتها الدائمة حلمها الذي يوشك ان يلبس ثوب الحقيقة تفطن وهي تسترسل في الأفكار الجميلة إن الفرحة أفقدتها القدرة على المشي بهدوء وكأن الأرض لا تمتلك ما يكفي من الجاذبية لمنعها من التحليق بفرح....

تباعد الناس والأكواخ تباعا ًوتشاغلت (بينما انتظمت أنفاسها وخطواتها) بانتقاء باقة ورد من أزهار بريه نبتت في الجوار حينما مرت بسرب فتيات صغيرات يلعبن لمحت فيهن أختها الصغيرة والتي ركضت إليها متسائلة بابتسامه فخر: ـ

ـ إلى أين يا هانا...؟

ـ..............

ثم بقلق....

ـ أذاهبة إلى المنحدر الصخري...؟

ـ......................

ـ ألم تمنعك أمي من الذهاب إلى هناك...؟

ـ...........

ـ ألا تجيبين حسنا ً سأقول لأمي ولنرى. هل ستلتزمين الصمت عندما تؤنبك....

ولما لم تجب أيضا صرخت الصغيرة بحنق:

ـ هانا...!

وهانا التي كانت تبتعد مبتسمة اكتفت بإرسال قبلة للصغيرة المتميزة غيظا مجيبة بدعة: ـ

ـ لا تقلقي لن أذهب إلى هناك.

وابتعدت هازئة في سرها من مخاوف والدتها وأختها فقد كان المنحدر مكانها المفضل منذ الطفولة معبدها، بيتها السري هي تحفظ زواياه عن ظهر قلب ولأنه منعزل وهادئ كان مكان خلوتها المفضل دائما صحيح إنها انقطعت عنه في السنوات القريبة من يومها نزولا عند إلحاح والدتها لكنها قررت اليوم إن أجمل مكان يشهد ويبارك حبها الوليد، خشخشت جناجل قدماها المخضبتان بالحناء وهي تدخل منطقة الصخور الملساء المحاطة بأشجار تغسل أوراقها الريشية مياهه الهادرة....

النيجر يزأر منحدراً بقوة وسرعة لاطماً الصخور الصابرة ناحتاً إياها بأشكال عبثية حسب مزاجه في كل مرة ناثراً أشلائه شذرات تتطاير في الفضاء رائحة شهية تملأ المكان عطر الأشجار المغسولة بلجين النهر، رائحة الطين والنباتات النهرية والأحراش تملأ الجو بعبق سحري الاكاسيا تنثر ورودها الصفراء الزكية لوجه الماء وكانها تقدم نذورها لوجه معبودها الازلي.

جلست هانا مأخوذة بسحر اغنية الضفاف تلك لكن حضوره في مخيلتها سحبها من لجة السحر فتلفتت مترقبة مجيئه ولم تكد الدقائق تمر حتى رأته من بعيد هيكله الذي تميزه جيدا يقترب بقوة وامتداد هاهو يبدو من المسافة شامخا عظيما كإله الصيد الذي يقدم أباها له النذور قبل كل رحلة. فكرت قليلاً، انصتت لقلبها وتضاحكت في سرها فقد قررت في لحظة بطفولة تابى ان تفارقها ان تختبئ بين الصخور، نزلت بقدميها العاريتين الا من صندل خفيف متشبثة بالصخور الناتئة الملساء كانت التربة المتحجرة هناك مغطاة تماما بالطحالب حتى بدت ككتل خضراء من اللزوجة لطخت يديها وجعلت عملية النزول أكثر شيء مستحيل حاولت مرة أخرى التشبث والصعود متجنبة المناطق المكسوة بالطحالب فثوبها الان تلطخ بصورة مخجلة بالطمى ولكن توازنها بدأ يختل رغم إنها لعبت في طفولتها بكل سهولة في ذاك المكان، حتى التشبث والثبات كان شاقا جدا فقد اكتسب جسمها الضئيل بعض الوزن منذ وقت وهو يمضي لمحطات النضوج بل ان يديها المعروقتان كانتا تنزلقان مع كل حركة او محاولة للتوازن وعبثا حاولت التشبث بالصخور القاسية القلب والحادة الحواشي لكنها سرعان ما سقطت متدحرجة ومرتطمة بالنواتئ ومنها لمياه النهر القاتمة صرخة الرعب والمفاجأة ضاعت في الصخب المولول بينما تلقفتها الامواج سريعاً كقربان طال انتظاره ساحبة إياها نحو القاع....

طفت على سطح الماء فقاعات فضية لعبت بها دوامات الماء بينما تجشأ النهر قريرا.

سرب طيور بيضاء يشتت الآن الزرقة الصافنة يمسح وجه الشمس قليلا متابعا نحو المدينة القريبة وعلى الارض كان يقترب ببسمته الحالمة والتي لم تفارق شفتيه منذ الامس، بيده باقة ورد انتقاها وشذبها احاطها باغصان برية وربطها بشريط صغير. معيدا ترتيب ربطة العنق الانيقة التي استعارها من صديقه بالامس وهو يجلس متوفزا على الصخرة التي احتوت الجسد الرخص منذ قليل

كان خيالها حاضرا بكل سطوعه بالقرب ابتسامتها الساحرة كانت تضيء المياه صوتها كان يهمس كالحلم يسمع صوت الخرزات الملونة وهي ترتطم ببعضها لألتفاتتها الرشيقة يكاد يحس بدفئ يديها بين يديه

 

كان الوقت يمرّ ثقيلا ً متباطئاً و الشمس المزمجرة ترسل شواضا يتكسرعند أطرافها أوراق الاكاسيا اليانعه الخضار حدث نفسه بانها تاخرت قليلا وسرعان ما نشّ هذا الخاطر واستعاد ابتسامته مفكرا في ان اختيارها كان موفقاً فالمكان كان اسطوري الجمال نقل بصره بتنعم بينما عبثت يده بباقة الورد وهو يفكر في سبب تاخيرها تلتمس لها الأعذار فربما لم تجد العذر المناسب للخروج او ان امها طلبت منها ان تنجز شيئا من شؤون الدار او....

ومضى به الخيال نحو شواطئ سعيدة رحلت به عن الواقع فتخيل حفلة عرسيهما وتخيل أولادهما يتراكضون في الكوخ السعيد وتخيل و تخيل حتى وصل إلى نقطة أصبح فيها هرما ً يتوكأ على عصاه ولم يسعفه الخيال في أن يراها هرمة مثله فأمسك مستسلماً فهو لا يمكن أن يتصورها هرمة ولا حتى في الخيال هانا رمز الحب والشباب ما بقي العمر....

صارت اللحظات تتسرب سريعا من جراب الوقت وبدأت حرارة الشمس تخفت والبق ذاك الكائن المزعج الدؤوب بدأ يغزو المكان بجيوشه الجرارة معلنا ًأن حصة البشر فيه قد انتهت وبدأت حصة الحشرات. وتعاون البق والدقائق الممطوطة في جعل تفكيره يتجه نحو شواطئ أخرى : ـ

ـ لمّ لم تأت....؟؟؟ ربما كانت لا تأبه لمشاعره أصلا !

وربما كانت تضحك منه الآن في مكان ما....تقص حكايته لصديقاتها بعبث الطفولة الذي لم يفارقها يوماً، قد يكنّ مختبئات في مكان بالقرب يتضاحكن مشيرات بأصابعهن المحناة لشكله الغبي المنتظر بلهفة كم هو مضحك بردائه الجديد بياقته المبتلة عرقا وباقة الورد النائمة لفرط الحر بين يديه والتفت بانزعاج كأنه يرى أشباح فتيات تتضاحك بلؤم متخفية بين الصخور والأشجار وحل ّ الغضب محل الزهو الذي تملكه منذ سويعات. فنهض محتداً مكفهرا ورمى باقة الورد بغضب نحو النهر المزمجر بجنون ومضى يدق الأرض صابا جام غضبه عليها....

تشتعل المصابيح في الاكواخ البعيدة

الضوء يلون باقة ورد تتماوج سابحة نحو الافق الشاحب دون ان تفهم

لاشيء أكثر....

هكذا تنتهي الأشياء أو تبتدئ هيكل يبتعد ببساطة....

السماء تتلون بألوان قاتمة وغيوم بنفسجية تجري سريعا بأثوابها القطنية كي لا تفوتها الحفلة الأرض تمتد بحكايات لا تنتهي وأطفال يتراكضون بين أصوات العائدين وهمسات الترحيب التي يطيرها الهواء، بينما تتحرك الظلال لتغزو القرية الصغيرة تلون الوجوه والأكواخ والأشجار تتسلق الحيطان المضفورة وتتسمع لتكتكات المقالي وأزيز نار المواقد وهمسات الجدات الحانية.

رائحة السكون تحل سريعا مع الغروب في القرى وفي البقعة الجميلة كفردوس حيث النيجر يزأر متلويا بحنق كل مرة كان الان بأصابعه المائية يتلمس بانبهار نقوش تميمة حظ على جسد صبية كأنها الهة جمال ترقد في قاعه الاسود، منسدل بهدوء ورقة بدت امواجه في هذه اللحظة تغني تهويده حب مسالمة.

 

 

.............................................تمت.......................................................

كان جميلا لو انه جاء ووجدها جالسة بخشوعها النبيل فجلس الى جوارها بوجهه المتقد خجلا وعشقا لو انه نسي باقة الزهر تائها في عينيها فتدحرجت على الصخور ومضت سابحة مع الموجات نحو الافق الاصفر حاملة للزمن الكئيب بشارة امنيه تتحقق

او انه وصل بعد ان سقطت وفكر مثلها ان يخطف البسمة من اجمل شفتين بان يختبئ ويفاجئها فتسلق الصخور نزولا وانزلق كما صار وبينما الباقة تجد طريقها للأفق كان اله الصيد ينام بجنب الهة الخصب الى ما لا ناهية له من الاحلام

ولكن.... ما حدث هو ما يحدث دائما.

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2306   الاحد   16/ 12 / 2012)

في نصوص اليوم