نصوص أدبية

المعارض

سافر مرة أخرى وعاد من حيث أتى. كان داعي السفر هذه المرة يختلف عن سبب السفر في المرة الأولى. في المرة الأولى ترك أهله؛ زوجته وولدين في السابعة والثامنة وأم كبيرة في السن ومريضة. في هذه المرة ترك زوجته وفي بطنها طفل جديد وولدين يكبران أما امه فقد ماتت قبل ان يعود من الخارج بسنتين.

"ما استطيع اتحمل اكثر،" قال لزوجته ليله سفره. "الوضع جدا خطر."

"لعد ليش رجعت؟" سألته بلهجة تأنيب.

++++++++++

حين عاد الى الوطن بعد نيسان 2003 كان في باله انه سيجد من يستقبله استقبالا يليق به على المستوى الرسمي والثقافي كمثقف سياسي كان معارضا في المنفى. وكان في باله انه سيجد بعد وقت قصير من يعرض عليه ان يتولى منصبا رسميا رفيعا في احدى المؤسسات الثقافية الجديدة مكافأة له على موقفه الوطني. وانتظر شهورا كان يكتب خلالها هنا وهناك مرحبا بالوضع السياسي الجديد، مادحا ومدافعا ولكن دون جدوى ولا مردود. كانت اعمال العنف قد بدأت تتسع في كل مكان والوضع الأمني يتدهور يوما بعد يوم ومظاهر الاحتلال العسكري في الشوارع تهدد حياة الناس اليومية. ولكنه لم يتخل عن طموحه وتطلعه في ان يتولى منصبا ثقافيا رفيعا. إلا ان الأيام لم تأت له بشيء مفيد.

"هذا وضع غير طبيعي." كان يقول لبعض اصدقاءه من المثقفين علنا، بلا خوف ولا وجل، حين يلتقي بهم ويجلس إليهم. " لم اكن اعرف ان الامور ستجري بهذا الشكل. لو كنت اعرف لم ارجع من الخارج ... لم اعد اتحمل. العنف ينتشر في كل مكان والدماء تراق كالماء في الشوارع والناس الابرياء يقتلون بلا حساب كل يوم .... الذين يتولون الحكم الآن ليسوا افضل من الذين حكموا سابقا ..... توجد الآن مقاومة ضد الاحتلال فهو الذي تسبب ويتسبب بكل هذا العنف واراقة الدماء وهؤلاء الابرياء الذي يموتون بالمئات يوميا. لم اعد اتحمل. هذا وضع غير معقول ولا مقبول. ضميري يحاسبني."

"يعني جماعتك اللي رجعو وياك كلهم بعد ما يتحملون هذا الوضع ويريدون يسافرون مرة ثانية؟" قالت زوجته.

"اكثرهم."

" وانت واحد منهم؟ جنت دائما تكتب لي شوكت ارجع للوطن واستقر بي لو مهما يصير بس نخلص من هذا الظالم، صحيح؟"

" صحيح، لكن ما كنت اتصور الوضع راح يكون خطر بهذا الشكل. كنت افكر الوضع راح يكون آمن ومستقر بعد مرور شهر.. شهرين ... ثلاثة .... اربعة، ويعيش الناس حياة جديدة حتى الواحد منهم يكدر يخطط ويعمل ويتطلع للمستقبل."

" انت رجعت لوظيفتك السابقة، شتريد بعد، يا عيني؟" قالت تهاوده.

++++++++++

كان يعمل منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي موظفا في احدى المؤسسات الثقافية الحكومية. قبل ذلك كان سياسيا ولكنه قرر ان يطلق السياسة وهو في السجن بعد ان أُلقي القبض عليه في احداث رمضان 1963. كانت خيبة أمله كبيرة في الحزب الذي لم يُحسن الاستفادة من الفرصة التي اتيحت له بعد قيام ثورة 14 تموز 1958؛ انهارت احلامه وتبخرت طموحاته وبقي عاطلا بعد اطلاق سراحه لشهر او شهرين قبل ان يحصل على عمل في جريدة محلية محررا في صفحتها الثقافية. ولكنه لم يكتف بعمله في الجريدة. كان يفكر في مستقبله. وجد نفسه يكتب باستحياء هنا وهناك كتابات يجاري فيها ويحابي الحزب الذي عاد إلى السلطة عام 1968 من جديد وبدأ يُنشأ المؤسسات الثقافية والاعلاميةالجديد الخاصة به.

"أنصحك،" قال له صديق كان معه في السجن وهما يجلسان مرة في غرفة التحرير. "لن تحصل من هؤلاء على شيء إلا إذا ذهبت معهم بعيدا. واعتقد انك لا تستطيع ان تذهب معهم بعيدا دون ان تتخلى عن الكثير من الأشياء التي تخبر بأنك مثقف تقدمي وإنسان. ستجد نفسك وقد خسرت كل شيء، ربما، قبل ان تفوز بشيء حقيقي يُرضي طموحاتك ويحقق تطلعاتك. صدقني. لا تقترب كثيرا منهم حتى لا يبدأوا برمي شباكهم عليك."

كان الشعور بالخسارة يؤلمه والرغبة في التعويض تشغله. وكانت طموحاته تلح عليه واحلامه  تؤرقه. ولم يستمع لصديقه وبدأ يتقرب اكثر من السلطة الجديدة ويغازلها بكتابات سياسية مباشرة دون ان ينسى اهتماماته الأدبية طبعا. كان يكتب الاعمدة اليومية في الصحيفة التي يعمل فيها ويكتب الدراسات النقدية ويكتب الشعر ايضا. وسقط في الشباك اخيرا؛ تحول نهائيا من اليسار إلى اليمين حاله حال بعض الكتاب الشباب من امثاله الذين التقطتهم السلطة الجديدة مع مجموعة أخرى من الكتاب من المقاهي والبارات والمواخير وارصفة الشوارع واحتوتهم في مؤسساتها الثقافية والاعلامية. واعتقد ان الطريق اصبح ممهدا وسالكا لتحقيق ما يحلم به ويطمح إليه. ولكن، كانت السلطة، ووفق تقديرات وحسابات سياسية وحزبية، ترعى وتقرب كتابا معينين وتدفع بهم إلى الواجهة الاعلامية وتضعهم في دائرة الضوء وتهيأ لهم مجالات الطبع والنشر والشهرة والظهور في الأوساط الثقافية والأدبية وتتجاهل او تهمش في الوقت نفسه كتابا آخرين. وبدأ يسر للبعض من اصدقائه، من يأمنه على نفسه ويأتمنه على افكاره، انه لم يعد يقبل بالوضع السياسي الحالي، فالحرب مع إيران بدات قبل ست سنوات قُتل فيها آلاف الشباب ولم تنته حتى الآن، والظلم يلحق بالناس؛ السجون مليئة بهم والاعدامات تطالهم والتعذيب يمارس عليهم، وحياة الناس المعاشية أمست صعبة جدا. كما ان القيود تفرض على الحريات؛ حريات الفكر والرأي والكتابة والقول واشتداد هذه القيود بوما بعد يوم ... إلى آخره.

"لا أستطيع. أشعر بأني اختنق هنا. لا أستطيع تحمل هذا الوضع. لابد من وضع سياسي جديد. أنا مثقف وعليَّ ان اعمل شيئا من أجل الناس."

" لماذا لا تسافر إلى الخارج والحال هذه؟" قال له صديقه. " تستطيع ان تعمل مع المعارضة هناك."

" ها؟ أفكر." قال.

وفكر كثيرا وتردد كثيرا قبل ان يقرر اخيرا. ترك أهله؛ زوجته وولدين في السابعة والثامنة وأمه المريضة، وذهب أولا إلى بلد عربي واقام فيه اكثر من سنة. وعمل، بعد شهور من العطالة وبعد محاولات منه وتوسطات من مثقفين آخرين سبقوه إلى هذا البلد، في صحيفة محلية ضيقة الانتشار محررا بأجر غير مناسب مع آخرين؛ شباب يصغرونه في العمر كثيرا، الصفحة الأخيرة فيها، ناقلا من مواقع الانترنيت، الذي تعلم أولياته ايام عطالته في هذا البلد العربي، اخبارا فنية ورياضية عن نجوم السينما والرياضة والأخبار الطريفة. ولم يكن يجد الوقت الكافي للتفرغ لاهتماماته الأدبية والكتابة فيها. ولم يكتب ايضا شيئا في السياسة ولم يقل شيئا عما يجري في وطنه طيلة اقامته في ذلك البلد العربي. كان يكتب في اوقات متباعدة إلى زوجته التي ذهبت تعيش مع ولديها في بيت أهلها ويسأل عن أمه التي تركها مريضة ويرسل لهم بعض النقود حين تتوفر لديه. وكان يتابع وهو يقيم في ذلك البلد العربي اخبار المثقفين والكتاب من ابناء وطنه الذي يقيمون ويعيشون في المنافي الأوربية ويتخيل الحياة التي يحيونها في تلك البلاد. ومع الأيام استطاع ان يتعرف على بعضهم عبر الانترنيت. كان يقرأ مقالا او قصة او قصيدة شعر لاحدهم فيكتب له مادحا ومشيدا. وكان هذا الكاتب يشكره على مشاعره وعواطفه ويتمنى ان يأتي اليوم الذي يلتقي به وقد تخلص الوطن من محنته  ويعود مع الآخرين إلى الأرض التي ولدوا ونشأوا فيها. وكان هو يتمنى، ردا على رسالة الكاتب التي يتمنى فيها العودة إلى وطنه وأهله، الذهاب إليه وإلالتقاء به حيت يقيم ويعيش في البلد الأوربي من أجل ان يتناقشا ويتبادلا الأفكار والآراء حول الثقافة والأدب ... إلى آخره.

بدأ يعمل على الخروج الى بلد أوربي. خطط للحصول على لجوء سياسي وعمل على اقناع من يهمهم الأمر في وكالة الهجرة في البلد العربي بأنه إنسان كان مضطهدا سياسيا في وطنه وقد أُجبر على ترك وظيفته وعانى من الجوع والحرمان هو وعائلته قبل ان يتمكن من الهرب خارج وطنه خوفا على حياته ... إلى آخره.  ونجح في اقناعهم. سافر إلى واقام في بلد اوربي اكثر من خمس سنوات، لم يُظهر فيها أي نشاط سياسي؛ لم يكتب شيئا ضد السلطة في وطنه ولم يشترك يوما في مظاهرة تندد بالسلطة في وطنه ولم يشترك يوما في ندوة سياسية تفضح السلطة في وطنه. ولم يتطرق يوما الى سلوك السلطة وممارساتها إلا مرات قليلة جدا في جلسات خاصة جدا مع اصدقاء يثق بهم جدا. كان خائفا كما الحال مع الكثيرين من امثاله من ان تكون للسلطة في وطنه آذان في حيطان المكان الذي يجلس فيه وهو في بلد الغربة. بدلا من ذلك بدأ يتكيف للحياة الجديدة في اوربا ويطمأن إليها ويفكر في الاستقرار فيها. ولكنه، كان يتذكر وطنه ويحن إليه ويشتاق إلى أهله حين يجلس مع أولئك الأصدقاء الذين يرتاح ويطمأن إليهم ليلا او نهارا ليشربوا ويتحدثوا ثم ليصخبوا ويعربدوا ثم ليسبوا ويشتموا باصوات خافتة (ذاك الرجال) الذي يحكم وطنهم بالحديد والنار. وكان هو الوحيد من بينهم المتحفظ والمتهيب حتى إذا ما ثمل وفقد السيطرة على افعاله واقواله راح يردد أمام الجميع انه سيعود يوما الى الوطن ليبدأ حياة جديدة في ظل وضع سياسي جديد.

وعاد إلى الوطن بعد نشوء الوضع السياسي الجديد.

++++++++++

" يعني راح تتركنا مرة ثانية؟" قالت الزوجة متذمرة.

" ما اكدر اتحمل اكثر. الوضع خطر جدا."

" وإلى متى، نبقى عايشين هنا وانت عايش بالخارج؟"

" إلى ان تهدأ الاوضاع ويستقر البلد، يا عيني."

" وإذا ما هدأت الاوضاع وما استقر البلد، راح تبقى عايش بالخارج وآني والولد عايشين عالة على أهلي؟ تقبل اولادك يبقون بلا أب؟"

" لا ما اقبل. راح اشتغل بالخارج مع المعارضة وابعث لكم مصروف كل شهر وانت تبقين مع الاولاد، يا عزيزتي."

وسافر مرة أخرى وعاد من حيث أتى. في هذه المرة ترك زوجته وفي بطنها طفل جديد وولدين يكبران اما أمه فقد ماتت قبل ان يعود من الخارج بسنتين. عاد الى البلد الأوربي الذي رجع منه بعد سقوط النظام. هناك بدأ ينشط ضد النظام السياسي الجديد؛ يهاجم ويسب ويشتم من يتولى الحكم في هذا النظام بالأسم والتعيين بلا خوف ولا خشية ولا وجل. واصبح مطلوبا في وسائل الاعلام؛ يكتب في صحف عربية ويكتب على مواقع الكترونية عراقية وعربية ويظهر في فضائيات ويحضر مؤتمرات ويشترك في ندوات وانشأ موقعا الكتروني خاص به يكتب ويستكتب فيه كلَ من هواه مع هواه. واصبح اسمه معروفا ووجهه مألوفا ككاتب ومثقف سياسي معارض مرحب به، خاصة في الدول التي تقف ضد النظام السياسي الجديد في وطنه. ومع الأيام كان يداخله شعور مريح ومرضي بأنه قد حقق اخيرا طموحاته وتطلعاته وصار شيئا مذكورا حتى انه نسي، او خُيل له أنه نسي، خسارته في السياسة وخيبته وفشله فيها قبل اكثر من اربعين عاما. كان خطابه الاعلامي حيث يذهب وحين يتحدث يدور حول وطنه الذي سيتحرر يوما من الاحتلال وحينها سيعود، هو والآخرين المعارضين من أمثاله، ليبدأوا حياة جديدة في ظل وضع سياسي جديد. ولكنه كان يُخفي، في داخله، شعورا آخر ينمو ويكبر مع الوقت فيملأه بالحزن والأسى. كان يخاف ان ينقضي العمر في المنفى ويموت في الغربة بعيدا عن الوطن والأهل دون ان يستطيع في كل الأحوال العودة إليه مرة أخرى ليبدأ حياة جديدة في ظل وضع سياسي جديد.

 

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1223 الاثنين 09/11/2009)

 

 

في نصوص اليوم