نصوص أدبية

عيون إيزابيل

 محفل ينتصب أمام ناظريه لا يراه سواه.. فلذة من الحياة تسعى.. شلاّل دلالٍ وغنجٍ ينحدر من قوامٍ هو العاج والمرمر كما ينحدر الثلج الذائب من أعالي الجبال ماءً يترقرق إلى السّفح.. يلامس الحجارة فيحوّلها رخاما أو يصقلها فتصبح طهورا للسّقيم العابد..

أيّ إزميل نحتها من غير سابق مثال؟!..

أيّ يدٍ أبدعتها وأخرجتها روعة للناظرين؟! ..

يا لها همزة وصل بين العالم والماوراء!..

تبارك هذا الجمال المرفوع.. آية تتجدّد كلّ لحظة.. قاعدته موسيقى وتاجه شعر كستنائيّ تنزلق عليه اليد ولا تثبت.. تباركتَ أيّها الملاك النافخ في الأرحام..

تباركتِ أيتها الأرض وتباركت ثمرتك.. بوركت لحظة وصال كانت أثرها الخالد..

***

رآها أوّل مرّة تتجوّل صحبة والديها على كورنيش مدينته الواقعة في الضواحي الشمالية للعاصمة.. لم يشعر لحظة أنّها أجنبيّة رغم ملامحها الدّالة على ذلك..

قال لنفسه: هناك طائفة من النّاس وهبتهم الطبيعة تأشيرة عبور إلى القلوب فتمتّعوا بالمواطنة العالميّة..

وانطبعت في ذاكرته شريطا حيّا يشهد أنّ أروع المشاهد تخطئها عين الكاميرا.. وأنّ النّظر آية الآيات ومعجزة المعجزات وملحمة الإنسان العابر وذخيرة الوعي المكثف..

كان يستدعي هذا الشريط كلّما افتقرت نفسه إلى إحساس يكون لها منبع فرح فتستوي في داخله الرّوعة تنعكس على مرايا النّفس... ذالك جزاء المبصرين..

***

بعد انتهاء العطلة الصيّفيّة عاد إلى الجامعة وإلى المركز الثقافي الألماني الذي كان يتردّد عليه ليطّلع على الدّراسات الإستشراقية الهامّة في مكتبته.. أثناء دخوله غرفة المطالعة استوقفته ورقة علّقت على زجاج مدخلها كتبت عليها العبارة التّالية بالفرنسية: "طالبة تتقن الألمانية ترغب في تبادل دروس في اللغة العربية.. الرّجاء الاتصال بحافظة المكتبة" وجد في الإعلان فرصة ليحسّن معرفته باللغة الألمانية فتوجّه مباشرة إلى السيّدة حافظة المكتبة وعبّر لها عن رغبته في تبادل دروس الألمانية..  فطلبت منه الانتظار برهة ثم عادت ومعها تلك الآنسة الرّائعة التي سبق له أنه شاهدها صحبة والديها على كورنيش مدينته.. قال في سرّه: لو طلبت الجنّة.. ثمّ استدرك.. لعلّها من الجنّة رسولة الجمال والسّلام والمحبّة..

كان يعتقد أنّ الجنّة فوق الأرض وكذلك الجحيم.. "و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا".

- الآنسة ايزابيل كورادو.. قالت السيدة حافظة المكتبة وهي تشير إليها بكفها وتنظر إليه..

- السيّد ضياء الهاشمي وهي تشير إليه وتنظر إليها.. السيدة حافظة المكتبة امرأة تحسن التعامل بأقل كلام.. كان يحسّ في عينيها قدرة على النفاذ.. لعلّها اكتسبتها من فرط احتكاكها بالكتب والنّاس.. فيها بقيّة من جمال بعد أن ذوى ربيع كان بين فمها وعينيها.. بريق عينيها يشهد أنّها عاشقة قديمة للحياة.. لعلّها تفهمها الآن أكثر ممّا كانت تفعل في ما مضى من أيّامها.. يلزمنا الكثير من الوقت لنصير شبابا.. أليس كذلك.. لعلّها في الوقت الذي استغرقه التعارف كانت تتخيّل طبيعة هذه العلاقة.. بعد أن تعارفا  قالت: حظّا سعيدا.. أحسّ أنّها موجّهة إليه..

***

ايزابيل كورادو طالبة تدرس اللّغة الفرنسية بالجامعة . والدها فرنسي من أصول اسبانية يعمل ملحقا ثقافيا  بالسفارة الفرنسية ووالدتها طبيبة متخصّصة في الطب النفسي ملحقة بوزارة الصحّة.. كانت تكلمه بلغة فرنسية تنطقها بلكنة زادها صوتها الرخيم جمالا.. كانت تنطق اسمه ديا.. تقلب الضاد دالا وتنطق الياء مفخّمة فيعجبه هذا التحريف الجميل ويشعره بالحميمية.. كانت إذا رفعت رأسها عن الكتاب ونظرت إليه يتغيّر العالم من حوله.. يعود إليه بريقه ويستردّ قدرته على الإبهار ويكتسب بهجة الخلق الأوّل... سبحان من خلق عيون ايزابيل..

كان يعتقد أنّه من العبث التفكير في وصف عيون ايزابيل أورسمها.. لكأن فيهما سرّا يستعصي على الكلمات والأشكال والألوان.. يقول لنفسه: "هناك أشياء لا تقابل إلاّ بالصّمت والخشوع منها عيون ايزابيل.. إنّها اللّغة الوحيدة المعتمدة في مملكة الرّوعة والصلاة الوحيدة المقبولة في مسجدها الجامع..

كان كثيرا ما يحدّثها عن الشّعر روح اللغة العربية وديوان العرب الحافظ لخصوصيّتهم ومزاجهم وكان يبيّن لها أنّه قائم على الموسيقى والإيقاع وأنّ كلّ حضارة موسومة بلغتها.. تضع خصوصيّتها من خلال أصواتها وإيقاعها ووقعها على الأذن والقلب والجهاز الداخلي والذبذبات التي تحدثها في الدماغ.. اللغة عالم مدهش.. هذه هي النتيجة التي ينتهي إليها في كلّ مرّة يحدّثها عن اللغة.. حتّى أنّه يمكن اعتبار الإنسان ظاهرة لغويّة.. اللّغة سلاح بالغ الخطورة.. كان حديثه يزيد من شغفها بلغة القرآن وحرصها على النفاذ إلى جوهرها والوقوف على أسرارها..

أهداها ديوانه الشعري الأوّل وكتب على الصفحة الأولى الإهداء التالي: "إلى عينين وهدبين.. إلى عين تحرسني وعين تسقيني.. وهدب يظلّلني وهدب يغطّيني.. ومهره باسمه – ضياء الهاشمي.. رجته أن ينقل لها الإهداء إلى اللّغة الفرنسية.. رفض أن ينقله متعلّلا بخوفه من ضياع المعنى قائلا: وهل يظل شعرا لو نقلته.. ألم نتّفق أن كلّ حضارة موسومة بلغتها وكلّ لغة موسومة بثقافة صاحبها وطبعه ومزاجه.. اعتبريه تمرين منزليا.. عودي إلى القاموس وفكي أسراره وقفي على معناه. نظرت إليه وفي عينيها إصرار جميل قائلة:

عندي من ينقله إلى الفرنسية دون أن يضيع معناه.. سآتيك به غدا منقولا كما لو أنه كتب بها أصلا.. قال لها: انتبهي.. حذار من خيانة النصّ.. الوفاء من شيم النبلاء يا ايزابيل.

من الغد جاءت بالإهداء منقولا إلى الفرنسيّة مع استيفاء للمعنى عجيب وباختيار للألفاظ أنيق ممّا يؤكد أنّ الناقل  يمتلك ناصية اللّغتين بيسر.. وقد نقل حتى معنى اسمه ولقبه العائلي Claire De HACHEM فسألها عن ذلك.. أخبرته أنّ والدها سبق له أن اشتغل بدمشق وأنّه يتقن اللّغة العربيّة وأنّه هو الذي شجّعها على تعلّمها وأنّه يحبّ العرب ويعتبرهم أجداده..

قالت له: وضعت ديوانك فوق مكتب والدي مع ورقة رجوته فيها أن ينقل لي الإهداء.. وفي الصبّاح وجدته قد فعل مع كلمة أسعدتني.. أتحبّ أن تسمعها؟!!

- بالتأكيد.. كلّي آذان صاغية..

- وجدت العبارة التالية بخطّ والدي الأنيق: تقبّلي تهانيّ على الإهداء.. حظّا سعيدا يا عزيزتي..

- وأنا بدوري أهنئك بوالدك.. لقد احترمته حتّى قبل أن أراه..

***

كانا مرّة يتجوّلان حول البحيرة البونيقية في الضاحية الشمالية للعاصمة عصر أول يوم من أيّام فصل الربيع فالتفت نحوها قائلا:

- هل تخمّنين ما أتمنى اللّحظة؟!

- ما أعلمه هو أنّك حالم رائع..

- أتمنّى اللّحظة أن أكون بجعة لأسبح في بحيرة عينيك الصّافتين..

- صورة رائعة.. وهل تخمّن ما أتمنى أنا بدوري؟

- ما أعلمه أنّ أمنياتك لا تقلّ عنك روعة..

- أتمنّى أن أكون حلما يسكن جمجمتك لأرى عالمك الداخلي...

- أنت شريط من الأحلام ينوّر عالمي الدّاخلى..

- إنّي أجد فيك مصداقا لما قاله والدي في العرب..

- وماذا قال والدك في العرب؟..

- إنّ مناجم الذهب وحقول النّفط الحقيقيّة هي تلك التي في أذهان العرب لا تلك التي في باطن أرضهم!؟..

- لقد صدق والدك في ما قال عنّا وبالمناسبة بلّغيه سلامي واحترامي..

- لقد عبّر لي مرّة أنّه يودّ أن يراك..

- إنّها رغبة مشتركة.. لعلّ أجدادي وأجدادك التقوا في الأندلس.. ألم أحدّثك أن والدتي من أصول أندلسية موريسكية؟..

- إنها إفادة مهمّة جدّا.. سيسرّ بها والدي كما سررت بها.. حقا إنّ العالم صغير جدّا..

- حتى أنّه لا يسع أحلامنا!..

***

لم يكن يملّ من النّظر إليها.. يتملّى سرّ الخالق في ما خلق وأبدع.. سرّ اللّون والشكل، سرّ الحركة والصوّت، سرّ الرّوح والجسد، سرّ الظاهر والباطن.. وترجمان كلّ ذالك مظهره عيناها الرّائعتان.. كتب مرّة على ظهر كتاب:

عيون ايزابيل مرآة تنعكس عليها فتنة العالم.. سبحانك يا إلهي.. تبارك اسمك وجلّت قدرتك.. خلقت عيون ايزابيل وقلت:

"ألم نجعل له عينين"...    

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1226 الخميس 12/11/2009)

 

 

 

في نصوص اليوم