نصوص أدبية

عمامة سدارة عقال طربوش شروال خوذة

hamed-fadilالمقطع السابع من

رواية العلبة

 

 


عمامة سدارة عقال طربوش شروال خوذة / حامد فاضل

 

كلما هززت جذع العلبة تساقط صوراً تُنَشِط ُالذاكرة، تستحضر ما حدث وانقضى ومضى من أحداث، لتضخها في نسغ شجرة المخيال، فتورق وتثمر حكايات جديدة.. يبدو أن الصورة التي التقطتها من العلبة الآن صورة توليفية. ربما استعان أبي بمصور فنان حاذق في فن الكولاج، ليختار من عدة صور مختلفة الأزمنة والأمكنة، ستة رجال متنافرين متناقضين متفاوتين في الوعي والثقافة والعرق والانتماء ويلمهم في صورة واحدة.. يتابعني الشيخ بعينين خبيرتين وأنا أتطلع في الرجال الستة من اليمين الى اليسار.

الرجل الأول: وجه معافى. عمامة كبيرة، لحية طويلة، جبة عريضة، عباءة فوق الكتفين، رصعة في الجبين، خاتم في اليمين، وكلاش في القدمين.. تذكرت قصيدة أين حقي للشاعر محمد صالح بحر العلوم. قلت للشيخ: (أتود أن أقرأ القصيدة) عقب الشيخ: (سواء قرأت أم لم تقرأ يبقى الحق بعيد المنال).

الرجل الثاني: وجه مبتسم، سدارة كأنها زورق مقلوب، ربطة تدلت من العنق، منديل يطل من جيب السترة، حذاء لامع، مسبحة بين أصابع الكف الأيمن، وخاتم في بنصر الكف الأيسر.. سألت الشيخ: (بم تذكرك هيئة هذا الرجل) أجاب الشيخ: (بالأفندية مدراء البلدية في العهد الملكي)

الرجل الثالث: وجه قروي حَمَصَتْهُ شمس الجنوب، شارب كث، عقال غليظ  فوق الرأس ، انساب من تحته يشماغ مرقط ليتكأ فوق الكتفين المستورين بالعباءة. الرجل تنكب بندقية قديمة، وقبضت كفه على عصا (المكوار).. عرضت الصورة لعيني الشيخ. فقال: (لعله سركال من سراكيل  شيوخ الإقطاع الذي كان سائدا قبل ثورة 14 تموز 1958) 

الرجل الرابع: وجه مدور منفوخ، طربوش حطّ على الرأس، حاجبان كثيفان، عينان غاضبتان، لحية مشذبة، شارب كذنب العقرب، كف تقبض على سوط.. وجه ذكرني بالولاة العثمانيين الذين قرأنا عنهم في كتب التأريخ المدرسية.. سألت الشيخ: (بم يذكرك هذا الوجه) قال الشيخ: (بأولئك الباشاوات العثمانيين المولعين بالنياشين، والخمرة، والجواري، والغلمان، والأراكيل) أغمض عينيَّ، أتخيل وجوههم الحمر كالبنجر. أشم رائحة العرق من أجسادهم، ورائحة الثوم من أفواههم، أسمع تجشأهم، وارى صدورهم المنفوخة، وأنوفهم العالية، وملابسهم الملونة المزينة بالخيوط الذهبية، المطرزة بالبريسم، المحددة بالسنجاف، وأحزمتهم الجلدية، وأحذيتهم الطويلة الأعناق.. أفتح عينيَّ إذ أسمع صوت الشيخ: (إنهم هنا في ثنايا كتابي يجتمعون تحت عبارة (وأمرهم شورى بينهم) يصدرون الفرمانات ويتكلمون بلغة عربية ركيكة.

الرجل الخامس: طويل ضخم مفتول العضل، يحمل بندقية طويلة.. يشي زيه عن هويته.. بادرني الشيخ حين وقعت عيناه على هيئة الرجل: (هذا واحد من الكورد الذين قاتلوا الأنكليز في البصرة تحت قيادة الشيخ أحمد الحفيد عام 1915)

الرجل السادس: وجه رجل وسيم، على الرأس خوذة كالطاجن، حاجبان كحاجبي امرأة، عينان كعيني قط، حليق الشارب، حليق اللحية، تمنطق بمسدس كبير في قراب جلدي، بنطاله الخاكي القصير يكشف عن ركبتين ملساوين، ساقاه في الجوارب، وقدماه في البسطال.. زي عسكري ذكرني بقيافة الجنود البريطانيين في عشرينيات القرن العشرين.. هذه المرة قال الشيخ قبل أن أساله: (هذه صورة جندي من القوات البريطانية التي احتلت العراق عام 1917 ولعله واحدا  من الجنود الإنكليز الذين حاصرهم رجال عشائر السماوة في واقعة العارضيات أيام ثورة العراقيين الكبرى عام 1920، فتمترسوا وراء الجنود الهنود السيخ والكركة.

صورة قديمة سَلَبَ الزمان بريقها، فبدت شاحبة مثلومة الحاشية. أختصر أبي فيها حقباً من التأريخ المعاصر للبلدة منذ كانت قرية صغيرة انتبذت لها مكاناً الى الضفة اليمنى من شط العطشان، الذي عُرف باسم فرات الراحية، لتُعرف تلك القرية باسم السماوة، ولتصبح سكنى للجنود العثمانيين الذين أطلق الأهالي عليهم لقب العزاب، لأنهم تركوا عوائلهم في المدن التركية.. ومثلما هجر الفرات الراغب الملول مدينة (أوروك) ليتركها أسنمة من تراب، هجر السماوة القديمة حين غيَّر مجراه في أعوام معدودات، لكن السماوة الصبية الناضجة لَمْ تستسلم للحزن كما استسلمت أمها (أوروك) ولَمْ تجلس في لظى الصيف في انتظار غيوم الشتاء، ثم لَمْ تستغش ثوب التراب لتصبح أثراً بعد عين، بل صَرّتْ متاعها ولحقت بالنهر الذي عشقت، حتى إذا تعب الفرات من الجري ونصب أرجوحته بين النخل وبين السدر، أتته السماوة تمشي على استحياء، فرق لها وأعد لها على ضفتيه متكأ من الخصب بين كوفة العراق وبصرته، فطوقته المدينة  بذراعيها القشلة و(الجالي1)، أطفأت نار الوجد بفيض (الخنياب2) ظفرت قصائب النخل، خضبت كفيها بحناء (الدهلة3)، ثم زُفت إلى النهر كعروس من البادية، لتكون مركزاً لنقل الزوار الى مدينتي النجف الأشراف حيث ضريح الأمام علي بن أبي طالب، وكربلاء المقدسة حيث ضريحي ولديه الحسين والعباس(ع).. أشار الشيخ إليّ أن أصمت وأستمع إليه، تركت له عنان الكلام، فتح كتابه وسمعته يقرأ بصوت عال: (بعد دهم خيول الأتراك أبواب مدينة السلام، ودخول السلطان سليمان القانوني بغداد سنة (1534م). أصبحت السماوة لواءً من ضمن الألوية الثمانية عشر التي قُسم إليها العراق في تلك الحقبة من الزمن، وأصبح قلي بيك بن سليمان بيك أول حاكم للواء السماوة والآمر الناهي المتصرف بزرعها وضرعها.. لم تكن النزاهة حينذاك واحدة من الصفات التي يتصف بها الموظفون القادمون من استانبول للعمل في العراق، وأغلبهم من أبناء الدرجة الثانية في المجتمع التركي، لذا فقد ظلت السماوة شأنها شأن المدن والقصبات العراقية تعاني من الفساد والإهمال..  ولما كان دوام الحال من المحال، فقد آل أمر السماوة الى الشيخ مهنا بن علي الملقب بالهيس بعد استيلاء الشاه الصفوي عباس الأول على العراق. وبقيت المدينة تحت تصرف ذلك الشيخ  حتى مجىء علي آغا الذي تقدم لاحتلال السماوة، واستطاع أن يدخلها بعد أفضع معركة من المعارك الدموية التي خاضها المدافعون عن البلدة.. ومن أشهر الشيوخ الذين تصرفوا بالسماوة في زمن الأتراك الشيخ ناصر الصقر. ثم آل أمر حكمها بعد ذلك الى شيخ يدعى إسماعيل ــ ليس له في كتابي غير الاسم الأول ــ وفي أيامه زار السماوة الدكتور الجراح ايفز أيام كان يعمل في شركة الهند الشرقية البريطانية في العام (1758م). فوصفها بالبلدة المسورة ذات البيوت المبنية من الطين.. تصرف بها بعد ذلك الشيخ الخزعلي  حمد آل حمود حيث كانت السماوة في أيامه على موعد مع الرحالة الألماني كارستن نيبور الذي مَرَّ بها في العام (1765م) وهو الذي أبحر مع مجموعة من العلماء في الباخرة الدنمركية كرينلاد في اليوم الرابع من شهر كانون الثاني من عام(1761م) مدفوعاً بما سمعه من حكايات وأساطير عن بلاد العرب، عقب قرار أصدره ملك الدنمرك فردريك الخامس في العام (1760م) يقضي بإيفاد بعثة علمية مشتركة الى بلدان الشرق الأدنى وجنوبي الجزيرة العربية.. وقد فقد الخزاعل بعد ذلك سيطرتهم على السماوة، لتصبح تحت سيطرة الشيخ عجيل بن محمد بن سامر السعدون. لكنهم استطاعوا بعد وفاته سنة (1821م) وبمساعدة الأتراك من استعادة السماوة ثانية. حتى إذا جاء العام (1853م) أصبحت السماوة قائمقامية تابعة للواء الحلة، قبل أن تلحق كقضاء بالديوانية التي أصبحت لواءً حين صار العراق تحت سقف الحكم العثماني يتألف من ثلاث ولايات هي / الموصل / بغداد / البصرة / تتبعها سناجق واقضية، وكانت الديوانية من ضمن الألوية التابعة لولاية بغداد.) .. صمت الشيخ ليسترح قليلاً، فعدت الى اجترار معلوماتي: (قلعة الخناق واحدة من سبع قلاع كانت تعود الى آل محسن. وهي القلعة الوحيدة الشامخة داخل سور المدينة، حيث اتخذت لها متكأ على ضفة الفرات من جهة الصوب الكبير، بينما انتحت القلاع الست الباقية أمكنة بعيدة عن السور، حيث بنيت جميعها على نهر العطشان.. والخناق ياشيخي الجليل هي التي كانت مركز مدينة السماوة في زمن العثمانيين ، اكتسبت اسمها ــ كما يقول أجدادنا ــ من سجن القلعة، الذي كانت زمر المحكومين بالإعدام تساق إليه أيام كان الخنق هو الطريقة المتيسرة المتبعة في تنفيذ الحكم.. الفرات الكبير كما تعرف كان وما يزال يشطر السماوة الى شطرين، هما الصوب الصغير والصوب الكبير. وقد قسمت المدينة في مستهل القرن العشرين الى ثلاثة أقسام.

القسم الأول: المتكون من المنطقة المطلة على شاطئ الفرات التي افترشت سجادة رمال ضفة النهر اليسرى، وعُرفتْ بمنطقة القشلة نسبة الى القشلة القديمة المعروفة بالكبرى، التي بُنيِّ فيها مركز الجيش في زمن الوالي نامق باشا الكبير، حيث أُتُخِذَتْ سكنى للضباط والموظفين والمدنيين الميسورين. وعُرفت بمنطقة العصملية. كما سكنت بعض العوائل البرجوازية في المنطقة التي تليها ومنها عائلة والد جدي المعروف ب (اسعيد جتاله) لأقدامه على قتل أحد الجنود الانكليز . بينما أتخذ معظم الناس البسطاء من منطقة القشلة التي تقع على مشارف القرى والأرياف سكنى لهم. وتعتبر القشلة هي المنطقة الرسمية في السماوة لاحتضانها للمستشفى والبلدية ومركز الشرطة والدوائر الحكومية المتمركزة في بناية القائممقامية حيث يعتبر القائممقام هو المسؤول الرسمي الأعلى.

القسم الثاني: هو المنطقة الشرقية التي اتخذت من (جالي) الفرات مطرحاً، وأراحت رأسها على وسادة كتف سوق السماوة الأيمن، وعُرفت بمحلة الشرقي، حيث أُتخذت سكنى للسماويين الموالين للسيد طفار.

القسم الثالث: هو المنطقة التي اتخذت لها مطرحاً في الجهة الغربية من (جالي) الفرات وأراحت رأسها على وسادة كتف سوق السماوة الأيسر، وعُرفت بمنطقة الغربي، حيث أُتخذت سكنى لمعظم السماويين الموالين للشيخ رباط آل سلمان.)

انتبهت الى اشارة ثانية من يد الشيخ فتركت له مهمة  الغور في ما بدأت الحفر فيه من تاريخ البلدة. فالشيخ والحق يقال منقب متمكن عارف بتاريخ العراق بشكل عام، وتأريخ السماوة بشكل خاص سألني: (ما الذي تستنتجه من بعد اربعة قرون من الحكم التركي للعراق؟) أجبت: (أنت يا شيخي أدرى مني ببئر العراق وغطائه، كتابك وعمرك ومعايشتك لم تبق لي موضعاً في جسد الطريدة يمكن أن يصاب.. فأمطرني أيها النوراني بنور معرفتك، أرسل عليّ النور مدراراً، وأغسل، وأقتلع، وأزح، ما ترسب، وتراكم، وتصلب، في الذاكرة من / أفك / اساطير /  /حكايات / أحاديث / عنعنة / خطب / فتاوى / منابر) تبسم الشيخ فاهتزت هالة الضوء المستقرة على جدار الغرفة: (أربعة قرون يا ولدي، حين من الدهر لا يستهان به.. أربعة قرون من / الوجوه / الأقنعة / العمائم / العُقِلِ / السدارات / الطرابيش / الشراويل / الخوذ /الأجساد / الجلود / الجَلْدِ / الخنق / الجوع / العري / الاغتراب / الوباء / الفيضان / القتل /الموت / قد لا تصدقني إذا قلت لك أن الانسان أخطر وحش على هذه البيضة الخرافية التي يسمونها الأرض. أتدري أن الانسان القادر على تدجين الوحش يعجز عن تدجين النفس الأمارة بالسوء.

 

في نصوص اليوم