نصوص أدبية

شجرةٌ ملعونةٌ

abdulfatah almutalibiحكاية تشبه الواقع

قصةٌ قصيرةٌ

 


 

شجرةٌ ملعونةٌ / عبد الفتاح المطلبي

 

بعدَ خمسةٍ وثلاثينَ عاما ًمن الآلام ِأرسلَ لنا القدرُ إشارة ًواضحة ً مفادها أن ما من وثنٍ باقٍ ما تقلبت الرياح يمينا وشمالا تحتّهُ وتطيح ببعض صلصاله وتعريه وإن الفرج قادم لا محالة والنفوس التي غيّبها طول الإنتظار لم تذهب سدى، وحين صدقنا البشير لم نكن نقكر بغير وجه الوعد الحبيب حتى إن بعضنا من شدة التأثر راح يبكي فرحا، كان المُبشّر واحدا منا قد اختفي منذ عشرين عاما ولا ندري إلى أين مضى لكنه عندما عاد بصحبة الرجل أزرق العينين أحمر الأنف واليدين على متن مجنزرة لا تني تركل أرضنا بسرفتها الصاخبة مثيرةً التراب على رؤوس الجميع، عند ذاك لم نكن نفكر بما فعلت وغيرتْ به تلك الأعوام العشرون رفعناه على الأكتاف بعد إن أفحَمتْ إشارتُه عقولـَنا التي كدها الإنتظار الطويل وأذلها الحضور الدائم والوقح للصنم وهو يحملق فينا أنى اتجهت عيوننا، الغريب في هذا الصنم أنك كيفما تأتيه ومن أي جهة تختلس النظر إلى عينيه الناريتين تراهما تحملقان بوجهك وحتى لو نظرت إلى قدميه اللتين تنتعلان حذاءً رومانيا طويلا أعلى من رؤسنا جميعاً ترى عينيه تتوقدان مطلتين عليك من أنف الحذاء الروماني ولو نظرتَ إلى مؤخرته فإنك سترى عينيه تحملقان بك من كل إلية، كل إليةٍ تحملق منها عين تخترق أعماقك وتكسر روحك وتُذلك وهذا المُبشّر كيف لا نشيله على الأكتاف وقد أتى بهذا القوي ازرق العينين، أسقط لنا الصنم بعربته المجنزرة ومكّن نعال المظلومين من رأسه الأجوف، استحوذ علينا أزرق العينين أحمر الأنف واليدين بعمله الجبار الذي عجزنا أن نأتي بمثله طوال خمسة وثلاثين عاما مع إن لدى بعضنا مجنزرات وبلدوزرات كانت دائما مركونة تنتظر من يستطيع اعتلائها ورفع ذراعها بوجه الصنم وبقيت تنتظر ولم يفعل ذلك أحد، راح أزرق العينين مبكرا يحملق بنا بعينين لا تختلفان كثيرا عن عيني الصنم ولكنهما كانتا باردتين وهكذا عندما بردت الآهات وخفّ سعير القلوب وبدأنا ننظر حولنا غير مصدقين أننا قد تحررنا من هيمنة عيون الصنم الذي تراه في كل مكان وفيما نحنُ لا زلنا بنشوة الخلاص لم ينتبه أكثرُنا إلى العينين الزرقاوين الباردتين اللتين راحتا تراقباننا بهدوء ورويدا رويدا بتنا نرى إلى تلكما العينين الزرقاوين تجوسان بنظراتهما الباردة أمكنتنا وطرقنا وساحاتنا وبيوتنا دون أن نستطيع لها شيئا من زجرٍ أو ممانعة أو تدارك، كيف يكون لنا ذلك وهما عينا صاحب المُبشر، مُخلصنا من الصنم بمجنزرته التي ظلّت ترفس طرقاتنا وتترك أخاديد غائرة على أي طريق تمر فوقه ومر وقت كثير حين أدركنا أن مُخلصنا أحمر الأنف واليدين هو الذي أقام لنا الصنم قبل خمسةٍ وثلاثين عاما ليكون ذريعة لوجوده بعدما بهت بريق صنمه وتقشّرَ طلاؤه وها هو اليوم يأتي بمجنزرته ليزيحه ويحل محله، ولما راح يدس أنفه الأحمر الكبير في كل شؤوننا تململ بعضنا واحتج البعض الآخر وفي إحدى المرات صرخ بعضنا بوجهه محتجا ومنبها إلى أن ما يفعله بنا قد تعدى الحدود ولم يمض وقت طويل حتى اختفى المحتجون بطرق غامضة، حين ذاك راح يطالبنا أزرق العينين باستعلاء واضح بثمن ما فعل ولم يجرؤ أحدا منا أن يُذكـّره بأن من جاء بالصنم ومكّنه منا هو وإننا ليس أمامنا سوى اتّقاء شرّه ومُطالبته بالإبتعاد عنا، راحَ يُطالبنا بأتعابه، وكان طلبه في نظرنا بسيطا ومحتملا:

- لا أطلب إلا بضعة أمتار من أرضكم الجميلة!

- لابأس سنخصص لك قطعة الأرض التي تريد وتتركنا لحالنا نفعل ما نريد

قال الأمر مشروط برغبتي أن أزرع شجرة في الأرض التي ستصبح ملكي

- قلنا له لا بأس إزرع ما تشاء، قال وهناك شرط آخر

- أن كل ما يقع تحت ظل شجرتي يصبح لي ملكا خالصا لا حق لكم فيه

فكرنا أن هذا الرجل لابد قد مُسّ بجن، ما أسخف طلبه ليكن ما تحت ظل شجرته له ملكا صرفا، لا يُضيرنا ذلك فكم من الأمتار يمتد تحت ظل شجرته بضعة أمتار، فليأخذها ويتركنا نقرر مصيرنا قلنا له لابأس.

أخرج ورقة نقد من فئة مائة دولار ثم قال: نحنُ نثق بالرب كما مكتوب هنا وأشار إلى الورقة، ثم قال: تعالوا لنحرر بذلك صكا نوقع عليه جميعا.

كان له طاقمه ممن يكتب ويشهد ويوقع، قضاة ً ذوي أنوف طويلة يلبسون معاطف سود لها مثل ذيول الفئران ويعتمرون قبعات سودَ طويلة، تراهم دائما يتكلمون همسا، همسا أتى بهم من جهته، هناك حيث يغطي الصقيع كل شيء

وهكذا أبرمنا الإتفاق واستلم أرضَه وسيجها بسياج عال وأدخل مجنزرته المخيفة خلف سياجه واختفى هو أيضا وراء السياج ورحنا نهنئ بعضنا بخلاصنا من الصنم ومِن مَنّ ِالرجل ِ أزرق العينين وكنا نظن أننا أحسنا صنعا ورحنا نرتب أوضاعنا وكانت الأرض التي اختارها تتوسطنا جميعا، لم تمض ِإلا إسابيع حتى كانت شجرتهُ تطل من أعراف سياجه بكل الإتجاهات ولم يكن ذلك عجيبا في زمن اختلط فيه العدو مع الصديق، كانت أوراقها حمر بلون الدم وحين أخذتنا الدهشة نحو تخومها قال قائلٌ: ليس هناك في بلاد الثلوج من عجيب هناك أشجار بأوراق سود وزرق وأدغال بلون الرصاص، وقبلنا ذلك على مضض لكن شجرته لم تتوقف وراحت تنمو كالسرطان توزع فروعها ذات الأشواك الحمر نحونا وتلقي بظلها الدموي على مساكننا وشوارعنا ومدارس أطفالنا بسرعة عجيبة راحتْ تنمو وتنمو وتبتلع ظلالها المدينة حيّاً حيّاً وحين حاولنا كسر بعض تلك الفروع واجتثاثها راحت تقطر علينا سائلا دمويا يسلخ جلد من يمسه ويذلك هيمن أزرق العينين على بيوتنا ومزارعنا فقد زحف ظل شجرته إلى كل شيء حولها، وحين علت أصوات احتجاجنا، رفع صحيفة الصك الذي وقعناه له قائلا كل شيء حسب القانون، وكل ما ظللت شجرتي صار ملكي لكنني لا أمانع أن تسكنوا تحت ظلها وعليكم تحمل ما يسيل منها ولو كان لونه أحمرَ، الآن نحن ندرك فداحة الأمر، فهذه الشجرة الدموية راحت تزحف في المدينة وراح اللون الدموي يطغى على كل لون فيها ولم يبق أمامنا إلا النجاة بجلودنا وترك المدينة التي استحوذت عليها شجرة ذي العينين الزرقاوين وكان بعضنا يعض أصابعه ندما، وهو يقول أما كان الأحرى بنا أن نُسقط ذلك الصنم بأنفسنا، أما كان يجدر بنا الإعتماد على أنفسنا، وحين كنا نقول ذلك كنا نستذكر بعض المحاولات ونتذكر الضحايا فنصمت.

استمرت الشجرة الملعونة بالزحف إلى كل بقاعنا تغطي شوارعنا وبيوتنا بظلها الدموي دون أن نستطيع فعل شيء فقد وقعنا بأنفسنا على صك ذلنا ومهانتنا ولا شيء سيخلصنا مما نحن فيه إلا الوصول إلى جذر تلك الشجرة الملعونة واجتثاثه ولابد من ضحايا من أجل الحرية وحين نظرنا إلى أنفسنا علمنا أننا مجرد مخلوقات منكسرة قد تولى كسر شوكتها ذلك الصنم قبل ذي العينين الزرقاوين وهو يعلم تماما أن لا خطر من بقايانا المهزومة عند ذاك راح يأسنا ينسج لنا أنتظاراً طالما برعنا في صناعته وفكرنا أن جيلا لا زال في الأصلاب ربما سيصل يوما إلى ذلك الجذر الملعون ويقتلعه ورحنا ننتظر أملا جديدا وهيئنا أنفسنا لانتظار طويل فكل ما نجيده هو الإنتظار.

 

في نصوص اليوم