نصوص أدبية

أرملتان في أنثى واحدة

sardar mohamad ربما الوجود حقيقة. وربما من تخيلات العقل، ورغم قلّة حيلته في فهمه، وتعمده في الإختفاء عن الفهم لم يفكر أن يكرهه.

بسذاجة الحب زمن المراهقة يجيش صدره أحلاما ً تنمو فيها زهور أحلام الرجولة وسط أذرع القهرالأخطبوطية.

العدم يلاحق الوجود ويستشعر به فينقض عليه، وهكذا يتسلق أجساد البشر ويتعلق بأهدابهم كتعلق الحواس.

يعشق الكذب والصدق معا ً.

تتوزع أرجله بكل موضع يرتاح فيه ولا يسأل من أي فئة من الأحياء نحن.

هل من المهم إذن معرفة من أكون.

أنا شخصيا ً لا أعرف نفسي ولا يمكني الخروج من جلدي لمعرفة ذاتي.

ربما إنسان.

لكني لا أرى حجبا ً تمنعني من رؤية مظاهر الطبيعة فأذكر بعض الأشياء والعقل والطبيعة حيّان لا يتوقف تفاعلهما ألما ً ولذة.

أشياء لا يمكن أن تنفصل عن الذات مهما كانت تافهة.

حذاء الكتان الأبيض الذي تبرعت لي به إحدى الموسرات يصلح للتباهي.

وجه أمي الحزين.

عصا جارنا الفاجعة تنهال على ابنته لسبب أو دون سبب.

الفقر والجوع.

بقرتنا الهزيلة تلتذ بقضم بقايا الخبز اليابس الذي تجمعه أمي من المزابل.

وجارنا لا يلتذ إلا بألم ابنته ولو كان بمقدوره أن يرى دمها يسيل لفعل.

ولا يكف عن مضغ ألم ابنته إلا إذا رأى الشاي الغامق السواد تقدمه له زوجته الواهنة القوى بسبب الجوع.

ويلتزم الهدوء المكبوت بعد لف سيجارة يبللها برضابه المتأجج مقتا ً للحياة.

يشعل سيجارة برغبة جامحة من سيجارة مستكينة لا تعرف التمرد فتكون بديلا ًعن سوء معرفته بنفسه، ويتعلق بالفرحة الكبرى البائسة التي لن تأتي.

يهرب من رؤية وجه أبي المستمتع بالتمسك بالحياة رغم القهر، والمستمتع بصوت المذياع حين يحل الآذان أو صوت مطربة تغني أغنية غجرية قديمة.

 

لم يدم الوقت طويلا ً حتى ارتج سقف الكوخ من صرخة تشبه صراخ الثكالى أطلقها فم جارتنا حتى أن الفضاء انعدم بيننا.

لقد هربت الفتاة.

وشوهد الأب يضرب نعليه بعض ويضع عباءته الكالحة على كتفيه ولا ينسى التمنطق بخنجره.

- أين تذهب يارجل؟

- أبحث عنها فخنجري لا يرتوي إلا بالدم.

وعاد الرجل خائبا ً، ووضع خاتمة حقيقية لبحثه مستكينا ً.

ضاعت وسط متاهات الطرق الإسفلتية في العاصمة المجنونة والمجبولة بزيف وحقيقة، المزدحمة بالبارات والمآذن، بالأسواق المبهرة وبالأزبال التي يمكن أن تكون ملاذا ً للهاربين من واقع مؤلم.

إلتزم الصمت وبسلام عثر الموت عليه قبل العثور عليها، وعانقه العناق الأبدي.

دفن بين أعجاز النخل التي عرّتها الطبيعة من كل شيء إلا بعض الكرب المنتفخ جراء المطر، فبدت كقبور صغيرة منضدة.

 

قرر أبي أن يتوجه تلقاء العاصمة أملا ً في أن يجد إنسانيته.

لم يكن في بالي أن نقضي عدة أيام في زريبة مع الأبقار تلفحنا حرارة الشمس لولا الظلال الممزقة التي تلقيها علينا شجيرات الدفلى وسعفات نخلة عجفاء تسخر من واقع ٍ مزرٍ دنونا من بريقه السرابي ورؤى ضبابية تدحرجنا نحوها بإرادتنا.

بعيدا ً عن أكواخ هجرها الضحك منذ أن أهدى آدم ضلعه لحواء صـُداقا ً.

قريبا ً من أكواخ تكشف عن شائك عيش يدعو للبكاء.

إضطرت أمي أن تخدم في بيوت الموسرين.

كان علي أيضا ً أن أدفع عربة أبيع فيها الحمص المطبوخ شتاء وصيفا ً أدفع عربة لبيع المثلجات.

وكان علي أن أتبادل المرونة والإنسجام مع هذا الواقع المملوء بالتسلط.

لم يفت ّ في عضدي تغيير أرغمنا أبي على الزحف إليه.

كنت أدرس على ضوء فانوس الكوخ الذي كلفنا جل ما نملك.

أثرتُ اعجاب مدرس الرسم الشاب.

كان يعدّني مثالا ً للكفاح.

عندما يكون الجو داخل الصريفة ساخنا ً لا يطاق ألجأ الى الشارع لأستضيء بمصباحه وأواصل قراءتي في الهواء الطلق.

إستطاع المدرس أن يقنعني بالإنضمام إلى حزب يساري

- أنت أنموذج للشغيلة نفخر بك.

دعاني إلى مرسمه الصغير في بيته وبدأ يعلمني رسم الخطوط بدقة وتأن ٍ.

طلبت مني زوجته الرشيقة أن تزورها أمي.

فهمت أنها تريد ازالة الشعر من وجنتيها الجميلتين.

وكان لها ذلك.

ولما رفضت أمي هبة قدمتها لها ازداد وجهها تألقا ً وازدادوا بي تعلقا ً.

قبض عليه وحشر في قطار للموت، ومات اختناقا ً.

وكانت أمي المعزية الوحيدة من الغرباء.

بقيت أواصل زياراتي لها، وقد نبهتني أمي إلى الكف عن زيارة ارملة، فالناس لا يعرفون الرحمة.

واصلت دراستي وأخفيت انتمائي وكانت عربة الحمص مخزنا ً لجرائد ومنشورات الحزب، ويوم اندلق عليها سائل الحمص الأصفر ضحكوا

- لا بأس ألم يسمها رجال السلطة بالأوراق الصفراء.

وأنهيت أكاديمية الفنون الجميلة بتفوق ولم أتمكن من اكمال دراستي العليا بسبب العوز.

وتخرجت وحصلت على وظيفة مرتبها بالنسبة لعائلتنا المدقعة ثروة

إشترت أمي عباءة جديدة لأول مرة منذ ثلاثين عاماً، جعلت أبي يعود لصباه فأرى نظراته إلى عجزها الذي بدأ يكتنز لحما ً بسرعة ويترجح.

- ما أجمل رؤية الهضاب عند الغروب.

يقولها بصوت مسموع دون أن يأبه لوجودي.

إنتقلنا لدار بني من طابوق وسقفه لا تنفذ منه سيول المطر.

سيارة صغيرة كافية لنقل ما لدينا من أثاث.

ولأول مرة في حياتها تتغوط في مرحاض وليس في العراء.

ووجدتها تنفخ المصباح الكهربائي لتطفئه.

واحترقت أصابعها حين أشعلت الطباخ النفطي الذي اشريته لها.

وظلت تصر أن طعم الشاي مختلف حين تحضره به.

 

رفاقي في العمل علموني أشياء لم أمارسها قبل.

شربت الخمر لأول مرة معهم وكانوا يسموه (حليب السباع).

لماذا لا أكون سبعا ً كما كان يسميني مدرسي القتيل

ودعوني مرة لممارسة الجنس في بيت يحرسه مفوض الشرطة في المنطقة مقابل رشوة شهرية مجزية.

- لايعقل وأنت بهذا العمر وما تزال تمارس العادة السريّة.

طرق زميلي الباب ففتحت عجوز شمطاء نافذة صغيرة

- ماذا تريد؟

- فلانة

- فسألته من فلانة؟

- أي إسم.

ولما عرف أبي بممارساتي تلك صارحني بالبحث عن زوجة مناسبة.

بقيت أفكر في زوجة مدرسي الأرملة.

- لا يمكن أن تتزوج امرأة تكبرك بسنين

- وماذا في ذلك، هل تملكين ضعف ما تملك

- أقصد الذريّة

- من يسمعك يا امرأة يقول أنجبت قبيلة.

 

رغبة العروس كانت أن يتم الزواج بهدوء دون زفاف وضجة

مساء الليلة المرتقبة أطل بدر أبيض في سماء المدينة، ولبست ثوبا ً يحاكيه لونا ً.

أقبل ثلاثتهم بفرح، الأم والأب وهو.

ظن أنه يحمل شوقا ً سيزهر ويترعرع في تربة طيف الحالمين.

ثلاثة فقط، لكنهم تفاجأوا بمدعوين بلا دعوة تصحبهم سيارة طالما نقلت أناس لدفنهم أحياء.

تساقط البدر كندف الثلج.

أخذوه إلى مكان تجهله الملائكة.

أيّان يكون سيكون أكثرالبشر أمنا ً وأقل البشر حزنا ً

ولا حزن سوى حزن جرحين أحدهما ينزف دما ً وآخر ينزف دمعا ً.

حزن أرملتين في أنثى واحدة.

 

سردار محمد سعيد

 

في نصوص اليوم