نصوص أدبية

نعي

moslim alsardah الجو حار تماما في هذا اليوم من ايام صيف تموز اللاهب، ليس كالعادة، حتى ان درجة الحرارة تجاوزت الخمسين درجة مئوية، بحسب نشرات الاخبار التي تحاول التخفيف من درجات الحرارة لتعطي عذرا للموت ولنقل الجنازات في الوطن. في هذا اليوم كنت سافرت الى خارج الوطن، لاداء فريضة دينية، كعادة الكثيرين للتخلص من الضرر الذي يحدثه الحر مع انقطاع التيار الكهربائي. استيقظت مبكرا على رنات هاتفي المحمول، ليوصل لي احد زملائي في العمل خبر نعي مسؤولنا في الدائرة الحكومية التي نعمل فيها. هو ليس مسؤولي المباشر بل هو مسؤول دائرتي التي اعمل فيها. وكانت كل الدلائل تشير الى انه لن يموت. ولذلك فقد تفاجأت بالخبر، كما فوجئ هو، السيد المدير، للامر بالتأكيد. فحماياته وصعوبة الوصول اليه وما يحيط به من منافقين. وموانع تمنع الموظفين الصغار من امثالي. وغير ذلك من ابهة وبهرجة كانت تتبعه حين يسير في داخل غرف الدائرة ودهاليزها. وتأكيده المستمر على المحيطين به ان يأمروا موظفي الدائرة ان لايتشاغلوا بما بين ايديهم من معاملات او قصص يومية. وان يظهروا اهتماما كبيرا به وهو يمر بينهم. وان يقفوا وقفة احترام وخضوع وتقدير، صادق، له وهو يقوم احيانا بزياراته الروتينية. اضافة لما كانت عائلته تبذخ فيه من صرف يومي وسفراته البوهيمية والحياة الخيالية التي يتمتع بها اولاده. كل ذلك يؤكد ان الرجل بسبعة ارواح. وان الموت لن يمر به ابدا. وكانوا يبررون ذلك بقولهم: ما الذي يحصل عليه موظف كبير ومسؤول محترم، بمستوى مدير لدائرة كبيرة، بتضحياته الجمة، غير ان يرى الاحترام والتشجيع، في عيون الناس والمرؤوسين؟. ويقول اخر انهضوا له حين يمر بكم وقفوا احتراما له، وان شئتم فصفقوا له، فذاك من حقه عليكم، جزاء تضحيته لاجلكم. فهو سيدكم وسيد الدائرة.

ومع ذلك فقد مات. وبما ان الكل يموتون لافرق بين مسؤول ومسؤول وبين طبيب ومريض، وصالح وطالح، ورئيس ومرؤوس، فقد مات الرجل وسوف يدس دسا في تابوت خشبي، لم يفصّل على قياسه، حاله حال الاخرين. وسوف يقف الناس لتشييعه ليس كسيد وكاتباع، بل كميت مسكين لاحول له ولا قوة. يسعون لتوديعه والتخلص منه كقذارة يجب دفنها. ولن يكون سيدا بعد اليوم ولن يقف له احد. بل سوف ينُسى ولن يمر بدهليز دائرتهم ولا بغرفهم، ولا حتى ببال احدهم بعد مرور قليل من الوقت.

نعم سوف يحشر في تابوت شاركه به العشرات بل المئات استعمل كعبّارة لنقل الجثث من هذا الصوب الى عالمها الاخر. ان الاحياء يستكثرون على امواتهم، ومديرنا بالطبع واحدا منهم، مجرد الواح خشبية لاتساوي شيئا يلقون بها في المزابل فيتناولها الفقراء بثواب ميتهم. قبل ذلك كان لكل تابوته. اما بعد الحروب الكثيرة، ولكثرة الموتى، فقد صار التابوت يوضع في المغسلة وبعد ان يدفن الميت يعيدونه اليها. انه تابوت عام ليس ملكا لاحد، بل انه ملك للجميع مثل المدرسة والجامعة والمكتبة العامة. ومسؤولنا واحد من الناس الذين يرون تابوتهم كل يوم عندما يذهب للصلاة في الجامع او يقرأ الفاتحة على احد اموات الحي، ولكن لم يكن يخطر بباله شيء مما سيجري. ولكثرة التوابيت في مغسلة الجامع لم يكن متأكدا في اي منها سينام.

لكم كنت احسده، هذا المسؤول، حالي حال الجميع، مدير دائرتنا وهو يتبختر امامنا في دهاليز دائرتنا. كنت افرح حين يكلمني او وهو يأمرني، باسلوبه الفج، المتعالي، الذي كنت اعتبره في بداية الامر قلة ادب منه. لكنني وبعد مرور السنين صرت اعتاده، شيئا فشيئا، حتى بت اراه الان من ضرورات السلطة والمسؤولية. وحتى انني كنت اتخيل نفسي احيانا وقد صرت مديرا كبيرا، وانا اكتسح كل المحيطين حولي والراغبين بالصعود على الاكتاف. واولئك الميكافيليين الذين ينتمون لاحزاب لايؤمنون بفكرها، ان كان لها فكر ما، وقد صرت بمرور الزمن واحدا منهم، ورحت ادافع عن اولئك الصاعدين، ومديرنا العام المسجى الان كم كنت ادافع عنه، ليس شرفا، ولكن تملقا للحالة التي هو فيها. كنت اشبه الصرصار الذي يريد ان يصير جوادا. ولقد تكاثرت الصراصير في دائرتنا ولكن يعلم الله من سيصير منها جوادا ليرتقي كرسي الإدارة.

لقد مات مديرنا المرحوم في يوم شديد الحر. وسوف تتفسخ جثته وبسرعة عجيبة. وسوف تفوح منها رائحة الميثان والايثان مثل مستنقع، ولن تنفعه قوالب الثلج التي تبرد جثته. ورغم ذلك فانا ادافع عنه، مع اني اعرف عنه الكثير الكثير من افعاله المخزية واستغلاله منصبه اللعين لاستدراج الموظفات ضعيفات النفوس الى الرذيلة. والتخلص من غيرهن الرافضات لاغراءاته. او دفعه الموظفين المحيطين به كما الرائحة الكريهة التي تحيط بجثته في هذا اليوم القائض من شهر تموز الى اخذ الرشوة ليثبت نفسه في منصبه الازلي ليبدو اشرف وانزه الموجودين، ولا احد ينافسه عليه، في اعتباره، ان هذا المنصب انما خلقه الله له وحده. ودون ان يترك ادنى شك في انه سياخذه معه الى القبر. وكنت ارى افعاله تجاه الدائرة والموظفين وتجاه الناس. وكنت، رغم ذلك، استحسن افعاله في داخلي اللعين. حتى زوجتي كانت تحسد زوجته لكثرة ما انقل لها ما يحكيه الناس عنها وما تمتلكه من اغراءات مادية وهدايا باشكالها النقدية والعينية والعقارية. لسكوتها عن خيانته لها وكثرة عشيراته.

ولانه مدير دائرتي، ولكي لا الام فيما بعد، فقد قطعت اجازتي وعدت سريعا في نفس اليوم. وذلك كي اظهر المودة لمنصب المرحوم، على الاقل. ولذلك، وحين حان وقت القاء النظرة الاخيرة على جنازته. احسست بان كل الاخرين يبدون وقد تلطخت ملامحهم بالحزن الكاذب، والحركات المنافقة والبكاء المهتز على الاكتاف. رغم انهم يودون، مثل حال الجميع، لو يلقون بجثة المدير سريعا الى الكلاب لا الى القبر ليدفنوا معه كل نفاقهم وكلماتهم التي كانت تخدش الذوق ولاتدخل الى قلب المدير، ولكنها كانت تنال استحسانه الظاهري. وكان يعرف تماما انهم انما يكيلون له جمل التملق بسبب منصبه. وكان يتذكر في طفولته حين كان يسمع بقصة ذلك الحاكم الذي حزن الناس على موت بغلته ولم يحزنوا لموته. انه لم يترك بعد موته سوى جثة متعفنة وقبرا سوف لن يزوره احد. ولو كان ذلك القبر قد حفر في حياته، لكان كل من في الدائرة، وبضمنهم انا بالتاكيد، يتبارى لزيارة ذلك القبر وسيتبركون بالتمسح بشاهدته بلمسها وطش الماء المعطر برائحة الورد فوق قبره.

والان ها هو قد مات وماتت معه قدرته على احداث اي ردة فعل تجاه ما يحكى وما يقال. وراحت الامال والتوجهات كلها تدور حول من سيمسك بكرسي ادارته للدائرة وستطوى صفحة لتبدا صفحة جديدة. صفحة لاتنتهي الابموت من سيمسك بها. الكل يتمنى ذلك، ولا يمر بذهن احد انه سيحيد عن نهج المدير السابق ونهجه العتيد في النهب، دون ان يفيد احد قبل نفسه وجيبه وعائلته.

ولذلك فان الجميع كانوا حينما رفع غطاء التابوت وجدوا بدلا عن جثة المدير، جثثهم هم المسجاة في التابوت وقد بدات بالتفسخ ولن ينفعها لا وضع قوالب الثلج، ولا رائحة الكافور الذاوية. وحتى انا رايت جثتي المتفسخة. وفي تلك اللحظة بالذات راى الجميع وبضمنهم انا الاخر المدير ينهض صامتا، واقفا وقفته الاخيرة ليتاكد من وضع جثته. ومن ثم ليعود الى نومته الطويلة في تابوت لم يتم تصنيعه ليستوعب جثته الضخمة، بل حشر حشرا فيه.

 

مسلم السرداح

 

في نصوص اليوم