نصوص أدبية

الثقةُ بالتراب/ إذ يكونُ القبرُ مغمضَ العينين وباردَ الأعضاء

ولو تبصَّر في حقيقة نومه مثلاً، لأدرك أنَّ الموت يأتيه هكذا في شكل قطةٍ أو في هيأة فأرٍ أو قد يختار الموت له هيأةً أجمل قليلاً، فيبدو له كما لو أنه قنديلٌ موضوعٌ في محرابٍ مهجورٍ منذ كان جبريل على الأنبياء الكرام ذاهباً وآيباً.

ولو التفت إلى طعامه متأمِّلاً بدقَّةٍ، لانتبه من غفلته عن حقيقة كونه آكلاً ومأكولاً في عين الوقت، فلا يعود يحتقر الحيوان والنبات، لأنه من فصيلتهما معاً، ولأنه أيضاً منحدرٌ من سلالة القبر، فإن كان بارّاً بأبيه حفر قبراً في نخاع قلبه، وصار يبكي ليل نهار على أنه لم يحظ بالرعاية الكافية من أبيه القبر، فمن سوء حظِّه أنَّ والده القبر قد مات حتى قبل أن يشمَّ هواء الدنيا، لأنَّ القبر لا يستطيع أن يقوم بمهمَّته على أتمِّ وجهٍ إلا وهو مغمض العينين وبارد الأعضاء تماماً كما هو حال الميت بالضبط.

في هذه الحالة الأخيرة، أقصد كون القبر أباً، وكون المرء ابناً بارّاً له في الدنيا، يبدو عزرائيل في لون الوردة تماماً، فكلَّما دنا المرء من مواطن بهجته مثلاً، أغراه الجمال أن يشمَّ عطر الوردة حالاً، فإذا ما شمَّه بالفعل عرف سرَّ العالم، وصار يقترب شيئاً فشيئاً من حقيقة التراب.

التراب ضوءٌ أيها المنتعلون الأغبياء، فإياكم أن تتخذوا من الضوء حجاباً، وإلا فإنَّ مصير من يفعل هذا إلى الظلمة حتماً، وعلى جهنَّم في تلك اللحظة أن تدَُُّثر به طوعاً أو كرهاً، خلافاً لما عليه واقع الحال بالنسبة لمن عجن جسمه بالضوء، أعني هذا التراب الذي ينتعل منه الناس، فخذ قبضةً من التراب إذن وصُبَّها على رأسك، كما لو أنك جالسٌ في حضرة الله مباشرةً، فإذا فعلت هذا وكنت مهووساً بالكلام الشاعريِّ المفلسف، فلا بدَّ أن يتحوَّل قوامك في يد الله عكازاً، ولا بدَّ أن يكون وجهك بالذات لؤلؤة التاج على الرأس السرمديِّ للإله.

                       

تذكَّرت الآن شيئاً مهمّاً للغاية، فلقد عرفت في نهاية المطاف أنَّ الحياة ليست حياةً إلا عندما تداف بالموت كما يداف الماء بالطين، أما إذا كانت الحياة سوى ما يكون موتاً في الآن نفسه، فلا غرابة أن تكون رمز الشرِّ مثل الغراب.

وعرفت شيئاً آخر أيضاً، وهو أنَّ رأس الفتى لا يتفهَّم معنى الضرب بالسيف في النزال حتى يكون في يد الخصم رأساً مقطوعاً، فإذا تفهَّم معنى الضرب بالسيف وهو في هذه الحال، انقلب السحر على الساحر حالاً، فتمنى لو أنه لم يكن موجوداً من الأساس.

 

المتعبون في الدنيا لهم فلسفةٌ أخرى غير فلسفة الأغنياء طبعاً، لكنَّ الفلاسفة الشعراء من هؤلاء ومن هؤلاء يشعرون بالخزي من أنَّ حياتهم مقزِّزةٌ كالقنفذ، ولهذا يرتعبون كثيراً من مجرَّد أنهم يتحدَّثون عن العشق مثلاً، مع أنَّ العشق في الحقيقة غذاؤهم  في الخلوات، وكما أنَّ العشب يتذكَّر همس الغيث على الدَّوام، ويحدِّث الشمس عن حنين الماء، فإنهم لا يكادون يفارقون طقس البكاء، مع القطع بأنهم مخلوقون من بهجة الحياة ليس إلا .

 

ثمَّ إنَّ الشعراء لا يوافقون على إسناد الحكمة إلى الفلاسفة، ليس لأنَّ الفلاسفة محرومون من هندسة الدِّماغ طبقاً لصرامة اللغة مثلاً، فإنَّ الشعراء معترضون على هذا المسلك بالطبع، وغالباً ما تكون اللغة في أفواههم بخاراً، بل لأنَّ الفلاسفة  يولدون حين يولدون وهم في ذروة النضج شيوخاً، فإذا ما مرَّ عليهم حديث الطفولة أو حديث الشباب تجهَّموا، ومالوا إلى أن يصبح العالم على طبق حكمتهم طاعناً في السنّ.

 

ما دعانا إلى أن نقارن بين الشعراء والفلاسفة هو هذا الأمر بالذات، أعني أنَّ المتعبين ميّالون إلى أن يتَّخذوا من جماجم الشعراء بيوتاً، حتى لو كانت بيوتاً بمنزلة ما يقوم بنسجه السيد العنكبوت.

 

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1240 السبت 28/11/2009)

 

 

في نصوص اليوم