نصوص أدبية

الحرف راقصاً

فوجدني ضائعاً أكثر مما ينبغي

فتركني.

وذهبَ إلى حبيبتي

فوجدها أكثر بدائية منه

وأكثر عرياً منه

فتركها.

ثم ذهبَ إلى الله

فلم يستطعْ كشف سرّ غموضه وجبروته.

ثم ذهبَ إلى النبيّ

فلم يستطعْ كشف سرّ زهده وصمته.

ثم ذهبَ إلى الوليّ

فلم يستطعْ كشف سرّ صومه

وصلاته وتسبيحه.

ثم ذهبَ إلى الصوفيّ

فلم يعجبه بحثه عن المجهول.

ثم ذهبَ إلى المجهول

فالتقى بالموتِ الذي صفعه على أمّ رأسه

صفعةً واحدة

حوّلته إلى قطعةِ فحم.

جاء الأطفال

فكتبوا بها على الحائط أسماءهم.

وجاء العشاق

فكتبوا بها على الأشجارِ أحلامهم.

وجئتُ أنا

فأمسكتُ بالحرفِ المتفحّم

وكتبتُ قصائدي السود التي لا تكفّ أبداً

عن الرقصِ والهذيان!

 

قمر أسود وكلب رماديّ

 *****************

(1)

ربّما أنتِ قصيدة بلا عنوان

أو قصيدة بلا معنى

أو ربّما أنتِ حرف لا يخصّ أحداً سواي

في آخر المطاف

مشينا معاً في مدينةِ الجوعِ والمزابل الليلية.

كنّا ثلاثة

والقمرُ الأسودُ يحرسنا بعبثه الأسود.

كان يحرسنا من أنفسنا

ومن الخديعةِ التي وجدتُكِ فيها

تتأرجحين كالجحيم.

ياليته لم يحرسنا

وياليته لم يكن معنا

وياليتني لم أكن معك.

وصولاً اليك

ياليتني بقيتُ مخدوعاً من دونِ قمرٍ أسود

وياليتني بقيتُ قمراً أسود

من دونِ كلبٍ رماديّ.

 

(2)

كنتِ ترتجفين؟

كنتِ ترتعدين من الهلعِ؟

استجرتِ عليّ بالكلبِ الرماديّ؟

كنتِ تموتين من هولِ المفاجأة؟

أم من هولِ ما بعد المفاجأة؟

ولكنك كنتِ بين ذراعيّ المرتبكتين

تبتسمين بحروفِ الشهوة!

لماذا أخرجتُكِ، إذن، من جنّةِ الكلب؟

الكلبُ يلهثُ، يا إلهي، ونحن نتعرّى في الفراش!

لماذا أخرجتُكِ، إذن، من جنّةِ الخديعة؟

لأضيّعكِ فيما بعد؟

ولأضيع معكِ في حديقةِ الحيواناتِ البشرية؟

ولكنكِ كنتِ ضائعة حدّ اللعنة!

هل أنتِ كابوس؟

كابوسٌ مقدّسٌ أم رماديّ؟

 

(3)

السطرُ يمتدّ كتاء التابوت.

لاجدوى، بالطبعِ، من البكاء ومن الدمع.

لاجدوى، بالطبع، من لهاثِ الكلب

ولاجدوى، بالطبع، من حديقةِ الحيواناتِ البشرية:

حديقة القمر الأسود والكلب الرماديّ.

 

 

جمجمة

**************

كلّما حاصرَ الشاعرَ الخوفُ أو الملل

أو خَطَرَ له خاطرٌ من الشوق لماضٍ قتيل،

أسرعَ ليقرأ في كتابِ مجنونٍ حكيم.

مجنون حكيم متهم بالغواية

والهذيان المركّز،

ومتهم بقتلِ نفسه

بسكّين طفولته الحافية،

ومتهم بقتلِ أبيه

وصاحبته وبنيه،

ومتهم، كذلك، بقتلِ ذاكرته

ذات الألف ثقب وثقب.

كان الكتابُ كبيراً

وسطوره مكتوبة بلغتين: ميتة ومنقرضة.

لكنْ حين أخذ الشاعرُ الكتابَ معه

إلى البلدِ البعيد

صارتْ سطورُه مكتوبةً بالدمِ والفحم

والصراخِ العجيب.

بل إنّ الكتاب

تحوّلَ في مساءٍ مركّز

إلى جمجمة!

ليس مِن خيارٍ إذن:

لبسَ الشاعرُ الجمجمة!

فصارَ خوفُه ومللُه وشوقُه

جماجمَ صغيرةً مكتوبةً بلسانٍ عربيّ مبين!

 

قرد الصحراء

**************

حين أتوا به من الصحراءِ إلى الملك

أُعجِبَ به الملكُ جدّاً

إذ لم يرَ قرداً

يرقص من قبل

بهذه الخفّة

وهذا الاحتراف!

ولذا أصبح تسلية الملك الأولى

صباحاً ومساءً

مساءً وصباحاً

بل صار الملكُ يصحبه

ليقدّم رقصته

أمام زوجاته البدينات

أو ضيوفه الإمّعات.

وحين يصيب القردَ الملل  

يُؤخَذُ إلى الغابةِ البعيدة

ليلتقي بأصدقائه القِرَدة،

فيعرض القردُ عليهم

مزهواً هدايا الملك:

موز ذهبيّ،

تفّاح ذهبيّ،

عرموط ذهبيّ.

تفرحُ القِرَدة

لمنظرِ الفاكهةِ العجيبة

وتحاولُ جاهدةً

أن تمضغ الموزَ الذهبيّ

والتفّاحَ الذهبيّ

والعرموطَ الذهبيّ.

وحين تفشل في مضغها

ترمي القِرَدةُ الفاكهةَ الذهبيّة

على الأرض

وتتسلّق الأشجار

لتطلقَ أصواتاً منكرةً

ساخرةً

من قردِ الملكِ الذي يشعر،

وقتئذٍ،

بالخزي من نفسه،

ومن الأصدقاء القِرَدة،

ومن الملكِ وَهَداياه:

الموز الذهبيّ،

والتفّاح الذهبيّ،

والعرموط الذهبيّ!

 

سقوط الحرف وصعود النقطة

**********************

  عندما بدأنا نشربُ الخمرة

في حانةِ المسرّة

فرحين وسط الموسيقى العجيبة

ومنتشين كما ينبغي لأمثالنا من الفانين،

سقطَ الحرف

سقطَ الحرفُ من كرسيّه العالي

على الأرض

مغشيّاً عليه

وتناثرَ جسده طيوراً وبلابل،

دماً ودموعاً،

أدعيةً وصرخات.

وحين التفتُ إلى النقطة

وجدتها تنهض

لتصعد إلى مسرحِ حانةِ المسرّة

لتتعرّى وترقص،

لترقص وتتعرّى

بكلِّ ما أوتيتْ

من رغبةٍ وشهوةٍ وجنون.

   

الشبيه

*******

سيكون معك:

اسمه سيتكرر أمامك

مثل كوارثكَ التي لا تكفّ

عن الحضور.

وسيتنفّس معك:

نَفَسَهُ ثقيلٌ أثقلُ من دخانِ الموت

وطلعته كئيبة

مثل جمجمة متروكة في العراء.

قد يكون صديقكَ، إذن،

وقد يكون زميلكَ أو شبيهك.

مَن يدري!

ربّما هو مثلكَ يحبّ التمثيل.

لذا سيزعم أنه مَثّلَ مِن قبل

دورَ هاملت أو ماكبث

أو الحلاّج  أو النفّري

أو حتّى زوربا اليوناني.

لا تنزعجْ

قد يكون هو الممثل الحقيقي

وأنتَ المزيّف!

وربّما هو المُخرج

وأنتَ الممثل الثانوي

أو المشاهد الكسول

أو بائع الفلافل ببابِ المسرح.

مَن يدري!

ولذا ينبغي أن تحترم أكاذيبه اللامعات

بل ينبغي أن تجيد فنَ الكذب

حينما يسألكَ عن دوره المسرحي الجديد،

فتختار له دورَ الأسد

- وأنتَ تعرفُ كم هو خرتيت-

بل ربّما ستدعوه أسداً

حتّى بعد انتهاء حطام المسرحية.

ولكي ترتاح بعض الوقت

ستسمّيه فيلاً

وتمنحه دورَ الفيلِِ بسعادةٍ غامرة،

وأنتَ تعرفه قرداً

يقفزُ على الأشجارِ العالية

أمام عينيكَ  كلّ يوم

ليملأ الهواءَ صراخاً وزعيقاً.

إنه مَن سيشارككَ الشاطئ والبحرَ والسفينة

وربّما سيشارككَ الملجأ في الصحراء

ويركب معكَ قاطرةَ الخوف

أو طائرةَ المجهول.

وربّما،

إن كنتَ محظوظاً،

يجلس معك

غامضاًً مرعباً

مثل جثّة مُحنّطة

في بهوِ الانتظارِ الكبير!

 

كنتَ سعيداً بموتك

**************

في الوداع الأخير

أدهشتني كثرةُ مَن رثاك:

مَن ادعى محبّتكَ ليذرف دمعاً وحرفاً.

ولم أستطعْ أن أضيف إلى مأدبةِ الحزنِ شيئاً

فاكتفيتُ بصمتٍ فسيح.

ولكنني قبل أن أموت تذكّرتُك

- ولي في كلّ يومٍ موتٌ بليغ-

فقررتُ أن أنادي على نوح

علّه يسمعنا هذه المرّة

أو أنادي على حمامته أو غرابه

أو أنادي على مَن نجا في سفينته.

وقررتُ أن أنادي، كذلك،

على آلامكَ الباسلة:

أنادي على بودليرك

وعلى متنبّيكَ وسيّابك

وعلى خرابكَ الأزلي

وعلى حاناتكَ السبع

وخساراتكَ الشاسعة.

فاكتشفتُ أنكَ كنتَ سعيداً بموتك!

نعم، فلقد سحقكَ الصَلْب

وزلزلكَ الصليب

وأتعبكَ الحرفُ وخذلتكَ النقطة

وضيّعكَ المنفى وباعكَ البحر

وسرقكَ اللصوصُ والشعراءُ المؤدلَجون

وسط الصحراء الكبرى.

هكذا ارتبكتُ وأنا وسط الرقصة

وذهلتُ وأنا وسط الدمعة

حيث رأيتُ مشهدَ موتي

وحيداً

فريداً

إلا من التابوتِ الذي كان طويلاً

كسفينةِ نوح.

 

 

لماذا

*****

إلهي

لقد غيّبَ الموتُ العاشقَ والمعشوق

والمغنّي

والأغنية

والمستمعين  واحداً بعد الآخر.

ثم غيّبَ الموتُ صاحبَ المقهى الذي كان

يذيع الأغنيةَ كلّ يوم

من مذياعه العتيق.

ثم غيّبَ المذياعَ العتيق

وكراسي المقهى ومراياه الكبيرة.

وأخيراً،

دون مقدمةٍ ذات مغزى أو معنى،

غيّبَ الموتُ النهرَ الغامضَ الذي كان

يعطي المقهى

والأغنية

والمغنّي

والمستمعين

وصاحبَ المقهى ومذياعه العتيق

سحرَ الحياة.

إلهي

وحدي كنتُ الحيّ الباقي،

الحيّ الشاهد على ما حدث،

أعني الحيّ الذي يكتبُ هذه الحروف

بقلمه المرتبك حدّ اللعنة

والذي يتوقف كلّ دقيقة

ليتأكد من أن أصابعه لم تزلْ

تستطيع الكتابة!

 

أستراليا

www.adeebk.com

 

 

في نصوص اليوم