نصوص أدبية

المحتال والسياسيون

 فنهق الحمار وتساقطت النقود من فمه أمام التجار فاندهشوا وساوموه عليه واشتروه منه بثمن عال ليكتشفوا لاحقا أنه خدعهم، فذهبوا يبحثون عنه فعثروا على زوجته التي أخبرتهم أنه غير موجود وإذا رغبوا بحضوره سترســـل كلبها ليحضره. وافق القوم فأطلقت كلبا كانت تحبسه فهـــرب لا يلوي على شيء، لكن زوجها عاد بعد قليل وبرفقته كلب يشبه الكلب الذي هرب. اندهش القوم  ونسوا ما جاؤوا لأجله وساوموه على الكلب النبيه فاشتراه احدهم بمبلغ كبير وذهب به إلى البيت وأوصى زوجته أن تطلقه في إثره إذا احتاجت حضوره، وفعلا أطلقت الزوجة الكلب خلفه فلم يعد، وعرف التجار أنهم خدعوا ثانية، فانطلقوا إلى بيت المحتال ودخلوا عنوة فوجدوا زوجته، ولذا جلسوا ينتظرونه ولما عاد نظر إليهم ثم إلى زوجته ، وقــــال لها:لمـــاذا لم تقومي بواجبـــات الضيافة ؟ قالت: إنهم ضيوفك فقم أنت بواجبهم. فتظاهر بالغضب وأخــرج من جيبه سكينا مزيفا وطعنها فيه فتظاهرت بالموت. ولامه الحضور على تهوره فقال لهم :لا تقلقوا لقد قتلتها وأحييتها أكثر من مرة وأستطيع أعادتها للحياة أمامكم، فأخرج من جيبه مزمارا وبدأ يعزف عليه فنهضت بنشاط أدهشهم ونسوا ما جاءوا لأجله وساوموه على المزمار فاشتروه بمبلغ كبير، وعاد الذي فاز به وطعن زوجته وبدأ يعزف فلم تنهض، وفي الصباح سأله التجار عما حصل فخاف أن يخبرهم الحقيقة لكي لا يضحكون عليه فادعى أن المزمار يعمل وانه جربه  فاستعاره التجار منه وقتل كل منهم زوجته. فعرفوا أنهم خدعوا ثالثة فذهبوا إلى المحتال ووضعوه في كيس ليلقوه في البحر البعيد.ساروا حتى تعبوا فجلسوا للـــراحة فنــاموا.وبدأ المحتال بالصراخ فجاءه راعي غنم وسأله عن سبب وجوده في كيس فقال: إنهم يريدون تزويجي من بنت كبير التجار ولكني أعشق ابنة عمي ولا أريد ابنة الرجل الثري. أقتنع الراعي ووافق على الدخول مكانه طمعا بالزواج من ابنه كبير التجار، فاخذ المحتال أغنامه وعاد إلى المدينة. ولما عادوا من رحلتهم وجدوه أمامهم ومعه الأغنام. فاندهشوا وسألوه فأخبرهم أنهم لما القوه في البحر خرجت حورية وأخرجته وأعطته ذهبا وغنما وأوصلته إلى الشاطيء وأنها أخبرته أنهم لو رموه بمكان ابعد لأنقذته أختها الأكثر ثراء والتي كانت ستعطيه آلاف الأغنام.  كان المحتال يحدثهم وهم يستمعون بدهشة وطمع فانطلقوا إلى البحر والقوا بأنفسهم فيه وسبحوا بعيدا فغرقوا جميهم، ولم يعد منهم أحد. وبذلك أصبحت المدينة وما فيها من أملاك وفقراء وسذج ونساء وحقول ملكا للمحتال! فتزوج نساءهم وجعل الباقين عبيدا له.

كنا نسمع حكاية البطر هذه ونضحك من عقل راويها وسذاجته إلى أن دخل المحتال الكبير إلى العراق الحبيب فخدع كل أهله الطيبين الذين أتعبتهم سنوات الحصار العجاف وكانوا يبحثون عن بارقة أمل في السراب فنصب عليهم، وسلبهم أول ما سلبهم عقولهم ثم اتزانهم ووطنيتهم ووحدتهم وعقائدهم وطيبتهم وشرفهم وكل غال ونفيس. فحولهم قطعانا بلهاء فيهم من ينظر إلى فم الحمار عسى أن تخرج منه ليرات الذهب، ومن يضع ثقته بكلب سائب ويركض خلفه عسى أن يدله على الصواب، ومن يحمل السيوف ليذبح بها أخوته وأهله وجيرانه على أمل أن يحييهم ثانية ويبعثهم على نياتهم، ومن يسلم أمانته التي في عنقه ويدخل الكيس طواعية أملا بالزواج من ابنة السلطان، ومن يلقي نفسه في لجج البحار طمعا بالثرة  والمنصب والجاه والسلطة.

 وحينها أدركنا أن من وضع تلك الرواية لم يكن ساذجا بل كان حكيما رأى في منظار عقله مستقبل بلد حكايات ألف ليلة وليلة، فصوره لكي نتعض به، ولكن طمعنا وجشعنا وأنانيتنا وطائفيتنا وآلامنا الموروثة عبر التاريخ شغلتنا عن معرفة العبرة والتنبه للاعتبار فانخدعنا جميعنا وانطلت علينا حيلة الدجال المحتال الكبير الذي شغلنا بهمومنا وتفرغ لسرقة العراق بكل ما فيه.  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1249 الاثنين 07/12/2009)

 

 

 

في نصوص اليوم