نصوص أدبية

(الرسم بحروف مسمومة)*

هل هذا أوان البوح؟ ، أم هو زمن السر المعلن؟، كيف السبيل للاعتراف في بئر السكوت؟ . عن ماذا تسأل ،ولما تستفسر؟، دعني بأوجاعي أتعكز على صولجان الأمل، دعني طائرا مع العصافير. وإياك أن تنسى باني لازلت احتفظ بنصف فرشاتك بعد شجارنا (على جسر الصرافية)الذي أصر الأنذال أن يشطروه بالنصف كما شطرنا نحن إلى نصفين، فاعد لي نصف قلمي  لأعطيك نصف الفرشاة وتعود تكمل ملامح عجوزك الرهيبة، واكمل بدوري (كاتب ورسام سيرة ما جرى...

 

الأحمر سمهم الخبيث

قائلا منهم بشكل هستيري هادئ حتى الصراخ: هل ترون انظروا إلى الدماء إنها تسيل بشكل جارف هل انتم خرسان. لما لا تفتحون أنوفكم لتروا لون الدم ، لما لا تصرخوا ألم تستشعروا الدم.

متنطع آخر ينطلق بسرعة السلحفاة هاتفا: آيها الناس انظروا إلى الحمار الناصع الخضار انه يلتاث

 بالأرض. لقد ذبحوا الناس لما لا تكتبون، لما تصمتون انظروا إلى الضحايا، انهم يجزرون كما حبات الطماطم لاحظوا، أحمر، أحمر .

يسرع الآخر وهو بائع الأسلحة يلطخ يديه بالأحمر: آيها الناس افتحوا صدوركم واخرجوا قلوبكم لتعلن البكاء والنحيب على هذا القدر. لما لا تصدقون بان النجاة في الحرب انهم يريدون الحرب.

بائع الطماطم: حرب نعم لتكن حرب،اشتروا الطماطم وحشوا فوهات المنجنيق بها، ليصبح كل شيء احمر، أحمر، أحمر.

الجمهور: نعم لافظ فيك. أحمر، أحمر، أحمر .

زبون: اعطني أربع كيلو آيها( الطماطي)** الأحمر.

زبون آخر: وبعني بعده عشرين كيلو، أريد أن أمنحها في سبيل الشيطان. يجب أن يكون كل شيء احمر.

خلع التاجر نظارته مبتسما، واشار بيده نحو جموع من الصعاليك اصطفت من ورائها أسراب الغربان: هيا يا أحبتي الأعزاء أريدكم أن تسحقوا اكبر قدر ممكن من صناديق الطماطم وتدوسوها بأرجلكم. يجب أن يرى الجميع أن لاشيء في هذا البلد الأحمر غير الأحمر، أنا افعل ذلك من أجلكم ومن اجل تاريخكم الأحمر.

 تدافع الصعاليك بسرعة: احمر، احمر، احمر، عاش الأحمر مات الأبيض..

 

سعيد الحزين يرسم كلمات سوداء

أتذكر حينما اخذ يسرد حكاياته في زمن اغتيال الحكواتي. لازال طعم الرماد الذي يرشه على طعامه المعد من نقانق الجرذان بدل الملح  في فمي. كان لا يرى، بل لا يريد أن يرى، غير الأسود. وحينما ولدت زوجته العاقر ابنه السادس والذي كان معاقا ، فلم يكن سوى جسم بلا أطراف ، شيء قريب من ذلك الرداء الأنيق الذي يلبس فوق القميص . وقد استبشر سعيد بشكل مشؤوم، وانخرط بالعمل في مرسمه. أنجز العديد من المعارض القبورية..، لازالت صورة ذلك الطفل البريء ذا الشعر اللامع ماثلة أمامي. رغم السنين التي مرت عليها ، لا تكف من أن تراودني في اليقظة والمنام. حينما أصبحت أحلامي الوردية، التي كنت اهرب فيها في سالف  الزمان من بؤس الواقع ومرارته،عالم خرائبي اشد من الواقع واكثر مرارة. وظل الطفل، وعائلته، والأفراد الآخرين، الذين دفنوا أحياء كما صورهم سعيد الحزين في معرضه، تستقطب كل موضوعات أحلامي. جثث بشرية مهروشة، عظام وجماجم، عافها البياض وادقعها الصفار والعفن . ولازالت وبمنتهى القسوة والمرارة يدا ذلك الطفل تحملان تلك الكريات الزجاجية الصغيرة التي تعد أغلى كنوز عالم الطفولة...، أنجز سعيد النائح في آخر الأمر لوحات كثيرة لكرنفالات الدفن الجماعي وانتهى من أرشفة تاريخها. لكن البداية ضاعت عليه، حتى التقى أخيرا بذلك آلا فنان. الذي نطق فيه بكلمة يعجز عنها اعظم الفنانين أحيانا حينما علم بأزمة سعيد المهموم، فأشار له ساخرا: لما لا ترسم ذلك القبر الجماعي الذي أسسه زعماء الإسلام. الذين يعدهم البعض ظلال الله في أرضه، حينما جزروا الضحايا وفصلوا رؤوسهم ودفنوا في قبر واحد في صعيد كر بلاء...

 

اعرف الوانك

انظر إليك حينما ترسم استشعر حجم الألم في أعماقك، واحس بنار العذاب التي تستعر في وجدانك. ،أنت حزين فوق العادة لان (أكاديمية الفن ) لا ترحم . هي قررت بان من يرسم (البورتريت) يعتبر فنانا سوقيا، وهابط المستوى، بينما الواقع الثقافي العالمي يكذب ذلك كما تعرف واعرف.  وفوق هذا الإجحاف الذي ليس له ما يبرره أكاديميا سوى الأصولية فللجميع أصولياتهم وليس لإسلاميين وحدهم ذلك. كنت في عوز قاتل في زمن الإرهاب، والسعار الهائج، فمن يهتم بالفن حينما تصبح الثقافة الغائية ابادية دموية. كنت ترسم وكأنك تحاول مقاومة البرتوكول السائد جهد الإمكان، ولكي تنقذ باقي الألوان. التي جفت وتيبست عصاراتها نتيجة رواج الأسود والأحمر، ومن جهة أخرى كانت عائلتك تريد الخبز وأطفالك تريد اللعب والمزاح بعد الشبع. فانخرطت ترسم( البورتريت ) الذي ابتعدت عن الخوض فيه سابقا مجاريا للواقع السائد . لكني سعيد جدا بحزنك وسعيد جدا بصورك الشخصية زاهية الألوان، التي أنجزت فيها تلك الصور. بل أنا لا اخفي عليك بان تلك الألوان الزاهية التي رسمت فيها تلك الصور، بالإضافة إلى الورود التي زينت فيها مع الشهيد الفنان(س.ي) ورودا متفتحة زاهية تعط رائحتها خارج اللوحات وكأنها بساتين ورياض نقية من الزهور والكروم . لازالت تلك الرائحة التي امتصت كل عفونة الإرهاب والتنكيل الذي صرع الضحايا بالعشرات في تجمع اجتماعي ديني بسيط وطيب في بغداد الحبيبة ، تجتاح انفي وأنا أتجول في أروقة (ندرلند) البعيدة عن لوحتك. ولهذا أرى الشهيد (س.ي) حيا لم يمت ،واراك سعيدا رغم الألم...

 

 احمل تابوت الألوان بترحالي 

لم أنسى ولن أتناسى حيثما مضيت، ومهما تراكضت السنين لا أتخلى عن متحف الواني المليء بالذكريات. كل الألوان عندي ، العظام والجماجم، الشيوخ والأرامل، الرضع والعذارى . كلها محفوظة في حقائب ذاتي ودفاتر مخيلتي ، أنا، أنت، سعيد، (س.ي)، هم، انتم، نحن، بأدق التفاصيل وبأ زهد الأسعار. هل تصدق باني انوي إقامة مزاد سري لكل الأشلاء وحتى الأوردة والأمعاء، بل عندي أعضاء فريدة لم ولن تباع في اشهر بنوك الأعضاء البشرية. فهل سمعت بقطعة جسدية اقتصت من فوق العين مع نصف الحاجب وقليلا من شعر الرأس وهي تتحرك. اقسم وحقك باني رايتها تتحرك، ومنذ نداء الله اكبر من أحد المحزمين. الذي كان وسخا وأشعث كما أسلافه حسب الوصف الذي جاء من الذين رأوه قبل أن ينحر جسده العفن ويأخذ معه كوكبة من الأبرياء، كان عدد أجزاءها المتناثرة ستة وعشرين جثة، تشظت إلى أجزاء صغيرة بعضها اصغر من النواة والبعض الذي سلم من التشظي كان كالمصفاة. إذ اخترقته كريات حديدية صغيرة يستخدمها المجاهدون الشرفاء في عبواتهم المصنعة في كل بلدان الدنيا، وترسل على شكل دفعات مجانية كهدية محبة لأبناء الرافدين.  وحتى الآن لازالت تلك القطعة الفريدة تتحرك وتتقاطر دما عبيطا.  لك فرشاتك والو انك، دع الأسود لسعيد  واستمر أنت برسم الأحمر. له مقابره الجماعية ولك تلك اللوحة العظيمة أتذكرها ؟ حينما سألتك عنها بعد أن شعرت بوخزه غثيان بدأت من اسفل ظهري وتصاعدت نحو فروة شعري . قلت لي أنها بعنوان صراع (س) و (ش)  ، لقد بكيت ونحبت أياما فلقد كانت اللوحة الصاخبة والعنيفة بألوانها وأشكالها الغرائبية، والعجائبية، مختصرا موجزا لذاك الصراع المرير. لكم هذه الألوان ولي الواني فصبرا أحبتي فان الصبح لناظره لقريب...

 

12/4/2009

(هولندا- دود رخت )

 

......................

 *هذه القصص القصيرة ضمن مجموعة قصصية ليست منشورة بعنوان (حكايات مثيرة لبكاء الضحك).

** بائع الطماطم.

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1068  الخميس 04/06/2009)

 

 

في نصوص اليوم