نصوص أدبية

لا عزاء بعد اليوم

moslim alsardahقبل يومين او اكثر او اقل، من ايام حياتي البادئة بالنفاذ. وكان الوقت، لا ادري، اكان نهارا ام ليلا. كنت ذهبت الى قريتي القديمة المكوّمة عند حواف الصحراء. قريبا من النهر الذي تحول الى ساقية منذ زمن بعيد، لا اتذكره متى بدا ومتى سينتهي مثل مهزلة ضحك منها الكبار والصغار الاحياء منهم والاموات. ذهبت لا اعرف لماذا؟. ولا لاي غرض. ربما لتقديم التعازي للاخ فاضل، صديقي القديم، بمناسبة موت والده. وبالمناسبة فوالد الاخ فاضل هو بمثابة والدي وفاضل نفسه صديق حميم لي. وكانا هو ووالده يحضران جميع جنائزنا ويشاركانا الحزن دائما.

كانت رحلتي شاقة. فالنهر رغم انكماشه وتحوله الى ساقية الا انني اضطررت الى عبور نصفه تقريبا خوضا في ماء اسن، بعد ان انزلني سائق الزورق عند منتصف النهر معتذرا بأدب جم عن التقصير الذي اخجلني قائلا انه وصل الى اهله وان الوقت قد حاصره.

حين عبرت وجدت نفسي نادما لانني قبلت النزول طواعية من الزورق خصوصا وان صاحب الزورق كان قد اخذ مني الاجرة كاملة. لكني عللت نفسي انني تصرفت بحكمة بالغة خوفا من المشاكل العشائرية.

في القرية لم اجد صديقي فاضل ولم اجد اي عزاء في جامع القرية الوحيد بل ولم اجد اي احد. بل اني اعترف الان متذكرا ان الجامع لم يعد مسجدا. لان ليس فيه من احد سوى خادم الجامع علي الكاظم الذي كان قد مات منذ يفاعتي وفاجاني وهو يشير لي بعصبية بيديه الاثنتين، كمن يريد التخلص مني، اشار كمن يريد العراك نحو الطرف الغربي من القرية حيث بدا لي ان ذهابه الى القبر وعودته المفاجئة قد اخرسته. والحق يقال ان الجامع كان مليئا بالتوابيت الزاهية الالوان وقد رصفت بطريقة هندسية بما يشبه ميكانو للعب الاطفال. لكن كان هناك مجموعة من الاولاد المراهقين هنا وهناك. وكانوا في حالة من الضحك الدائم بصوت عال. لماذا يضحكون لا ادري. لقد خفت ان اسالهم لنظراتهم غير الودودة لي. ولكني احسست ان عيونا خلف جدران البيوت كانت تترصدني. كان الجميع يتكلمون كلاما لامعنى له يضحك الاطفال. كنت كلما حاولت الاقتراب من مصدر اللغط لعلي افهم مايقال نهرني الاطفال بشكل غير لائق او مؤدب صائحين بي ان اذهب والا!!. وكنت اتعجب ان قريتي هذه الوديعة اصبحت بلا رجال يعرفوني او اعرفهم. بل وان الناس الذين كنت على علاقة حميمية معهم كنت اسمع لغطهم خلف الجدران الهشة ولكنهم كانوا يسمعون اولادهم حين ينهرونني دون ان يبادروا لاسكاتهم على الاقل.

في طريقي للذهاب الى نهاية القرية كنت خائفا حتى كدت انسى الغرض الذي جئت من اجله وهو تقديم التعازي لصديقي القديم فاضل. ومما زاد في خوفي اكثر هو اجتيازي لخط لم اره، لانه كان وهميا، ولكن قيل لي انني اجتزته من قبل مجموعة من المسلحين. اوقفوني بالصياح والكلام المزعج وراحوا يسالوني عن اهلي وعشيرتي وطائفتي وكلها اسئلة استفزازية مخيفة كنت اجيب بعدها بقولي بلا بلا بلا وتجرأ احدهم بسؤالي عن وطني وكان يسخر مني كما يبدو فاجبت وكنت ارتجف بلا ايضا. وعندما طلبوا مني ان اقسم بمقدساتي اقسمت بصديقي فاضل الذي لم يحضرني غير اسمه انذاك. عندها انبرى احد المسلحين ولكزني في بطني باخمص بندقيته صائحا بي ان من استعان بغير الله ذل يا نذل. واخيرا استطعت بعد ان تعبنا من بعضنا بسبب ذاكرتي التي فقدتها تماما في تلك اللحظة وانشغالهم باشياء اخرى، استطعت التسلل الى خارج القرية في جزئها الغربي بحثا عن عزاء والد صديقي فاضل الذي وجدته واقفا هناك بطريقة غير معقولة كانه في حلم ليلي لم يخرج منه بعد. قال لي ولم يكن قد عرفني كما بدا لي رغم انه اقسم اليمين الغليظة ان السنين الطويلة التي جمعتنا كانت كحد السيف في ذاكرته. واضاف معتقدا انني احد اطفاله الصغار ان السبب في اضعاف ذاكرته بسبب ضحكنا الدائم وعدم مسؤوليتنا حتى انه اي فاضل نفسه كان يظن العيب في افكاره هو نتيجة لتقدم عمره لا في السنين التي اصبحت غير ذات قيمة. وقال لي انه لم يطلب من احد حضور عزاء ابيه لانه اي فاضل لايستطيع بعد الان الحضور لعزاء احد. ولم يقل لماذا ولكنه اكد ان قريتهم لم يعد يموت فيها احد....

 

مسلم يعقوب السرداح

 

في نصوص اليوم