نصوص أدبية

الفيضان

moslim alsardahحين حدث الفيضان الاخير كنت انا ومجموعة غير قليلة من اهالي القرية على راس المدافعين عن حدودها الغربية المتصلة بالصحراء. حملنا جرافاتنا اليدوية وحملنا ما تيسر في بيوتنا من اكياس. وحمل الفلاحون من الاهالي ممن يسكن في البساتين المحاذية للنهر مساحيهم. وذهبنا لصنع سدود بسيطة، سرعان ما انهارت بعد ان غطاها الماء بعد ساعات قليلة. والحق اقول انني كنت وقتها من اوائل الذاهبين. حتى اني رايت الماء القادم بطلائعه التي استقدمت معها السحالي والحيات وما تجود به الصحراء من الزواحف الصغيرة والكبيرة وهي تغادر هاربة امام السيل الجارف للماء الغاضب.

كان منظر الحيات مخيفا فكانت تثير الاسى بعد ان كانت تثير الخوف. حتى ان احد الملدوغين، يوما ما، راح يصيح "اقتلوا الافاعي فانها لاتستحق الرحمة" فاجابه احد الشيوخ كبار السن "احذروا الفتنة واذكروا محاسن الموتى". عند ذلك انبرى احد الشباب الثرثارين له ليساله: "وهل للافاعي من محاسن؟" فاجابه الرجل "كانت تحمي جانبكم الرخو". ودار بينهما لغط كثير لم اركّز في فحواه.

كانت مياه الفيضان تجري من الجنوب للشمال. وهي بعكس جريان مياه الانهار التي كانت تسير معكوسة حتى انها راحت تصيب الامنين من سكان الصحراء بالذعر.

كانت ارض قريتنا عالية. وبما ان الماء ياخذ مستواه فقد كانت بيوتنا في مامن مما كان يجري. ومع ذلك فقد كان من باب الاحتياط اتخاذ الاجراءات الاحترازية الخاصة التي من شانها الحفاظ على سلامة الناس وممتلكاتهم. فقد قام اهالي القرية بنقل كل تراب المقبرة المؤقتة المخصصة لفقراء القرية، من الموتى طبعا، غير اسقين، واكساء الطريق الرئيسي المؤدي الى بيوتهم. وبالنسبة لي ولغيري من مرهفي السمع كنا نحس حركة تذمر غير طبيعية للموتى تظهر في وقت متاخر من ليل القرية. لكن اخرين كانوا يدّعون ان رائحة احتجاج الفقراء تملا القرية. ولقد قمنا انا وعمي، وتبعنا باقي الجيران بستائر بيوتهم، بتحطيم ستارة بيتنا الجنوبية المحاذية للنهر والقائها بجانب الجدار اعتقادا انها تحمي البيوت من مياه الفيضان. وقام البعض ممن لايملكون الستائر فوق سطوحهم بالاحتجاج الممزوج بالسخرية على عمل كهذا مدعين ان بيوت القرية عالية وسرعان ما سينحسر الماء.

كانت كل الدلائل تشير الى ان الفيضان ياتي عادة من النهر. لكن حقيقة واحدة قلبت وضع ذلك الاعتقاد وهو ان السلطات الحكومية قد استنفرت كل قواتها الامنية والخدمية لغلق كل منافذ الصحراء التي تؤدي الى النهر بحجة ان بيت الحاكم الكبير ودور حكومته تقع مباشرة فوق فم النهر وان اختلاط مياه النهر مع المياه الاتية من الفيضان قد تجلب معها الزواحف والحيات القاتلة لاحد افراد عائلة الحاكم او موظفيه او ربما الحاكم نفسه. فراحوا يمنعون الرجال من الوصول الى سدودهم التي قاموا ببنائها سخرة بسواعد الناس.

كان ذلك عند بداية الفيضان، حينما كان الامر يشبه نكتة ساذجة ان تضخ الصحراء الماء باتجاه النهر بعد امتلائها به. وهدم قبور الموتى لحماية بيوت الاحياء. حتى ان الاولاد كانوا يصيدون السمك عند عتيات بيوتهم او يركب الكبار الزوارق الصغيرة لزيارة بعضهم البعض والاطمئنان على حالهم. لكن بعد ذلك وقد اخذت مناسيب المياه تتزايد وتبدا البيوت المنخفضة بالغرق تدريجيا فقد بدا امرا لايطاق. خصوصا وان من غير المعقول ان يضحي الناس بارواحهم من اجل سلامة الحاكم وعائلته امام خطر مفترض لم تتاكد صحته. وراحت الناس تتساءل حول مصير الماء الغاضب ان لم يذهب الى البحر ويتلاشى هناك فماهو مصير القرية وسكانها؟. فكان جواب البعض ان ارض الصحراء لها القدرة على الامتصاص لجفافها. وقال اخرون ان الشمس الساطعة كفيلة بتجفيف المياه. دون ان يفكر احد بالوقوف في وجه الرجال الواقفين لحماية السدود. او ان يقف شجاع واحد يوصل صوته للحاكم ليخبره ان السدود لايمكنها ان تمنع الزواحف الافتراضية من العبور من فوق اي سد مهما كان عاليا.

ازدادت مناسيب المياه وغطت ارضيات البيوت وانتشرت في القرية الامراض اضافة للزواحف السامة وتكاثرت الخنازير البرية المفترسة في بساتين القرية ولم تظهر اي بادرة حل لا من قبل اهالي القرية ولا غيرها ولا حتى الحاكم نفسه. حيث كان ذلك الحاكم غائب العقل والعاطفة ويستهين بالناس ولا يعبا بهم.

لم يكن موقف الحاكم هو الموقف الاول الذي ظلم فيه اهالي قريتنا ولم يكن ذلك الحاكم هو الاول بل يكاد اغلب اهالي القرية يجزمون ان جميع الحكام الذين تعاقبوا على حكم القرية كانوا على شاكلة الحاكم الحالي. لكن سكوتهم وجبنهم هو ما اوحى للحاكم بسهولة الظلم حتى انه لم يفكر لاهو ولا اي من مستشاريه الكثيرين بالبحث عن حلول بديلة. انه يشبه ذلك الاسكندر الذي جئ له بحبل معقود ليحل عقدته فقطعها بضربة من سيفه الحاد. مدعيا في ذروة طغيانه ان له القدرة على حل اي عقدة ولو كانت مستحيلة. لذلك ظل الناس ينتظرون حلا غيبيا ميتافيزيقيا، لماساتهم قبل ان يتحول الفيضان طوفانا يغرقهم وبيوتهم.

لكن الماء ظل يزداد ويزداد ثم امطرت السماء وفاض النهر نفسه تيمنا بالصحراء، وسط معاناة الاهالي الساكتين الخانعين الى الحد الذي ادى الى كسر السدود والعبور فوقها مما ادى الى غرق الحاكم وبيته وحكومته.

وكثرت بعد ذلك شائعات تقول ان موتى المقبرة التي خربها الاهالي كانوا قد ضاقوا بالفيضان وبجبن الاهالي ونذالة الحاكم. فعبروا النهر ليلا لينقضوا على الحاكم وحكومته. ويقسم على ذلك الجنود حماية المنطقة التي يسكنها الحاكم مع حكومته. واقسم قريب لاحد الموتى ان قريبه جاءه اثناء نومه واكد ذلك الخبر.

 

مسلم يعقوب السرداح

 

في نصوص اليوم