نصوص أدبية

بغل في محنة

moslim alsardah حين كبر البغل وشب عن الطوق، كما يقال، كتب مذكراته التي اختصر فيها معاناته. كتب:

وجدت نفسي في ملكية حمّار لايرحم في بيئة غريبة الاطوار تعتبر العمل من العيوب التي يجبر عليها جميع العاملين. وتكون المكافاة هي السوط الذي يقصم الظهر. ويؤلمني السوط ليس فقط لانه مؤلم يصفع الجلد صفعا ويكاد ينام فيه، خصوصا في ايام الشتاء الباردة. بل لانه ياتيك من الخلف و من وراء الظهر من حيث لاتحتسب. وحين يمارس مالكي الجلف، الفظ، الضرب لم يلمه يوما احد على ذلك بل وجد ان الجميع خرسان ساكتون وكان الامر لايعني احدا منهم او كأنه امر طبيعي غير مستغرب. وحين يتفوه احد هؤلاء القليلين تجد صاحبه وقد مد لسانا سليطا حول امر لا يعنيه من بعيد او قريب، كما يقول هو، لانهم يتدخلون في شان لايعنيهم. لانه اشتراه بماله وهو حقه كما يزعم. وحين تمادى احد المارة ونهر الحمّار على شدة ضربه لي ولان الرجل كان قويا ضخم الجثة وكان رياضيا فان الحمّار لم يتجاسر على الزعيق بوجهه كعادته، خوفا منه وتقيّة. بل انه راح يقلبها نكتة في انني مجرد بغل قوي غبي لايخاف عليه احد.

بحثت عن امي لاشكي لها حالي وجدتها لاتشبهني فهي فرس وانا بغل. كانت امي تستخدم للركوب والسباقات. ولكن ابي كان حمارا مسكينا بائسا ضعيف البنية، ضئيلها، حتى انني رثيت لحاله عندما التقيت به، مربوطا مثلي، الى عربة يجرها. لاتتناسب مع حجمه لكبر حجمها وضالته، في علوة من علاوي مواد البناء. سالت امي يوما، وكانت مارة وفوقها رجل نبيل كما كان يبدو من هيئته. استاذنته في تركي مع امي لدقائق فتركنا وحدنا في غفلة من صاحبي الفظ. فقبل راضيا.

قلت لامي ما الذي دعاها لارتكاب خطيئة ولادتي من حمار؟. حتى انني حين اسال عن والدي كنت اجيب قائلا ان اخوالي الخيول. لانهم يوصمون الحمير بشتى الاوصاف. فالغبي عندهم حمارا. والصبور ومن يتحمل الاذى، حمارا. والطفل المعاقب ومن يجلس في الشمس بارادته. كلهم يوصمون بالحمير. اجابتني امي قائلة:

- انها نزوة الشباب ياولدي ولم يكن لدي الوقت الكافي والارادة القوية، ساعة النزوة، لافكر فيما قد يحصل في الايام القادمة. واضافت امي:

- كانت الخيول كثيرة وكنت شابة جميلة ومطلوبة. لكن الخطيئة لايسكت عنها الا الحمار، كما تبادر الى ذهني لحظتها، وكان ابوك حمارا ابيضا وجميلا رغم انه يكبرني بسنين طويلة. وكنا قد القى بنا الحظ في اسطبل واحد.

سامحت امي والقدر على مافعلاه بي. فلقد وجدت ان المسامحة اكثر فائدة وراحة للقلب من حمل الضغينة والحقد. ولكن بمرور الوقت وتزايد المشاق وعنجهية صاحبي اكتشفت اشياء اخرى كثيرة. اكتشفت ان مايقتل المرء ليس هو العمل. فالعمل ومهما كان شاقا فكلمة او نظرة شكر وحمد وامتنان تكفي لازالة كل اثاره الشاقة. ولكن الجحود وسوط العذاب هو مايؤذي ويقتل. ففكرت في الانتحار بعد ان عانيت من مشكلة اخرى هي ام المشاكل. فالبغال تعاني مشكلتين ازليتين لاحل لهما لانهما تتعلقان بطبيعة الولادة. فالبغل يعاني اضافة الى ان والدته فرسا وهي انثى الحصان. الا ان والده حمارا. وهذا يدعوك الى عدم الانسجام. ولقد قضيت على هذه العقدة بالندرة والتندر فكما قلت لكم كنت اجيب من يسالني عن والدي وهو الحمار كنت اجيبه "ان خالي هو الحصان".

المشكلة الاخرى التي لاحل لها الا الانتحار بالنسبة للذكر، وعذرا لكم، هي الاخصاء. فنحن معاشر البغال نولد بلا ذكورة ولا انوثة، ولا اعضاء تناسلية لنا، كما يعرف ذلك الجميع. فان تقتلك الحياة بمشاقها وتعود لتجد انثاك لتحدثها عما جرى لك في يومك وحين تنام تتوسدها بذراعك وتشعر بانفاسها الدافئة، فهي ام النعم. فالانثى ذلك الكائن الصبور الجميل. هي اجمل الفضائل واوفرها. حتى ان من يتنعم بها يظن ان الاناث كائنات اخرى مختلفة تستحق الشكر والامتنان. لكني الوم من واشكو لمن انا الفاقد القديم الازلي لهذه النعمة وهذه الفضيلة؟. اضافة الى ما يترتب خلفها من عقد نفسية تدعو المرء للانتحار. وفعلا كنت اسمع من اقراني وزملائي في العمل ان البغال الجبلية تلقي بنفسها من مكان مرتفع لتموت في الوادي. وكانوا يعتقدون ان سبب ذلك هو شقاء العمل. لكن الحقيقة هي ما اخبرتكم عنه. فمنذ شيبوبتي المبكرة، وانا اعاني من هذه العقدة الدفينة.

اضافة الى ان الحمير والخيول حين ياتيها الولد تفرح. وحين اخبرت ابي بتلك الحقيقة، وجدت له رايا مغايرا. قال لي ابي "قيل للحمار افرح جاءك الولد فقال الحمار وعلام افرح وكل حمار يشيل حمله؟". واكد لي والدي هذه الحقيقة قائلا "لاتوجد حقوق للحمير ولا تقاسم للعمل!". يبدو ان الحياة جعلت من ابي حمارا حكيما.

بحث بغلنا المسكين عن مكان مرتفع يلقي بنفسه منه الى الوادي للتخلص من معاناته والامه. وبحث وبحث في اوقات فراغه التي يتركه فيها صاحبه ليتغذى على ازبال البيوت. لكنه لم يجد جبلا او واديا لينتحر. ولانه يعاني من الامه بصمت البغال فقد مات كمدا وحسرة.

 

مسلم يعقوب السرداح

 

ملاحظة : الغيت حسابي في الفيس بوك وتويتر. لاصدقائي ومن يود مراسلتي ايميلي:

"[email protected] "

في نصوص اليوم