نصوص أدبية

الديناصور

MM80"حين استيقظ، كان الديناصور ما يزال هناك"

أوغيسطو مونتيروسو

 


 

الديناصور / حسن البقالي

 

- إن الله لا يلعب النرد

قال بصوت متهدج، وأغلق دونه الباب، في محاولة أخرى لتجاهل الأصوات المتعالية والواعدة بفتح جديد في المضمار.

المضمار الذي ظل يتربع على عرشه لفترة.. هو الذي أهدى البشرية أهم نظرية في تفسير الكون وقوانين الفيزياء، منذ سقوط التفاحة الشهيرة على سلفه الكبير نيوتن.

هو ألبرت إينشتاين.

- ومن يكون ألبرت إينشتاين حتى يملي على الله ما ينبغي فعله؟

أتاه الرد.

كانت فترة عصيبة..

للأزمة الاقتصادية والإيديولوجيات وأشباح الحروب التي قامت والتي ستنشب بعد حين..

فترة الأسئلة الكبرى واللايقين

وهو..

ألبرت إينشتاين.. لم يعد واثقا من شيئ، فالنسبية العامة التي اطمأن إليها العالم من قبل، لم تعد كفيلة بتفسير كل شيئ.. وذاك النزوع المتزايد إلى "اللامتناهي في الصغر" يقتضي نظرة مغايرة إلى الكون، ونظريات جديدة.

حبة الرمل

بل أدق:

واحد من تريليون جزء من حبة الرمل.. الجسيم اللامتناهي في الدقة.. اللامتناهي في الصغر.. الصغير حدّ التلاشي، والذي لن يصادفه العامة في طريقهم أبدا، هل يمكن النفاذ إلى أسراره من خلال نفس المنظور السابق للكون الذي تؤثثه الجاذبية والأبعاد الأربعة وتباطؤ الزمن...؟

الكون الشاسع الكبير.. اللامتناهي في الكبر.

لاشيئ يدعو إلى الاطمئنان

المد القومي يزداد رسوخا في الأرض.. وسطوع نجم جندي سابق اسمه أدولف هتلر، بالشارب الصغير، والصليب المعقوف على خلفية حمراء..

وجه وصليب معقوف

ووعد بالقيامة الآتية زحفا.. فوضى واضطراب.. في حين تتعزز الميكانيكا الكوانتية بالمزيد من الأنصار والأبحاث الفاحصة لكل ما هو دقيق: فوتونات.. بروتونات.. الكترونات.. جسيمات دقيقة.. دقيقة جدا. وكل جسيم أرض موارة.. مضطربة.. للفوضى وفقدان البوصلة والاحتمالات المتعددة واللايقين..

اللايقين دائما..

في الواقع.. في الفن.. وفي العلم

احتمالات بنفس القدر من الحجية، رغم ما يبدو عليها من تعارض.. احتمال أن تكون هنا أو هناك.. أو هنا وهناك في نفس الآن..

- إن الله لا يلعب النرد

قال

فأجابوه:

- ومن تكون حتى تملي على الله ما ينبغي فعله؟

أغلق دونه الباب

وعاش ما تبقى من سنين العمر يبحث عن مبدإ موحد لقوى الكون.. عن نظرية تضم النظريات جميعا، ومعادلة تفسر الكل: ما تناهى في الصغر، وما تناهي في الكبر، وما بينهما من مساحات وأضواء وعناقيد مجرات بلا حصر.

***

 

بعد نحو ستين عاما على وفاة ألبرت إينشتاين..

وعلى الضفة الجنوبية من البحر المتوسط، سيجد شخص يدعى أحمد البحيري نفسه في مواجهة إشكالية مشابهة..

هو الذي عرف في الوسط الثقافي كناقد روائي، وألف "جاذبية" المحكيات الكبرى والمجرات الرمزية التي تعكسها مئات الصفحات المشكلة للعمل الروائي، ما باله ينجر الآن إلى هذا الجنس السردي الوليد.. الجنس الصغير جدا.. القصير جدا الذي لا يتعدى النص فيه أحيانا سطرا من بضع كلمات؟

جملة واحدة

سطر واحد

وها أنت ضمن الزمرة الكاتبة، لك اسم في المنتديات وصورة، وعينان حمراوان للرد على أي انتقاد.

لقد استيقظ أحمد البحيري

فوجد الديناصور ما يزال هناك.. لكنه - فيما يشبه القطعة النقدية الكبرى المصرفة إلى سنتيمات- ديناصور متشظٍّ.. موزع على مئات السحليات الصغيرة جدا.. آلاف السحليات التي تحرك أذيالها وتدور في كل اتجاه.

حبة الرمل

الحبة التي تضج بعالم من الأصوات والأسماء والمصائر.. ونصوص بدون عدّ.. نصوص على النت.. على الورق. عبر "الإس إم إس".. الجميع يكتب والجميع ينشر، والجميع يبارك للجميع..

أي مد عارم!

- الكاتب ليس بهلوانا في سيرك

لكن الكوانتيين الجدد في مجال السرد يزدادون إبحارا في النت، وتشبثا بالتكثيف حدّ تكتيف الكاتب وشل حركة المتخيل..

- ومن يكون أحمد البحيري حتى يملي على الكاتب شكله؟

تذكر، في إحدى أمسيات انشغاله بتسونامي القص هذا، الروسي "فلاديمير بروب" واجتهاده في صياغة نمذجة كونية لموتيفات الحكاية الشعبية، فتساءل عن نظرية أشمل، توحد الأجناس السردية كلها: الحكايا الشعبية والعالمة.. النصوص الطويلة والقصيرة والأقصر.. الأمثولات والملاحم والقصص القصيرة جدا.. فكر في معادلة فلسفية تفسر الكل: ما تناهى في الصغر، وتناهى في الكبر، وما بينهما من مساحات وأضواء ومجرات..

- الكاتب ليس بهلوانا في سيرك

قال

فأجابوه:

- ومن تكون كي تملي على الكاتب شكله؟

أغلق دونه الباب

وجعل يبحث عن الديناصور.

 

في نصوص اليوم