نصوص أدبية

الخروج من الدائرة

منذ لحظات إذ نبشت التراب وحفرت حفرة صغيرة و وضعت فيها بعض الأعواد اليابسة والأخشاب الصغيرة، وصبت عليها الوقود فاشتعلت بسرعة وتوهج الجمر الأحمر بلون قان.

 

الضيعة الممتدة مبتهجة على قيظ القيلولة. نسيم عليل يلطف الطقس الحار، فتنحني أغصان الأشجار على بعضها برفق، ويتحرك الهواء يعبث بشعرها. تحاول "عهد" ترتيبه وهي ترقب ومضات النار المنعكسة على وجه عمتها.. الجميع هنا: زوج عمتها وعمتها والعمال يستريحون تحت ظلال الأشجار من وهج القيلولة.. لم تزر حقل عمتها منذ تسع سنوات تقريبا إذ انهمكت في الدراسة فالتدريس.. تذكرت ذلك اليوم حين كانت طفلة لم تبلغ فيه السابعة من عمرها بعد والذي هربت فيه من هذه الضيعة نحو دار جدتها الكائنة في القرية المجاورة، فظن الجميع أنها غرقت في قناة " نهر مجردة"، لم تجد يومها أطفالا صغارا تلهو معهم، فقد تعودت على مرافقتهم لقناة الماء للسباحة أو نحو غابة "الكالتوس" ليركضوا بين الأشجار. شعرت بالضجر وانبعثت إلى أنفها روائح الشاي المحترق، فصممت على قطع طريق العودة في وهج القيلولة...

 

باغتتها ابتسامة وهي تسترجع شعورها في ذلك الحين وكأنه يعود خالصا وينفصل عن السنين المتراكمة. في ذلك اليوم فقط أدركت أن هذا الحقل الدائري كجزء من حقول دائرية تحيط بها أشجار السرو المتطاوسة ويلتف بها الجبل من الجهات الثلاث، أما الضلع المنحني الذي يشق الطرق المؤدية للحقول فهو"قناة مجردة". اختنقت وشعرت انها أسيرة دائرة مغلقة وأن القنطرة هي الملاذ للهرب، لإدارة ظهرها لكائنات طالما عشقتها: قناة الماء، الأشجار، الزرع، التراب، الحيوانات الرابضة في الاسطبل، الكوخ، الفراخ وهي تلتقط الحبوب.. وشعرت أنها تتحرك نحو الخلاص من عوالم انصهرت بها حد الذوبان. فما الذي أتى بها للحقل الآن؟ أهو الحنين لأجواء الصبا؟ أم رغبة في العودة إلى المعنى الذي تلتقي فيه الحركة بالحواجز؟

 

الطبيب صاحب الابتسامة المخادعة والنظرات المنكوسة إلى صور الأشعة بدا كأنه يخفي عنها إصابتها بعوارض مرض ما ودعاها إلى قضاء عطلة الصيف في مكان بعيد عن الضجيج، وأن تلغي التفكير في أي مسألة بالكامل!

 

بلى إن العقل لم يعد مجديا أمام شعورها بالدوار المتواصل لكنها تعود الآن إلى نفس الدائرة وتغوص في نفسها علها تخترق انقباض روحها. فأي طريق ستسلك؟، وأي جسر ستمر فوقه؟ إنها تغوص في هوة بدت بلا قاع، لا تعرف إن كانت تؤدي إلى السطح أم ستزيدها شقاء؟ ! لقد رمت بنفسها في مكان مغلق لا يقل فظاعة عن الموت أما الإفلات منه فأشبه بمواجهة العدم، وبحركة لاإرادية اتجهت نحو الساقية لتغسل وجهها وأطرافها، تراءى لها وجهها المنعكس على صفحة الماء شفافا بلا لون ولا أصباغ، غرزت في ثقوبه إبرة الشك لترى نتوءات الوجه كمرآة لماض أنهكه الوهن. استشفت في ملامح وجهها قناع تطل منه على سطح روحها إذ لم تحفر عليه ذرة واحدة من انكسارات شتى، إنه خارج دائرة الزمن، يرتسم كصورة لكائن أخرس لا تحركه مآزق التيه. إنها تتفرس وجهها كشيء مجهول، غريب عنها، وذلك ما ضاعف من حيرتها وجعلها ترنو نحو سماء لم تزد الأفق إلا قتامة وغليانا، ليس بوسعها الآن أن تفعل أي شيء عدا تفرس المأساة، ومشاهدة الدمار في مشاهد الحروب والتقتيل وإبادة الإنسان لأخيه.. الآلة لا تكف عن القتل أما وجهها فبدا بلا تعبير يجابه القلق بفعل ما.

 

تناهى إليها صوت طلقة نارية ولمحت سقوط عصفور هزيل قربها، انتفضت وهي تتفحص جناحه المثخن بالدماء، التفتت فلم تبصر صاحب البندقية، فأردفت عمتها:

ـ لقد صوبت الطلقة عن بعد، يبدو أن من أطلقها " محمود " أحد أبناء عون.

ربتت "عهد" على العصفور الذي كان يحتضر فشعرت بقساوة الظلمة المتسللة إلى نضارة الانشراح، فتثاءبت من فرط الضيق، وانتابتها الرغبة في الإفلات من المكان الذي سلط عليها مشاعر الرعب من الآتي، على ذلك احتفظ الحقل بألوانه الزاهية وثماره المتدلية: الخوخ، العوينة، العنب.. التقت ألوانها الخضراء مع وهج القيلولة الأحمر القاني... لكن ذاكرتها سرعان ما عادت تستحضر صورة "محمود" ذلك الطفل المشاكس إذ تعود منذ صغره على رمي الحيوانات بالحجارة، لا يهم إن كانت جراء أو فراخ أو كلاب صيد، لقد حدثهم ببراءة الأطفال أنه ينبذ الحيوانات لأنها متوحشة مهما كانت ضآلتها وأنه يحبذ العيش في الجبل ليتحرك بأمان بعيدا عن القرية الصاخبة، وحين كبر ودرس الفلسفة في السنة السابعة ثانوي صار يلقي الحجارة في الفضاء معلنا سقوط الآلهة، لاعنا من لقنوه الانحناء للسماء. لقد تواتر ذلك مع تعرض والده للموت بفعل الصاعقة عندما خرج ليتفقد حقله الذي غمرته سيول المطر الغزير.

 

تذكرت الحالة المزرية التي أصبح يبدو عليها إثر وفاة والده بل صار يبدو كشخص منهوك القوى، ولكن الأغرب ذهابه الدائم إلى منعطف الجبل أين تلقى الفضلات والحيوانات الميتة، وكان الجميع يتساءلون عن سبب مكوثه في ذلك المكان القذر. عاودها السؤال الآن وهي تبحث له عن مبرر يجعله يتمرغ في الوحل كتعبير عن شعوره بالشقاء. كان ما يشدها إليه المعنى الكامن في عينيه السوداوين الفاحمتين فرغم غموضهما فقد كانتا تتقدان بالتحدي الكامن في العمق.

ـ وماذا يفعل" محمود" الآن؟

ـ "محمود" لقد أصبح أستاذ فلسفة لانراه إلا صيفا يجوب الحقول والطرق الجبلية، يصطاد العصافير ليملأ بها جرابه ثم يلقيها في المزبلة. لقد أتلفت الفلفسة عقله !

ـ الفلسفة يا عمتي !

ـ نعم الفلسفة أو الجنون !..

أخبرتها عمتها أنه سيقضي بقية نهاره في غرفة بناها في أعلى مكان في الضيعة ليؤلف الكتب ثم يتركها في الخزانة ولا يترك أحد يطلع عليها، ذلك ما رددته الألسن.. غرفة أشبه بالكهف بها تحف غريبة بمثابة أشكال لحيوانات وزواحف وأصنام صغيرة وبنادق قديمة "ماسوراتها ملوثة تكسوها طبقات من الشحوم والزيوت غير مشحونة بالعيارات النارية" ومرآة كبيرة وفراش حديدي وبعض الأواني القديمة المتفحمة وغاز صغير الحجم وبراد الشاي وبعض العلب وبرميل الماء...

 

كادت عمتها تسترسل في التفاصيل لولا قدوم "محمود"، ابتسم بلا مبالاة، لم تتغير ابتسامته المعهودة بل لم تتغير صورته عن قبل: شاب معتدل القامة، قمحي اللون، جذاب الملامح، يرتدي قميصا أبيض اللون وسروال جينز، ولكن حركة يده التي كانت ترفع فوهة البندقية والجراب المعلق على كتفه والملوث بدماء العصافير ما بدد شعورها بالألفة نحوه.

 

طفقت تتأمل الصورة المرسومة على جرابه بقلم رصاص قان: فتاة ممزقة الثياب وقد تدلى شعرها المجعد على وجهها وكتفيها، كانت حافية القدمين، ترمق الأفق بفتنة وقد اتكأت على جذع شجرة لكن السماء كانت ملبدة بالسحب، كسيرة الخاطر، تبحث عن لحظات صفاء !

 

ظلت "عهد" تدقق النظر في الصورة وهي تخمن في قرارة نفسها أن "محمود" قد وصم عليها قانون طقسه، فتلبدت سحب سماءها..

قالت لعمتها بصوت خافت:" إنه يرى الفتاة ضحية كما العصفور الصريع !"

لم تبد على عمتها علامات الفهم، لكنها غمزت وتمتمت: " إنه لم يتزوج بعد ! "

كان"محمود" يسترق السمع والنظر إليهما فامتدت يده إلى كتف "عهد" ليطلب منها الكف عن الثرثرة فالصورة لا تحتمل الدعابة !

 استفسرت بتحد:

 

ـ ولكن ما هو المعنى من تصرفاتك عدا قتل العصافير البريئة ورسم الفتاة بصورة مزرية؟

 

ـ كيف نبحث عن المعنى في عالم لا يتسع إلا للموت؟ كل واحد منا قابل لمحق الآخر مهما حلق وعلا !

 

عكس كلامه المتوتر قلقه المفرط الذي ارتسم على تقاطيع جبينه وارتعاش أصابعه وهو ينحني على الأرض ويلتقط العصفور الصريع ويضعه في جرابه، في تلك اللحظة قدم زوج عمتها ليدعوه إلى الكف عن الصيد والاستراحة من وهج القيلولة، فصبت له عمتها كأس الشاي.. عمتها وهي تنحني لم تشذ عن صورتها المألوفة، فحركاتها موجهة نحو الأرض وهي تطبخ أوتخيط أو تنثر الحبوب للدواجن أو تطعم الخرفان أو تحلب البقرات، نظراتها أيضا منكوسة نحو الأرض، أما زوج عمتها فقد استرسل في الحديث إثر وضعه لكمية صغيرة من النفة في فمه وإغلاقه العلبة النحاسية المدورة بإحكام ووضعها في جيب قميصه، ثم قال:

 

ـ " لقد ولت أيام الهدوء وصارت ضيعاتنا مرتعا للذئاب السائبة، إن هؤلاء الصعاليك الذين يسرقون وينهبون محصولنا هم من سكان الجبل المجاور ".

 

فرد" محمود" وهويرمق "عهد" بشراسة: ـ" لكن هذا الوضع بحاجة إلى قبضتنا وإلا سيزداد الأمر سوءا، ومن يدري أي مصير ينتظرنا؟ ! "

 

نظرة "محمود" الشرسة أعادت إلى ذهن "عهد" واقعة بعيدة كانت قد اختفت تماما.. كان "محمود" طفلا عاطفيا، يتبادل النظرات مع قريبته الطفلة "مليكة" عندما كانوا يلعبون في غابة "الكالاتوس"، تبتعد "مليكة" وتنزوي تحت الشجرة العملاقة فيتبعها "محمود"، كانت تقيم معه حوارا سريا لكي يختليا ولم يكن يفوت الأمر.

 

يجلس قربها فتبتسم، يهرول الأطفال نحوهما ويغنون ببلاهة بصوت عال:" النو تصب والعروسة ماتت"، ولكن أين هي "مليكة" الآن؟ هل أضحت عظامها رميما؟. لقد تفطن أخوها الفظ وهو يرعى القطيع لما يحصل فأشبعها ضربا، وألقى بها في الزريبة، وأغلق الباب بالقفل، فتناولت مبيد الحشرات لترحل مخلفة حيرة في نفوس الأطفال الذين لم يعرفوا أن الانتحار خلاص من الشقاء. فهل كبرت "مليكة" قبل الأوان؟ يا للطبيعة ! إنها قوة فجة مدمرة، تتسلل ضراوتها إلى النفوس خلسة وهي تغري الناظر لجمالها بالحفر في أعماقها والعناية بها لينال خيراتها..

 

رأت "عهد" غرابا، انقض الغراب على فرخ وحلق عاليا. صرخت، تلت الصرخة طلقة نارية أوقعت الغراب. لم تتعد المسافة بين الصرخة والطلقة لحظة واحدة، إذ ذاك أبصرت الغراب الضخم يتخبط صريعا، أما الفرخ المرتعش فلم يعد يقوى على المشي، حملته بين أحضانها تربت عليه، فنكس رأسه، وانكمش، أما "محمود" فقد أسرع نحو الغراب ووضعه في جرابه قائلا بصوت منتش:

 

 ـ سأكف عن الصيد اليوم لقد منيت بغراب لن يوارى التراب بل سألقيه في المزبلة ليضحى جثة متعفنة !!

 

لم تعد "عهد" تبالي سوى بوقع الصدمة. تداخلت دوافع القتل مع سرعة الحركة، وتواترت الأسئلة على ايقاع صرخة كانت كامنة في القاع. لقد اقترفت خطيئة الهرب سابقا، وها هي تكرر فعلتها، تتظاهر بالقيام بجولة قرب القناة تاركة المتاهة تحضن رموزها أمواتا وأحياء !

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1265 الاربعاء 23/12/2009)

 

 

 

في نصوص اليوم