نصوص أدبية

تحويل وجهة

zohor alarabiالآن يحق لي أن أستعدّ للموعد، كلّ من حولي راضٍ ومنشرح، لا ينقصهم شيء سيخلدون للنّوم ويغرقون في أحلامهم الورديّة، وسأنكفئ اليّ أخيرا، وكالعادة كنتُ منشغلة باللّمسات الأخيرة التي لابّدّ منها يوميّا ليطمئنّ قلبي على صحّة كلّ من حولي، هذا المطبخ يجب أن أعقّمه، لأقطع الطّريق عن أسراب الهواجس التي يمكن أن تعكّر خلوتي ومتعة سفري، يجب أن أسرع لم يبق إلاّ أن أرشّ كلّ الأركان بالمبيد الحشري احتياطا حتّى أقطع نسل الصّراصير الخبيثة إن وُجدت وأشفي غليلي من هذا النّاموس الذي لم نألفه، هذا النّاموس الذي زحف كالجراد الجائع بعد الثّورة، ومعركتي معه مستمرّة فقد هزمته في المطبخ بإصراري، فالإصرار يصنع المعجزات على رأي أمّي "الدوام ينقب الرّخام".. ماذا بقي لكي أتحرّر وأكون لي كليّا؟؟ أظنّ أن لا شيء أهملته يمكن أن يفسد عليّ شغف اللّقاء، بسرعة أحكمت إغلاق باب المطبخ، وأخذت مكاني المعتاد ..

أين النظّارات يا ترى؟ إنّها المعاناة اليوميّة، نعم من مساوئي أنّني دائمة البحث عن هذه النّظّارات، وهذا الهاتف المحمول، فكلّ هذه الأجزاء الدّخيلة لا أُلفة لي معها، مثلها مثل المساحيق والمجوهرات، كلّما اضطررت لها، تسرق الكثير من طبيعتي الخام، وتشوّه تلقائيّتي، ولا أرتاح الاّ حين أنعتق منها،

أخيرا ..... وجدتها هذه النّظارات المقّدّرة عليّ ...

هكذا، لم يعد هناك ما يحول بيني وبين لقائي المقدّس ..ضوء خافت، ركن هادئ، مكان وثير، وأم كلثوم تعانق الصّدى حائرة "أغدا القاك يا خوف فؤادي من غدي" عجيب ما هذه المصادفة حتّى "الستّ" تشاركني شغفي بهذا اللّقاء! ألقيت بكلّي على الأريكة، وعبّأت صدري ببخور الشّجن المعتاد، وحلّقت مع كلمات الأغنية، غبت لست أدري كم من الوقت، استسلمت لأمواج الايّام بكلّ تجلّياتها هوجاء، هادئة حالمة، دافئة، باردة، وسافرت في مراكب الذّكرى الى أبعد، أبعد نقطة في أوطان الوجع، الفرح، الإنكسارات، الأسى، الحبّ، والعشق.... نعم العشق، جبّار هو العشق، ونجوم هم العشّاق، يزيد توهّجهم كلّما زحفت عتمة النسيان، واغتالت ضوء قلوبهم، وهم بدورهم يغتالون السّكون بهمسهم الشّهد، ويذيبون جليد الهجر بحمّى الشّوق، وألسنة الحنين، كم جبّار هذا العشق! هو نار ...نار تتربّص بالعشّاق، فكم من عاشق لقي حتفه، وكم من عاشق في طريقه للهلاك! لكن لا النّار هدأت، ولا تاب العشّاق، فعلا جبّار أنت ايّها العشق! مازالت أمّ كلثوم تلحّ في السّؤال، وتجرح بصوتها شرنقة السّكون"أغدا ألقاك" "أغدا ألقاك" ولست أدري، هل كنتُ التي تسأل أم كانت هي؟ أّيّة مصادفة هذه يا "ست"! كم عصفتِ بكلّ ما جئتُ من أجله، فقد كنتُ أروم لقاءً في سماء القصيد، أسامر فيه أطيافا رحلت، أفترش فيه غيمة مسافرة، أناجي فيه بدرا لم يخلف أبدا وعده، بدرا لم يشرّد فراخ أحلامي وليدة، ولم يهب عشّنا لأيادي الرّيح ترجّ أوتاده

كنتُ أهيّء للقاء في خدر عشتار، هناك بين الحدائق المعلّقة، أو في وادي عبقر علّني أصادف قرينيَ المفقود، كنتُ على موعد كابوسيّ في حضن كافكا، وهربا على ظهر"غزالة" لوركا ...ولم يحدث أن خلفتُ موعدي مع نجوم لم تخنّي في العراء، فمع كلّ لقاء، أعودُ إليّ، أتلبّس بهم حدّ التجلّي في أرواحهم التي تسكن قصائدهم، وأهيم نبضات طليقة في أفق أحاسيسهم الشّفيفة، وأصطلي بهجير بوحهم الحارق، وأسكن براكينهم الثّائرة، وأعاقر دمعة حرّى مع الخنساء شقيقة الحرف الثّاكل ...

فلمَ قطعتِ عنّي الطّريق "يا ست" وحوّلت وجهتي قسرا، وأنزلتني من سابع سماء لتلقي بي في زبد السّؤال الخانق

"أغدا ألقاك يا خوفَ فؤادي من غدي"!؟

 

زهور العربي

 

في نصوص اليوم