نصوص أدبية

هلوسات ما بعد الموت الأول

abdulhusan shaaban ارتدى ملابسه وتأنّق ووضع عطره المفضل Channel blue وكأنه ذاهب إلى موعد غرامي أو لقاء حميم أو لإلقاء محاضرة أو لتوقيع كتاب أو للقيام بنزهة بريئة على البحر.  سار بثقة عالية وإنْ كان يتخلّلها أحياناً بعض قلق طبيعي، وحزن يتسلل بين حين وآخر.

وصل مستشفى CMC(كليمنصو) وكأنه يدخل إلى فندق مثلما اعتاد طوال حياته المزدحمة بالأسفار. سجّل دخوله، مثلما هو دائماً يملأ استمارة وصوله إلى الفندق في الاستقبال. إنتظر كما ينتظر عادة باستمرار في لوبي الاستقبال، لحين أن تكون الغرفة جاهزة مع المستلزمات الضرورية. صعد إلى الطابق السادس، وكان رقم غرفته 607  ألقى نظرة على البحر من نافذتها، كان بعيداً، لكن منظره يبعث شيئاً من التفاؤل ويبدّد جزءًا من القلق.

فوجئ بأن المستشفى يطلب عدّة قناني من الدم تحضيراً لعملية الغد الجراحية 22/5/2015 . فصيلة دمه B- ويمكنها أخذ الدم من B أو O وهي غير متوفرة في المستشفى. أجرى استنفاراً وإنْ لم يخل من انزعاجات وتوتّرات استغرقت بضعة ساعات، حتى حصل على قنينتين. كاد يقرّر إلغاء العملية .

حضر الدكتور عمر حموي طبيبه المعالج ثم جاء الدكتور إيلي شماّس (وهو عضو في مجلس أصدقاء جامعة اللاّعنف) وأعقبهما الدكتور فراس بيطار من صيدا وهو جرّاح مساعد للبروفسور جبرين الخوري، الذي ستتم العملية تحت إشرافه، وهو من أشهر المختصين بهذا النوع من العمليات، حيث استكمل بحوث للدكتور المصري الشهير مجدي يعقوب في لندن. كان الرأي قد استقرّ بعد أن عجز في توفير الدم، على طلب مساعدة المستشفى بتأمين قنينتين أخريتين. مازح الدكتور البيطار بسؤاله كيف تسمح لنفسك أن تعبث بالقلوب؟ وأردف قائلاً: رفقاً بها وبساكنيها وحفظاً لأسرارها، وهو ما كتبه له في إهداء كتابه له “أغصان الكرمة- المسيحيون العرب”.

القنينتان اللتان تم تأمينهما كانت الأولى من الجامعة الأمريكية والثانية من مستشفى الرسول الأعظم، وعمل أحد معارفه  جاهداً لتأمين متبرّعين جاءوا إلى المستشفى، ولكن كانت هناك أسباب فنية حالت دون التمكّن من الاستفادة من استعدادهم للتبرّع بالدم، وعاد الثلاثة المتبرّعون من حيث أتوا. بنك الدم وكذلك مركز آخر في جونيه والصليب الأحمر لم يتمكّنوا من تأمين المستلزمات الضرورية للحصول على قناني دم. علّق ساخراً، تصوّروا كم أن الدم رخيص في عالمنا  العربي، وهو يُسال كلّ يوم بعرض جداول ووسع سواقي ليشكّل بحيرات أو أنهار، لكننا حين نريد شراء قنينتين من الدم للعلاج فلا نفلح، على الرغم من المساعي التي بذلناها واستنفارنا الكثير من معارفنا؟.

بلغت الساعة العاشرة مساءً يوم   21/5/2015 .  وقد حسم الأمر الطبيب بيطار حين أكد إن أحد طلاّبه سيحضر ويتبرّع، وإن القنينة الأخرى سdؤمّنها المستشفى. جارته اللبنانية أو هي كانت في زيارة لإحدى المريضات، جاءت إلى غرفته، وبعد أن عرفت الحالة، خاطبت الطبيب “إنني لبنانية ولكنني أكره اللبنانيين”، ما هذا الذي يجري ؟ قال مع نفسه لا يرى أي منّا إيجابيات ما عنده، فحالنا نحن العراقيين أسوأ بكثير. في الصباح اتصلت به لتسأل هل تمّ تأمين ما يكفي للعملية من قناني دم. أجابها حيدر أن المستشفى سيتكفّل بالباقي.

حلّ الصباح وكان نومه أفضل من النوم الاعتيادي، استيقظ مرحاً وبمزاج عال. ربما شَعَر إنه ذاهب إلى حفلة، قد يكون فيها شيء من التنكّر أو بعضها تنكّري، لكنها حفلة لا أحد يعلم كيف ستنتهي؟ ولكنها ستبدأ (بعد ظهر يوم  22/5/2015). الجراح البروفسور جبرين خوري وصل في الصباح الباكر من بروكسل (بلجيكا)، ونام ساعتين كما أخبره وجاء بنشاط وحيوية، أهدى له كتابه الجديد الذي أحضر نسخة له، ومازحه بالقول: أتعرف يا دكتور أنني كنت طوال حياتي ضد الدكتاتوريات بجميع أشكالها وأنواعها، ولم أرضخ لأي منها؟ لكنني الآن بيد دكتاتورية الأطباء، وأرجو أن تكون رحيمة، صحيح إنها دكتاتورية ولكنها لا تستوجب مقاومتها أو تحدّيها، بل الامتثال لأوامرها والالتزام بقراراتها طوعاً وليس قسراً هذه المرّة. ضحك الدكتور جبرين كثيراً، ومعه الدكتور بيطار الذي سيرافقه في إجراء العملية الجراحية (فتح قلبه الذي ظلّ يستقبل الأحبّة طول العمر وبلا انقطاع). خشيته كانت أن تتصدّع الذكريات أو أن تختفي، مع إن كل شيء محتمل بما فيه غيابه الأبدي، لكن الحياة تبقى جميلة، وهي أروع ما منحتنا إيّاه الطبيعة، ولذلك ينبغي الحفاظ عليها بأمانة وشرف ومحبّة ومتعة.

لا زال ينتظر لحظة الحسم، وهي لحظة طويلة بطول دهر. مضت الساعات برتابة وبطء أحياناً، من حلاقة الشعر في الصدر وفي الجسم إلى الدواء الذي أخذه في مساء أمس لتفريغ معدته، حيث أقام في الحمام طوال الليل، إلى قياس الضغط وتحليل الدم وتخطيط القلب وعمل الأشعة. حاول أن يطرد قلقه ويتحدّى المجهول، فحلق ذقنه وتعطّر، وبدأ بقراءة الصحف، كان لديهم جريدة السفير وجريدة الأخبار، قرأ لعباس بيضون في الشأن الثقافي ولنصري الصايغ وكمال خلف الطويل.

عنوان مادة بيضون ” الاعتراف” وهو يتحدث عن المبدعين، لاسيّما عن حياتهم الشخصية وليس فنّهم وإبداعهم. المهم المغامرة البشرية بكل ما فيها من رفعة وسفالة ودراماتيكية وبطولة. أما مقالة الصايغ فهي عن التكفير والتحرير، وكانت مقالة الطويل عن المقاومة والإرهاب والعروبة. وكان طوال اليومين الماضيين يتابع أخبار هجوم داعش واحتلالها تدمر، وسعيها لتدمير آثارها المتبقية والتي مضى عليها أكثر من 2000 عام، مذكّرة إيّانا بزنوبيا ملكة تدمر.

كانت محاولة اغتيال الحضارة واجتثاث التاريخ قد شغلته، تُرى لماذا ولمصلحة من؟ أهي مهمة داعشية لحساب جهات  خارجية ؟ ألا تكون الصهيونية المستفيد منها بامتياز؟ وإلاّ تحت أي منهج أو مسوّغ يتمّ تدمير متحف مدينة الموصل (أم الربيعين) والعديد من جوامعها وكنائسها وأديرتها وأماكنها المقدسة، مثلما يتم تدمير النمرود العظيم ومدينة الحضر الخالدة، ويتم القضاء على الثور المجنّح الذي تم نحره بتلك الطريقة الهمجية، مثلما يتم تشويه تاريخ فلسطين والسعي لتغيير معالم مدينة القدس العربية وتزوير الأحداث والوقائع التاريخية.

قرأ في الأخبار عن الروائي المجري لاسلوكراسنا هوركاي والذي يسمّى كافكا المجري، وتذكّر كيف قرأ كافكا في الستينيات والسبعينيات على دفعات، وكيف قرأه مرّة واحدة مؤخراً وبرؤية جديدة شملت ثلاث أجزاء لأعماله مع مقدمتين. قرأ حواراً مع الروائي المصري بهاء طاهر وقرأ مقالة لصديقه صالح علماني بعنوان ” سيرة أخرى للوركا” وتذكّر أيام الشام الحبيبة وترجماته للأدب المكتوب بالإسبانية، ولاسيّما إطلاعنا على أدب أمريكا اللاتينية.

خلال الأسبوعين الأخيرين حاول أن يُمعن في النظر بكل ما حوله لدرجة امتلاء عينيه بمشاهد الأماكن التي عرفها والصور التي اختزنها في ذهنه، والوجوه التي أحبّها، سواء خلال زيارته الأخيرة إلى لندن للاستشارة الطبيّة، أو في بيروت الثقافة والجمال والعناد، من أزقتها إلى بحرها الجميل ونسائها وخمورها. إستذكر أجمل الأيام وأكثرها عبقاً في حياته، سواء في براغ الذهبية أو في دمشق الأليفة، وقبل ذلك استعاد بغداد الحبيبة بكل جبروتها وغناها وتنوّعها، والنجف الغالية بكل إرثها وعلمها وأدبها، مثلما قفزت إلى ذهنه، أسواق الكتب والمكتبات، حيثما كان يتردّد عليها .

كان ذلك آخر ما يستذكره حتى فاق بعد يومين أو أكثر، وهو مضغوط من كل مكان ومُثقلٌ بالنباريش والأجهزة، لكنه أحسّ بشيء من الدفء، على الرغم من أن ذهنه مشتت ولا يستجمع شيء. لم تكن تلك إذاً، سوى هلوسات ما بعد الموت الذي أحسّ به ولامسه وتلاوى معه، حيث ظلّ هذا الذئب الخبيث يترصّده على مدى عقود من السنين بطريقة ماكرة ومراوغة أحياناً، وبالمجابهة والشراسة في أحيان أخرى.

شَعَر أنه أفلت من هذا الكمين الجديد، فكان أن سمع ورأى وتحاور مع ذلك الجهم العبوس الذي يجثم على الأنفاس ويقبض الأرواح، وهو يتحدّث إليه تارة بصوت عال وبضجيج وحشرجات، وأحياناً برفع سبباته بوجهه محذّراً، وتارة أخرى بصوت ناعم وخبيث وشديد اللؤم وكثير المراوغة، محاولاً إقناعه بأن لكل شيء نهاية وتلك سنّة الحياة، لكن حواره معه أشعره بأن النهاية لم يحن وقتها، ولكنها ستأتي دون شك . وكان الجواهري يردّد: يريد له (أي الموت) حجّة حتى يوكّر على رأسي.

غاب قليلاً، ثم صحا ثم غاب، ثم صحا مرّات أخرى وعلى لسانه كانت قصيدة مظفر النواب تذهب وتأتي:

روحي ..

ولا تِكْـَلها اشبيج، وانته الماي:

مكْـَطوعه

مثل خيط السمج روحي.

حلاوة ليل محروكَه حركـَ روحي.

وعتبها اهواي ما يخلص عتب روحي.

ولا مرّيت ، ولا نِشديت ، ولا حنّيت.

وكـَالولي عليك اهواي يا ثلج اللّي ما وجيت.

فجأة وصله صوت من بعيد وعلى نحو متقطّع لم يستطع أن يميّزه أو يفهم كنهه،

“وقال لي بين النطق والصمت

برزخٌ

فيه قبر العقل

وفيه قبور الأشياء “

حين جاء الطبيب مهنّئاً للمرّة الثالثة لم يشعر بمجيئه، حيث كان في المرّة الأولى وربما الثانية في هلوسة وهذيان مستمرّين. حاول أن يستجمع حواسه ليسأله: إنْ قرأ قصة موت معلن لغارثيا ماركيز ، أجابه نعم. أراد أن يقول له: ستقرأ قصة موت مؤجل! أو هلوسات ما بعد الموت الأول، لكنه غاب مرّة أخرى ليستفيق محاولاً استعادة تفاصيل تلك الساعات والأيام لكنه لم يتمكّن.

 

عبد الحسين شعبان

 

في نصوص اليوم